لم تنتهي الحرب الا برصاصة حفرت لها مكانا في ساق وجدي واستقرت هناك ، فسقط كطفل يهوي الى احضان امه الارض ، يشكو لها حرارة الرصاصة ويعاتبها بدون كلام حتى غشي عليه ولم يستيقظ الا على صوت سلام الذي حمله على ظهره من وسط ارض الحرب وذهب به الى بيته الريفي القديم الذي يسكن فيه هو وزوجته نور وابنته سندس التي لم تكمل السنة الخامسة من عمرها ..
سلام : ( الحمد الله على سلامتك يا بطل ، الحمد لله گدرنا نطلع الرصاصة من رجلك ، صحة وعافية ان شاء الله)
كان اول لقاء بين وجدي وسلام هو عند فترة الاستراحة بعد اكمال التدريبات ، حيث كان سلام ايضا في صفوف الجيش ، فأصبحت بينهم صداقة قوية بل اخوة ، حتى ذلك اليوم الذي حدث فيه سلام وجدي قائلا :
( بعد ما اتحمل كل هذا العذاب راح افكر بطريقة اهرب بيها ، ما اريد اضيع عمري هنا ...)
لم يكمل سلام حديثه لأن وجدي قفز بسرعة مثل نسر ينقض على فريسته ووضع كفه على فمه بأحكام ، عندما سمع صوت خفيف لأقدام تتجه نحوهما ، ولم يخطئ ظنه بعد ما دُفع الباب ودخل ايمن وبيديه غدائهم ، خبز وتمر وقطعة دجاجة ، كان قد سرقها من غداء احد الضباط ...
بعد انتهاء وجبة الغداء خرج سلام ليتمشى قليلا قبل موعد التدريب فخرج وجدي خلفه مباشرة وراقبه من بعيد وهو يتكئ على شجرة كسرت الحرب اغصانها وجعلتها عقيما ، فأضحت جذع قديم متهالك يروي لك مرارة الحروب ...
وجدي: سلام انت مخبل ، صدك تريد تهرب من الجيش.
سلام : اي صدك ...تعبت اريد اشوف حياتي هنا ما ادري يا ساعة اموت ، اذا مو من الحرب من هاي التعذيبات مو التدريبات .
وجدي : بس انت تعرف شنو عقوبة الي يهرب من الجيش.
سلام : الاعدام مو... وشنو الفرق هنا هم راح اموت ، بس موت بطيء ، يعني بكل الحالتين راح نموت...لم يستطع سلام ان يكمل خطته فنيران الحرب اشتعلت وعلت الاصوات واكتظت الساحة بالجيش .. فكان بين خيارين اما ان يموت جباناً ، وهو يهرب فتصيبه من فتات الحرب رصاصة ، او يموت شجاعاً ، وهو يقاتل عن سبيل وطنه واهله ، وقد اختار ذلك قائلا : ( اكيد الوطن يستاهل).
اشتعلت .. تأزمت .. احترقت الاجساد ..تطايرت.. تناثرت كالفتيت ، ثم انسدلت ستائر الحرب ، وكان هناك صوت ضعيف هائم ركض سلام نحوه فوجده وجدي ملقى على الارض محتضنها بلهفة ، وقدمه تنزف فحمله على ظهره وذهب به الى بيته في وسط القرية ، جهزت نور له فراش مرتب واعدت الحساء ، ثم راح سلام يحاول ان يسحب الرصاصة من ساق وجدي بالطريقة التي علمتها له جدته ، وفعلاً نجح في ذلك ولم يتسبب في أي أذى لوجدي ...بعد ان شفيت ساق وجدي واكمل التدريبات ، عاد الى محلته المكان الذي ولد وترعرع فيه ، البقعة التي تسكن فيها سعاد الذي لم تمر ثانية الا وذكرها ، فكانت صدمته كبيرة حينما علم ان الشيخ اديب قد تقدم الى سعاد ، لكنها رفضت بحكم ان الشيخ كان اكبر منها وهي تعتبره مثل ابيها او جدها ، لكن لم تقل ذلك امامه لكي لا تجرح مشاعره ، فقد اكتفت بالرفض فقط .
لا تزال هناك فرصة ليبوح وجدي فيها عن حبه لسعاد ، فأخذ يقف امام المرآة ويتدرب على قول ذلك ، لكن اسئلة كثيرة تجول في خاطره ، ماذا لو رفضت وقالت لي كما قالت للشيخ اديب : ( انا اسفة لا استطيع الزواج منك ) .
عندها ماذا سيكون موقفي ، كيف استقبل ذلك الرفض ، سأتحطم تماما سيتوقف قلبي عن نبضه ، ويموت بداخلي كل شيء ، كيف اواجه العالم بعد ذلك ، لا لن افعل ذلك ، لكن انا احبها .. لم احب قبلها ولن احب احداً غيرها ، ماذا افعل انا تائه.. حائر.
هدئ لحظة ، صمت ، اغمض عينيه ، ثم صرخ سوف افعلها ، سأقول لها : ( سعاد انا احبك .. انا اريد ان اتزوجك)
ارتدى قميصه الازرق وبنطاله وسترة زرقاء بزرقة اعمق تدريجياً من لون القميص ، وتعطر ، ثم قرر ان يذهب الى سعاد .
كانت سعاد كعادتها تغزل الصوف ، رآها وقد اصبحت اكثر جمالا وانوثة ، خاصة وهي منهمكة في عملها .
وجدي : سعاد اريد اكول شي بس ...
سعاد : بس شنو ، گول اسمعك.
اخرج وجدي من جيب بنطاله صورة قديمة متربة بتراب الحرب ، كانت صورة لسعاد في يوم ميلادها العشرون ، ربما كانت هذه اجمل صورها ، لأنها كانت فرحة جداً.
سعاد: نظرة تعجب ... منين حصلت هاي الصورة .
وجدي: مو مهم هسه منين حصلتها وشلون ، بس سعاد اني...
سعاد : تحبني مو ، حسيت بهذا الشي بس ردتك انت تبادر ، وتفصح عن مشاعرك ، اني هم احبك وجنت احسب ثانية ثانية ترجع من الحرب واسمعها منك.
كان هذا الكلام سبباً في تسارع نبضات قلبه ، فأغمض عينيه ، واخذ يقول بصوت خافت تملؤه السعادة: ( هذه النبضات المتسارعة ، اتذكرها جيداً ، لقد تكررت في حياتي مرتين ، مرة عندما اشتدت نيران الحرب وخفت ان تحرمني رصاصة تمزق احشائي من رؤيتك ، واليوم خوفا ان اصارحك بحبي وترفضين عندها سأموت فورا ، سأصبح عدم ، سأنتهي ، سأتغلغل في داخل الارض وامتزج مع ترابها ، سأكون رماداً واتناثر في الهواء ، المهم سوف اختفي ... اختفي تماماً.
أنت تقرأ
لم تكن الا سرابا
Short Storyرواية مزيج من الواقعية والخيال ، من الحب والحرب والخذلان والفقدان والانكسار لتنتج هذه القصة اتمنى لكم قراءة ممتعة ♥️