(٤)حياة جديدة

63 6 0
                                    

.. حياة جديدة ..


حيرة شديدة جعلتني أتفقد عقلي هل ما زال يعمل جيدًا، أم أنني انسقت خلف هلاوس دون أدري!
هل هذا هو نفسه أم الصدمة ضربت باتزاني، فحتى عيناي كذبتني لكن مازال عقلي مشوش.
تطلعت خوخة بتفاجأ وحيرة بقائد السيارة حين توقفت أمامها للمرة الثانية، فقد طل منها شاب قمحي ذو وجه بيضاوي وملامح جَلده، تشتت تركيزها لوهلة فقد كان الآخر أبيض البشرة يميل للميوعة وغثاء النفس.
هل ما زال عقلها بموضعه أم أن هناك أمر غريب يحدث، ضيقت عيناها تحاول إدراك ما الأمر بفطنتها لتردف بتخبط:
-هو أنت، ولا مش أنت، بس أنت مش أنت، بس أنا عارفاك.
ثم عادت ونفت معرفتها به فقد ظنت أن وجهه مألوف لها:
-لا لا، معرفكش، لا استنى كده، أنا عارفاك، أنت مين بالضبط؟!
تخبطها الشديد بتبدل صاحب السيارة جعله يضحك بلطافة لخفة ظلها؛ لتتيقن هي أن هذا شخص آخر وليس هذا المتعجرف.
-صح كده، التاني قتم ودمه يلطش.
ثم ابتسمت بروح مرحة قائلة:
-مين الباشا بقى؟ أنا متأكدة شفتك قبل كدة.
إجابته كانت صاعقة مفاجئة للغاية حين قال بذوق متناهي:
-ومين ميعرفش -خوخة- اتفضلي اركبي.
فاهت للحظة فمن أين يعرف اسمها هذا الشاب المملوح، ربما ليس بوسامة الآخر، لكنه يدق القلب بسهولة.
- أنت تعرفني؟!
- أكيد، أنتِ مش عارفاني ولا إيه، أنا موفق.
رغمًا عنها كان لاسمه مادة للتهكم والسخرية لتهتف بمزاحها الشقي:
-ما جمع إلا ما -وفق-.
ابتسم موفق؛ لضحكاتها العذبة التي تتراقص لها دقات قلبه، فهي من ملكته منذ زمن بعيد ولا تعلم بما يكنه لها بقلبه.
صدفة لعبت بالأقدار لرؤياها، فيا ليت كل الأوقات صُدف.
تهدج صدره بقوة فقلبه العاشق؛ لتلك الضاحكة لم يعد يحتمل صدفة قربها منه، صدفة جمعته بها بغير ميعاد.
لملم مشاعره الحبيسة مخبئًا إحساسه تجاهها بداخله فلا داعي لبث الذعر في نفسها تجاهه.
-تفضلي اركبي أوصلك البيت تغيري فستانك اللي اتبهدل ده.
تذكرت فستانها لتزم شفتيها باستياء فاه بهما موفق على الفور، لتصعد إلى المقعد المجاور له وهي تسأله ببعض الحيرة:
- تمام، عشان مستعجلة بس، بس أنت تعرفني منين؟!
- وبعدين أنت تبدلت ولا إيه، مش كنت واحد تاني؟!
انطلق موفق بالسيارة متحدثًا بإيضاح أثناء عودتهم لحارتهم.
- أنا موفق الشاذلي، جاركم في الحارة، مش عارفاني ولا إيه؟!
تذكرت الآن أين رأته من قبل، فقد تقابلا كثيرًا بحارتهم خاصة وأن والدته تتردد عليهم كثيرًا لتهتف بتذكر:
- أنت ابن خالتي أم عطا.
- أيوه يا ستي، أنا.
قلبت شفتيها بحيرة لتسأله بعدم فهم:
_ طب إزاي يعنى راكب العربية بت الناس دي، أنت شريكه ولا سارقها ولا إيه؟!
تعالت ضحكته لتظهر وسامته بخشونة، تلك الخشونة التي لم تتعامل بها مع أحدهم من قبل، فـ أيمن كان حالم للغاية، لم تشعر معه بالخشونة والرجولة التي تشعر بها إلى جوار موفق، أجابها بسعادة لهذا القرب الذي تمناه لسنوات:
-لا، مش سارقها، أنا شغال سواق عليها، صاحبها اللي أنتِ شوفتيه ده عمار بيه، بحب يسوق العربية من وقت للتاني، بس والده مش بخليه يسوق عشان سواقته متهورة أوي.
مطت شفتيها للأمام بضجر معقبة:
-أه، ما أنا عرفت.
-عمومًا هو نزل الشركة وأنا لفيت لك قلت أوصلك تغيري فستانك اللي تبهدل ده، شكلك وراكِ مشوار مهم.
أجابته ببعض الجدية والقلق بذات الوقت:
-كان عندي مقابلة في الشركة دي، بس شكلي مش هلحقها.
هل ستعمل معه بذات الشركة، ويراها كل يوم، هل يمكن أن تأتي إليه فرصته بأكثر مما يتمنى؟!
بالأمس تركت خطيبها الأرعن واليوم تقابل معها، يا لسعده اليوم، يجب عليها ألا تقلق وهي برفقته ليهتف بوعد:
_ لا طبعًا، طول ما أنا معاكِ حتقدري حالًا حنوصل للبيت وأرجعك على طول، وبإذن الله تلحقي.
أسرع موفق من قيادته للسيارة يمر عبر السيارات المزدحمة بالصباح ليصل بوقت قياسي لحارتهم، تطلعت به خوخة بانبهار بقدرته الماهرة على القيادة، وعلق معها مساعدته لها دون طلب منها.
فنادرًا ما تجد من يقدم العطاء دون مقابل، وإذا وجدته فعليك التشبث به لأنه هو بذاته الفرصة الضائعة التي لا تتكرر مرتين.
أبدلت فستانها بوقت قياسي لتعود أدراجها برفقة موفق إلى الشركة، لم يخلو طريقهم من حديثهم الطريف وضحكات خوخة التي سلبته قلبه المتيم.
-بالتوفيق يا خوخة.
أجابته بنبرة مازحة:
-وفق يا موفق، يلا بينا، يلا بيكو، باي.
لقد قالتها له، لقد حظي بسلامها المميز، لقد كان ذلك أكثر من أحلامه التي اتخذت الحقيقة طريق.
صعدت نحو الأعلى تنتظر دورها لإجراء المقابلة، صدمها رؤية المتعجرف يرمقها بتقزز قبل أن يدلف لداخل المكتب لتقابله بنفس نظرات الازدراء فهو لا يستحق أكثر من ذلك.
مالت على أذن تلك الفتاة التي تجلس إلى جوارها متسائلة:
_ هو مين اللي دخل المكتب ده؟!
تطلعت بها الفتاة باشمئزاز أولًا قبل أن تجيبها باقتضاب لهيئتها الفقيرة:
- ده عمار بيه الأسيوطي، ابن صاحب الشركة.
أعادت جزعها للخلف بصدمة قائلة بصوت مسموع:
-أوبا، ضمنا الرفد من قبل ما نشتغل.
دلفت الفتيات الواحدة تلو الأخرى للمكتب لإجراء المقابلة، نظرت نحو ملابسهن وأناقتهن، ثم عادت لتنظر لفستانها القديم وشعرها المموج؛ فبالتأكيد مظهرها لا يناسب تلك الوظيفة، وحتى إن كان مظهرها يوحي بذلك فإن تطاولها على صاحب الشركة بالصباح كفيل برفض طلبها.
لكنها ليست من النوع المتهرب، فهي ستقوم بإجراء تلك المقابلة وستعود للمنزل فلا شيء سينقصها، ولن يضرها خوض التجربة، حتى لو تعلم نتيجتها مسبقًا.
حان موعدها لتنهض مهندمة من فستانها وشعرها لتدلف نحو الداخل بثقة لا متناهية، فإن كانت سترفض فستقابل وجودهم بلا مبالاة، كما لو أنها لا تهتم بالعمل لديهم.
لم تكن مرتبكة ولا قلقة، بل كانت مرحة شقية، جذابة كعادتها، وقفت أمام طاولة يجلس حولها ثلاث من الرجال الأنيقين وإلى جوارهم هذا المتعجرف صاحب الوحل.

رفعت من هامتها بتعالي لتجيب سؤالهم الأول:
-اسمك ومؤهلك وعنوانك؟
-اسمي ريحانة السيد عبد الحفيظ، معايا بكالوريوس تجارة، ساكنه في حارة الـ...
مجرد ذكرها لكلمة -حارة- جعلها ترسب في الاختبار وبقوة ليقاطعها الأسيوطي الكبير مالك الشركة باستياء:
-حارة، لا يا شاطرة، مش عايزين حد من حارات.
سألها أحدهم متهكمًا على تطاول فتاة وضيعة مثلها بالعمل معهم قبل أن يرفضوها تمامًا.
-والسيد بيه عبد الحفيظ بيشتغل إيه بقى؟!
فهمت أسلوبهم الساخر لتُعلِي رأسها بشموخ فهي لا تشعر بالخزي لحالها وفقرها.
-والدي متوفي، وعشان أوفر عليكم أمي اللي ربتني، وأزيدك كمان، أمي بتشتغل خياطة، خلاص سلام، يا هأ بشوات.
قالتها بسخرية وهي تلتف لمغادرة المكتب، حين سمعت هتاف من خلفها يطالبها بالبقاء:
- استني..

بقلمي : قوت القلوب (Rasha Romia)
التدقيق اللغوي: مروة القباني

الحلوة خوخة «وهل إقترفت إثمًا أنني بنت الخياطة»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن