(١) كذبة

82 5 0
                                    

..كذبة ..


بهدوءٍ لذيذٍ وأعينٍ متجوِّلةٍ متَّسعةٍ عن آخرهما، تسترق النَّظر هنا وهناك، ضغطت فوق شفتيها بخفةٍ بحركةٍ لا إراديَّة، تتأكَّد بأنَّه ليس هناك من يشعر بها.
عقُب ذلك ضمَّةً خفيفةً لشفتيها الورديَّتان وهي تتسلَّل بخفَّةٍ؛ لتخرج من باب الشًّقةِ دون أن ينتبه لها أحد، سحبت الباب من خلفها؛ لتوصِّده بهدوءٍ قبل أن تستدير نحو الدَّرج.
تفاجأت بأحدهم يقف أمامها يتابع تحرُّكاتها المتسلِّلة؛ لتشهق بقوُّةٍ أظهرت ملامحها الشَّقيَّة بوجهها المستدير ووجنتيها الورديَّتان وعينيها الواسعتان ذاتَ الَّلون العسلي الَّذي يميل للخضار.
-أهو أنت؟!
قالتها مستنكرةً من وجود هذا الصَّبيُّ بهذا الوقت ومفاجأته لها.
زمَّ الصَّبيُّ فمه وهو يعقد ذراعيه متسائلًا:
-رايحة على فين يا خوخة؟
لمعت عيناها ببريقٍ كاذبٍ وقد ظهرت أسنانها العريضة التي أكسبتها طلةً مميَّزةً جميلةً للغايةِ، لكنْها تبقى كاذبة:
-رايحة أشتري شراب.
مال الصَّبيُّ رأسه للأمامِ قليلًا وقد تجلَّت على وجهه علامات الاستنكار:
-شراب، شراب إيه دلوقتِ؟!
طب عليَّ النِّعمة لأَقول لأمي!
لوهلةٍ كان سيعلو صوته مناديًا والدته حين قفزت -خوخة- تكتمه بكفِّها الصَّغير وهيَ تهمس بأذنيه:
-بس يا علي وطِّي صوتك، أحسن ماما تاخد بالها.
صمت -عليٌّ- وهو يهدل كفَّها عن فمه رافعًا من حاجبه الأيمن بفراسةٍ قائلًا:
-رايحة -للجحش- صح؟!
زفرت باستياءٍ لكشف أمرها قائلةً بتبريرٍ:
-مسافة السِّكَّة بسِّ والله؛ أقول له الحمد الله على السلامة وأرجع على طول.
بنظراتٍ محذِّرةٍ ونبرةٍ خفيضةٍ عَقَب علي:
- يا خوخة، إحنا خايفين عليكِ، الواد خطيبك ده مش دوغري، مش راجل كده.
هنا قد احتلَّت عيناها الشَّقيَّة نظراتٍ قاسيةٍ حادَّةٍ، فمن يجرؤ على إلصاق تلك التُّهم بمعشوق قلبها -أيمن الجحش-؛ لترفع إبهامها محذرةً من الخوض بطريقتهم المسيئة له: 
-علي، وبعدين؟ أيمن حد مفيش منه فاهم، وكفاية بقى طريقتكم دي عليه، ده مش مخلي حاجة عشان يكوِّن نفسه ومعملهاش، متبقوش أنتم والزَّمن عليه.
باستهزاء لرأيها وعيناها المغيبة عمَّا يرونه، وهي لا تودُّ الإقرار به، بأنَّه إنسانٌ مستهتر ولا يستحقها.
أجابها علي:
- براحتك يا أختي، اشبعي بيه، روحي له خليه يضحك عليكِ ويفهِّمك إنه عمل اللي ميتعملش، وفي الآخر راجع يا مولاي كما خلقتني، بس يكون في علمك، لو تأخرتِ حقول لماما إنِّك روحتي له!
قطعت تلك المحادثة فيكفيها تذمُّرًا، فلولا لوم والدتها المستمر على موافقتها بأيمن؛ لكانت استأذنت منها قبل خروجها، فلن تزيد الأمر بلوم أخيها الأصغر أيضًا.
- تمام، تمام، يلَّا بينا، يلَّا بيكو باي.
تلك طريقتها بالمغادرة بكلماتها المرحة گطبعها تمامًا.
أسرعت؛ لتخرج من هذا البيت القديم، والذي يقطنون به بشقَّتهمُ المستأجرةُ زهيدةُ السعرِ متَّجهةً نحو حارتهم الشَّعبيَّةِ الضَّيِّقةِ الممتلئةِ بسكَّانها المنتشرين بكلِّ مكانٍ، والمتابعين أيضًا لكل من يمرُّ بالحارةِ.
رشيقةٌ، جميلةٌ، شقيَّةٌ تجذب العيون وترجف القلوب بطلَّتها العذبة، -الحلوة خوخة- كما يطلقون عليها، والَّتي قد سرقت القلوب بمرورها وهيَ ترتدي فستانها الأصفرُ الممتلئُ بالحيويَّة والورود الحمراء الزَّاهية.
كلَّ خطوةٍ تخطوها تتعلَّق بها عيون المشتاقين الكثر الَّلذين لا تعرفهم بالمرَّةِ؛ فهي لا تكترث سوى لحبيبها وخطيبها -أيمن- فقط، تراه مَلأ عيونها لا يضاهيه غيرهُ مهما كان.
لم يكن بالبعيد بل كان قريبًا للقلب والمكان أيضًا، دقائقٌ قليلةٌ وكانت خوخة تقف بعتبة محلَّ والده مُصلِّح الأحذية، تشقُّ وجهها ابتسامتها العريضة تظهر أسنانها المميَّزة، لتقع عيناها عليه
-أيمن الجحش- شابٌ عشرينيٌّ متوسِّط الطُّول، له شعرٌ أسودٌ مصفَّفٌ بعنايةٍ مضيفًا تلك المادة: الجل، والَّتي تعطيه ثباتًا ولمعانًا قويًا، ذو وجهٍ مثلَّثٍ وأعينٍ سوداء واسعة، يرتدي كنزةً رياضيَّةً وبنطالًا من القطنِ؛ ليصبح متماشيًا مع الموضة.
هتفت بشوقٍ وتلهُّفٍ:
-مساك حلو زيَّي..
هبَّ أيمن بسعادةٍ لرؤيتها مجيبًا شوقها بشوقٍ أعمقٍ مجيبًا تحيَّتها برومنسيته الحالمة:
-يا أحلى مساء في عمري كلُّه، وحشتيني يا أحلى خوخة.
ثمَّ أكمل بتصنُّع الضِّيق من رفض أهلها المستمر لزيارته لها:
- لولا تكشيمة خالتي آسيا، كان زماني جيت لك أوُّل ما وصلت.
جلست خوخة بسعادةٍ لرؤيتها له الآن غير عابئةً برفض والدتها له:
- المهم إنِّي جيت أهو وشُفتك.
بنغمةٍ رومانسيةٍ جذَّابةٍ وأعينٍ حالمةٍ سبَّل بعيونه الواسعةِ مردفًا بعشقٍ متيمٍ:
-حبيبتي يا خوخة، أنتِ الوحيدة اللي في الدُّنيا دي اللي بحس إنَّها بتحبني بجد.
نكس عيناه بخزي وهو يستكمل بضيق:
-حتى أبويا مفرحش إني رجعت، إكمني جيت إيد ورا وإيد قدام.

ثم رفع عيناه تجاهها يبرر ذلك بقلة حيلة:
-هو ذنبي إنى معرفش أمد إيدي وأسرق، وإني ماشي بما يرضي الله، الشغلانة كلها كده، يا أسرق وأمشي حالي، يا زى ما أنتِ شايفة، مشوني من الشغل، ومجبتش ولا جنيه، ده أنا وربنا مديون للواد سيكا بتمن المواصلات والدخان.
بإشفاق على حاله تقوست شفتيها وضمت حاجبيها بقوة، فماذا يستطيع فعله وكل الأبواب مغلقة بوجهه بهذه الصورة؟
-ولا يهمك يا أيمن، أمال يعنى تروح فين من ربنا لو قبلت بالحرام.
بأعين زائغة تفكرت قليلًا لتخرج محفظتها الصغيرة -البوك- من جيب فستانها وفتحت سحابه؛ لتخرج منه بعض الأوراق المالية تمدها نحو أيمن بإصرار.
-خد دول يا أيمن، سد فلوس سيكا مينفعش تبقى مديون كده.
رفع أيمن كفيه للأعلى برفض قاطع:
-حد الله أمد إيدي على فلوسِك، هو أنا إيه مش راجل، ده بدل ما أديكِ أنا، أقوم واخد منك!
عزيز النفس دومًا وهذا ما يجعلها تتمسك به ولا يهمها أي شيء آخر، دفعت خوخة بالمال بقوة بكفه، وهي تنهض مبتعدة حتى لا يرجعهم لها.
-وربنا ما هم راجعين، هو أنا إيه وأنت إيه، هو فيه بينا كده، وبعدين ما أنت بكرة تشتغل والدنيا تبقى فل، ابقى رجعهم ساعتها.

بأعين منكسرة قبل أيمن المال قائلًا:
-لو كده يبقوا دين في رقبتي، حتاخديهم حتاخديهم، ماشي؟!
قالها بإصرار لإعادتهم قبل أن يلاقي ابتسامتها المرحة وهي تقف بباب محلهم مغادرة إياه.
-ماشي يا حقوو، يلا بينا، يلا بيكو باي.
كقمر هل واختفى، هكذا كانت زيارتها له لتعود إلى الحارة بخطواتها الرشيقة.
كادت أن تصل لبيتهم حين تذكرت محفظتها- البوك-، التي تركتها بمحل والد أيمن لتغمغم بسخط وهي تلتف تلعن غبائها، لكن سرعان ما عادت وابتسمت حين انتبهت أن لقائها سيتجدد به مرة أخرى.
دقائق بسيطة وكانت بنفس المكان، لكن تلك المرة كان المحل خاويًا، فعلى ما يبدو أن أيمن قد غادره؛ لتقلب شفتيها بطرافة وهى تتسلل نحو الداخل؛ لتأتي بمحفظتها التي سقطت أرضًا قبل أن يفاجئها والده بقدومه وهي بالداخل.
توجست أن يكون عم -مصلح الجحش- والد أيمن بالمخزن الداخلي للمحل لتتحرك بخفة دون أن تصدر أي صوت.
مالت نحو الأرضية لتحمل محفظتها، وقبل أن تعتدل سمعت صوتًا هائمًا حالمًا تدركه جيدًا، صوت جعلها تنتفض بدهشة تحولت لها ملامحها الطريفة لأخرى مقتضبة فمنفعلة، حتى كادت عيناها تؤلماها من شدة اتساعهما، إنه صوت أيمن يعقبه ضحكة مستهترة رنانة خليعة للغاية تفوق ضحكتها المرحة قوة، تهدج صدرها بانفعال وهي تهمس:
-أيمن، وبت مُلعب، في المخزن لوحدهم!
اقتربت تسترق السمع لتشهق غير مصدقة لما تسمعه، سرعان ما كتمتها حتى لا يفتضح وجودها واستراقها للسمع.




بقلمي : قوت القلوب (Rasha Romia)
التدقيق اللغوي: مروة القباني

الحلوة خوخة «وهل إقترفت إثمًا أنني بنت الخياطة»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن