(٣) فستاني

58 6 0
                                    

.. فستاني ..


لن تعترف بخطأ اختيارها، لن تعترف بذنب عشقها، لن تعترف بخسارتها، لن تعلن استسلامها.
هكذا هي خوخة، يجب أن تظهر أمام الجميع بأنها لا تبالي، فما هو إلا ثوب قديم تنازلت عنه، إنه لن يتعدى ذلك رغم عشقها له، فلا عشق لمن لا يستحق.
هكذا قالتها لنفسها؛ فلها قاموس من عالم خاص، يُعرّف كل المعاني حولها، واليوم يوم الانتصار وليس الهزيمة.
بدلت منامتها القطنية بفستان جديد أبيض اللون تتخلله زهرة دوار الشمس الزاهية، تركت شعرها المموج منسدلًا؛ ليكسبها مظهر متوهج منطلق توحى بالحرية والبهجة.
رفعت جانب شعرها بدبوس كزهرة صغيرة من دوار شمس لتكتمل بهذا أناقتها.
خرجت لوالدتها بحماس تُلقي بانهزام قلبها عرض الحائط؛ فاليوم لديها مقابلة عمل، والدنيا لن تقف بعتبة -الجحش-، إطلالتها المبهجة وابتسامتها العريضة، جعلت والدتها تتمتم بآيات من القرآن تحميها من الحسد:
-بسم الله ما شاء الله، الفستان حياكل منك حته.
قبّلتها خوخة بمحبة لتلك المرأة التي أفنت عمرها لأجلها ولأجل أخيها، بعملها گخياطة لسنوات كادحة، تجرعت بهم مرارة الأيام كأم عزباء.
- وهو مين اللي عمل الفستان الجميل ده، مش إيديكِ الحلوة دي، ربنا ميحرمنيش منك أبدًا يا ماما.
تفحصت والدتها وجهها ثم قالت بفراسة ورثتها منها ابنتها تمامًا:
-سبتي الواد أيمن، صح؟!
-أه.
ثم رفعت هامتها قائلة بمزاح:
- بس إيه، فضحته هو وأبوه في المحل، لميت عليهم الناس في الحارة، هو فاكرني إيه، ه‍فيه.
ربتت آسيا بكتف ابنتها تتمنى لها الحظ الطيب:
-اِرمي كل ده وراكِ، روحي شوفي الشغل الجديد، اطلعي بره الحارة، كفاية عليكِ وصمة بنت الخياطة في الراحة والجاية.
تهدلت ملامحها بضيق فكيف تعتبر عملها وصمة عار فهي تستحق أن تحمل فوق الأعناق وليس العكس!
- ده أنا أتشرف إني بنت الخياطة، واللي مش عاجبه يشرب من البحر.
بروح مازحة كابنتها غمزت آسيا:
-طب روحي بقى المقابلة عشان متتأخريش، مش يمكن يطلع صاحب الشركة زي الروايات اللي بتقريها ويقع في حب بنت الخياطة.
اتسعت عيناها الواسعتان بتشدق ممازحة والدتها:
-يا بنت الأيه يا آسيا، عشان كدة كنتِ عايزاني أسيب أيمن، عينك على فهد الفهود اللي مفيش منه اتنين، يقع في هوايا من أول لحظة، ياه دي تبقى كبسة لناس أنا عارفاها، وبصراحة نفسي أكبسهم.
ضحكات ملأت الأجواء لبداية يوم يتوسم به بداية خير جديد، وآمال تُرسم فوق الأفق.
گزهرة بستان يانعة انطلقت بطريقها تمنح الحياة بكل خطوة تخطوها، تكاد تزهر الورود من الجانبين لحظة مرورها، فهي الحياة بحد ذاتها.
سحبت شهيقًا قويًا وأطلقته ببطء حين وقفت أمام تلك البناية الخاصة بشركة المقاولات التي ستتقدم بها للعمل گمساعدة -سكرتيرة- كما كان موضح بالإعلان الذي طلب توظيف مساعدة بتلك الشركة.
بمرور رياح صيفية لذيذة تطايرت لها خصلات شعرها وطرف فستانها الطويل، شعرت كأنها تحلم بوصولها للقمة.
شعرت كما لو أن هناك سيمفونية للعزف المنفرد تُعزف بالخلفية، مع تطاير خصلات شعرها بحالمية، كمشهد تمثيلي بارع يوحي بالسعادة وبلوغ أقصى الأحلام.
تلك السيمفونية التي غلظ صوتها وانبعجت ألحانها حين أغرقتها تلك السيارة المسرعة ببقعة من المياه الموحلة لتتلوث بكاملها بالوحل بداية من شعرها المتطاير حتى حذائها الأصفر فاقع اللون.
فغرت فاهها للحظات بغير استيعاب وقد توسعت مقلتيها باندهاش فزع؛ لتخرج منها شهقة قوية وهي ترفع كفيها بصدمة.
عادت تلك السيارة بظهرها لتقف إلى جوارها، وهي ما زالت مشدوهة لا تصدق ما حدث للتو.

سيارة فارهة باهظة الثمن، لها زجاج أسود معتم يبدو أن صاحبها من ذوي الأموال التي لا حساب لها.
اعتدلت خوخة بصدر ناهج وتنفس مضطرب، فمن هذا الذي يجرؤ على تلطيخها بالوحل وإفساد مظهرها بيوم مهم كهذا.
فُتحت النافذة ببطء ليظهر قائد السيارة كجزء درامي من مشهد تمثيلي آخر، تكاد تشعر بأن هناك سيمفونية أخرى تعزف بالخلفية.
شاب ثلاثيني، أبيض البشرة، تغطي عيناه تلك النظارة الشمسية السوداء؛ لكنها أكسبته أناقة غير معهودة، أنيق للغاية وماذا سيكون غير ذلك فيبدو عليه الثراء والغنى، انفرجت شفتاه عن ابتسامة لؤلؤية واسعة؛ لتظهر أسنانه المتراصة ناصعة البياض كهؤلاء المشهورين اللذين تراهم عبر الشاشات.
هذا المشهد قرأته آلاف المرات بالروايات، الغني الوسيم يقابل الفقيرة بحادث ما منبهرًا بجمالها، يبتسم لها ويغازلها ويسقط أسيرًا ببحور عشقها لتهمس بداخلها:
-هو حيحصل بجد ولا إيه؟! يا بركة دُعاكِ يا آسيا.
لكن سرعان ما انبعجت تلك السيمفونية مرة أخرى، وغلظت ألحانها حين علت قهقهة هذا الشاب ساخرًا من مظهرها الملوث بالوحل:
-لايق عليكِ الطين، ما هو لازم عشان الجنينة اللي أنتِ لبساها دي.

أيسخر منها ومن فستانها الجديد الذي سهرت والدتها لأيام طوال لصنعه، تملكها الغيظ من هذا السفيه الذي لا يشبه رقي حياته، بل هو شخصية فقيرة سطحية للغاية.
ليست هي من يُسخر منها ويربط لسانها وتقف مكتوفة الأيدي، دنت لخطوات بسيطة تحملق بوجهه بتفحص، ثم مدت يدها تنتزع نظارته الشمسية، حين تفاجئ هو بالأمر ليتقزز مبتعدًا عن حركة يدها قائلًا بحدة:
-إيه ده!
لتطلق لسانها اللاذع تلملم به كرامتها المهدورة:
-الله، ما أنتَ شايف أهو، كنت بتأكد إن عندك عنين زينا، أمال مش بتشغلهم ليه؟!
ثم استقامت قائلة بحاجب مرفوع وأنف معقودة تحدثه بنبرة مشمئزة:
-ولا هم أهاليكم يجيبوا لكم عربيات تقرفوا الناس بيها؟!
ربتت على كتفه بقوة كما لو كانت تضربه، ثم استكملت تطرده من أمامها:
- امشي يا با، اتكل على الله بدل ما أخلى الطين في حياتك كلها.
ضم فمه بغيظ فقد أهدرت بكرامته عرض الحائط، لم تهتم لوسامته وثرائه الظاهر، لم تتسابق لإرضائه گغيرها بل كادت تضربه، أشعرته بالخوف للحظات بطريقتها مُصدقًا قدرتها على إلحاق الأذى به.

أغلق زجاج سيارته المعتم وانطلق مسرعًا دون إطالة بالحديث، لتغمغم هي بسخط وهي تطالع فستانها الملطخ ببقع الوحل:
-جتك نيله، أروح المقابلة إزاي دلوقتِ؟!
تنهدت بقوة وهي ترى السيارة تلتف من أمام مبني الشركة ليعود أدراجه إليها.
وقفت السيارة أمامها واستعدت هي لوابل من قذائف السُباب التي ستطلقها عليه لو تطاول عليها مرة أخرى.
فُتح زجاج النافذة المعتم للتسع مقلتيها بصدمة ألجمتها عن الحديث.

بقلمي : قوت القلوب (Rasha Romia)
التدقيق اللغوي: مروة القباني

الحلوة خوخة «وهل إقترفت إثمًا أنني بنت الخياطة»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن