وخـلتُ وقد طارت الذكريات بـروحي إلـى عـالمٍ أرفـع
وآمـنتُ إيـمان مـن لا يرى سوى العقل في الشكِّ من مَرْجِعِ
إن مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) ليس مقتل شخصٍ .. إنه مقتل شهيد الحرية، مقتل إنسانٍ مقتنع اقتناعاً عميقاً بالحرية، أجرى خياره بين العبودية والحرية، فقد كان على يقين بأن العبودية لا تتفق مع الحرية، وإنها سوف تنتصر عاجلاً أم آجلاً، فإنه قد تنبأ في لحظاته الأخيرة خراباً كبيراً لأولئك الذين قرروا قتله وأسدى إليهم النصح قبل وبعد خروجه عليهم وأن يعملوا على أن يصبحوا أقرب ما يمكن إلى الحرية والتحرر والكمال .. أليس هو القائل:((الناس عبيد الدنيا)). لقد ترك مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) أصداءً تثير الدهشة في أذهان الأجيال المتعاقبة، وحفر مقتله إلى الأبد في ذاكرة الأجيال ذكرى شخصيته المدهشة، وهكذا نشأ الفكر الحسيني الذي كان يهدف إلى إعادة الاعتبار للإنسان الباحث عن الحرية والعدالة في أعين معاصريه (خصومه،مريدوه) وفي أعين الأجيال القادمة .
يبدو أن خروج الإمام الحسين(عليه السلام) وكأنه محاولة للإجابة عن سؤال الحرية من غير تحديد ...
التأريخ شاهدٌ أعمى، لأنه لا يرى بعينيه وإنما بعيون الحاضر ...
التأريخ لا يرانا إلا كما نرى أنفسنا ومستقبلنا معاً، ذاك لأن نظرتنا إليه مسكونة دائماً بما يتعدّاه، وكأن هذا التأريخ المنقوش بلغاتٍ دموية لا يفتح ألغازه إلا لقراءة واعية خاصة به، قراءة تتجاوز الحدث نحو الخيارات الأخرى المتعلقة بسؤال الحرية ذاته، لذلك أخذت عملية الخروج أبعاداً أعمق من أن يحيط بها السرد الانتقائي ـ التقليدي للتأريخ، ولأن عملية الخروج هي ميدان ممارسة الوعي الحاد بأزمة العالم من جهة والمستقبل من الجهة الثانية، وإذا كانت نقطة الانطلاق أكثر قلقاً فلأن سؤال الحرية معلق بين فضاءين : روحي وفكري، وهو سؤال مثقل بالرغبات الروحية والتضحيات الكبيرة والمعايير الأخلاقية النادرة كما أن اختيار هذا الخروج هو رمز لتكثيف مفهوم التضحية في مراحل بدايات الاتصال الروحي الكبير التي تدشَّنه الأفكار الباحثة عن الحقيقة الناصعة والعدل المطلق رغم انسداد الأفق وإرهاصاته المربكة في تلك العصور .
لنسلّم أن الإمام الحسين(عليه السلام) قد قرر، انطلاقاً من إيمانه بالحرية، أن يضحي بنفسه لكي يضمن انتصار قوانين العدل والحق الإلهية وعدم المساس بها، ولكن التأريخ الأعمى الذي أشرنا إليه آنفاً لا يزول من الوجود ورغم ذلك كان الإمام الحسين( عليه السلام) يجهر بالحق ويعلن أنه لن يقلع عنه حتى تحت طائلة السيوف وعلى غرار الرموز الأسطورية فإنه يستجير بالله وحده وبإيمانه وليس بالقوانين السلطوية السائدة آنذاك ، أنه يؤمن أن من الأفضل طاعة الحق على طاعة الحاكم، وهكذا يكون قد اتبع حالتين .. مختاراً في الحالة الأولى أمام الحق والالتزام بالقوانين الإلهية، وفي الحالة الثانية رافضاً للظلم والجور والقوانين البشرية الظالمة .. أليس ذلك نادراً ؟
لقد كان الإمام الحسين ( عليه السلام) مدركاً إلى حد اليقين إن خروجه لا يضمن له السلامة أبداً، ويعرف جيداً ،أنه يتقدم نحو الموت، وانطلاقاً من حرصه على الحفاظ على مفهومه الخاص للحرية، يتخذ القرار الصارم، رافضاً العبودية ومصّرحاً بمنتهى الوضوح .. يجب الإذعان لله أكثر من الإذعان للحاكم، فإنه بهذا يقبل الموت على التخلي عن سؤال الحرية، غير أن سؤالاً آخر يطرح حينئذ : ألا تشكّل مثل هذه العملية دعوة للمغامرة أو شكلاً لها ؟ يمكن أن نكون واثقين أن الإمام الحسين(عليه السلام) كان قد أجاب على مثل هكذا السؤال بما يلي :((كونوا أحراراً في دنياكم)) بمعنى أن نكون ممن يحس بوجوده وإنسانيته فلا يستعبد نفسه لغيره والإنسان الذي يحس بقيمة نفسه لا يمكن أن يسقطها بأي حال من الأحوال، وهذا ما عبر عنه أبيه الإمام علي ( عليه السلام) في بعض وصايا، فقد كان يقول دائماً :
((أكرم نفسك عن كل دنيئة))، والشيء الدنيء كما هو معروف ما لا يمثل قيمة كبيرة في الحياة من شهوات النفس وإسقاطاتها وما شابه .
لقد أعطانا الإمام الحسين(عليه السلام) الذي كان يعلم أن المسألة الجوهرية في الوجود هي الحريةـ درساً كبيراً مفاده: إن الإنسان يستطيع في كل الظروف بل ويجب عليه اختيار الحرية مثلما أعطيت له إمكانية إثبات أن ما يعمله من أجلها هو ممكن التحقيق، وإثبات ذلك بمثاله هو نفسه .. لذلك اختار الموت .. أعني الخروج .. وأعني البحث عن الحرية وسؤالها الأزلي، إنها كينونة مأساوية حقاً تلك التي يتواجه فيها الحق والباطل، الجمال والقبح، وليس غريباً أن يجري الاستذكار والتنويه خلال الحوارات، الندوات، الكتابات، والمناسبات بتعاليم وتجربة الحسين وشخصيته، ولا شيء في ذلك يدعو إلى العجب، فإن المسائل التي كانت تشغل كثيراً بال الإمام الحسين(عليه السلام) وتقلقه وتدعوه للخروج في كل حين لا تزال مسائل راهنة، ولذلك فإن الإمام الحسين ( عليه السلام) كان وبقي وسيبقى حراً وخالداً .
.