كانت الجبال التي يقترب منها إلرين شاهقة ومتعرجة، تبدو وكأنها تمتد بلا نهاية نحو السماء. الهواء كان أكثر برودة، مشبعًا برائحة الثلج القريب، وكان الصمت يخيم على المكان وكأن العالم كله توقف ليراقب خطواته.
بينما كان يسير على الطريق الوعر، سمع أصواتًا خافتة قادمة من بعيد. كانت أشبه بأغاني حزينة تنبعث من عمق الجبال، ملونة بنغمات من الألم والحزن. توقف ليستمع جيدًا، محاولًا تحديد مصدر الأصوات. لم تكن هذه الأصوات بشرية، بل كانت أقرب إلى نغمات طبيعية، لكن كان فيها شيئًا حيًا.
أخذ نفسًا عميقًا وتابع سيره نحو الأصوات. كلما اقترب، ازدادت وضوحًا، وبدأ يرى أضواء خافتة تظهر بين الصخور. عندما اقترب أكثر، وجد نفسه واقفًا أمام فتحة واسعة في الجبل، ينطلق منها الضوء والنغمات.
دخل الفتحة ببطء، وعيناه تحاولان التكيف مع الظلام الداخلي. ما رآه جعله يتجمد في مكانه. كانت هناك كائنات غريبة، تشبه الأرواح، ترفرف في الهواء حول مصدر الضوء. كانت شفافة، مزيجًا من النور والظل، تبدو وكأنها تنبعث منها طاقة قديمة.
"من أنتم؟" سأل بصوت متردد، بينما كان يراقب تلك الكائنات بحذر.
إحدى الأرواح اقتربت منه، عيناها الخافتتان تتألقان بضوء غريب. "نحن الحراس، أولئك الذين ظلوا هنا منذ آلاف السنين، نحرس هذا المكان من أولئك الذين قد يسيئون استخدامه."
نظر إلرين حوله، محاولًا فهم المكان الذي وجد نفسه فيه. "ما الذي تحرسونه؟"
أجابت الروح بصوت هادئ، "نحن نحرس المعرفة القديمة، الحكمة التي تم نسيانها منذ زمن طويل. لا يستطيع الوصول إليها إلا من يستحقها."
شعر إلرين بأن هناك اختبارًا جديدًا بانتظاره. "وكيف يمكنني أن أثبت أنني أستحقها؟"
الروح تحركت ببطء حوله، وكأنها تقيمه. "لن يكون الأمر سهلًا. المعرفة التي نحرسها لا تُمنح إلا لأولئك الذين يمكنهم التعامل معها بحكمة. عليك أن تجتاز الاختبار لتثبت أنك تستحق."
"وما هو هذا الاختبار؟" سأل إلرين، محاولًا إخفاء القلق الذي بدأ يتسلل إلى قلبه.
أشارت الروح نحو مصدر الضوء. "هناك في الداخل ستواجه نفسك، أعظم مخاوفك، وأعمق أسرارك. إذا تمكنت من التغلب على ما ستراه، ستكون قد أثبت أنك تستحق المعرفة التي نحرسها."
كانت الكلمات تتردد في ذهنه، "ستواجه نفسك." لم يكن إلرين متأكدًا مما يعنيه ذلك، لكنه كان يعلم أنه لا يمكنه التراجع الآن. "أنا مستعد."
تحركت الأرواح من حوله، فاتحةً له الطريق نحو مصدر الضوء. كان النور قويًا لكنه لم يكن يؤذي عينيه. تقدم إلرين نحو الداخل، خطواته بطيئة وحذرة.
عندما وصل إلى مركز الغرفة، توقفت الأرواح في مكانها. "الآن تبدأ المحاكمة،" قالت الروح الرئيسية بصوت منخفض، ثم اختفت الأرواح في الظلام.
وجد إلرين نفسه وحده مرة أخرى، محاطًا بالنور من كل جانب. فجأة، بدأت صور تتشكل في النور، وأدرك أنه يشاهد ذكرياته. رأى نفسه عندما كان طفلاً، يلعب في الحقول مع أصدقائه، ثم مشاهد من شبابه، حيث كان يواجه التحديات الأولى في حياته. كانت تلك ذكريات سعيدة، لكنها لم تكن ما تخشاه الأرواح.
ثم تغيرت الصور، وبدأ يرى مشاهد من الفشل، اللحظات التي أخفق فيها، التي خان فيها ثقته أو خانته، تلك التي كانت تطارده في أحلامه. شعر بالألم يتسلل إلى قلبه وهو يشاهد تلك المشاهد، لكنها لم تكن كافية لإسقاطه.
ثم جاء الجزء الأصعب. بدأ يرى مستقبله، الطرق التي يمكن أن يسلكها، التحديات التي قد يواجهها. رأى نفسه وحيدًا، محطمًا، دون أصدقاء أو عائلة، يعيش في ظلام دائم. رأى نفسه يفقد كل شيء، كل ما قاتل من أجله.
"هل هذا هو مصيري؟" سأل بصوت يائس.
"هذا هو أحد الاحتمالات،" جاء صوت الأرواح من بعيد. "لكن المصير ليس مكتوبًا، بل يُصنع. ما تراه هو انعكاس لمخاوفك، ليس الحقيقة."
شعر إلرين بالارتياح، لكنه كان يعلم أنه لا يزال هناك الكثير ليواجهه. "إذا كان المصير يصنع، كيف يمكنني أن أتأكد من أنني سأحقق الأفضل؟"
أجابته الأرواح، "بالحكمة، والصبر، والشجاعة. هذه المعرفة التي ستمنح لك لن تعطيك كل الإجابات، لكنها ستساعدك على إيجاد طريقك. المفتاح هو في الداخل."
أغلق إلرين عينيه، محاولًا أن يستجمع قوته. كان يعلم أن هذا الاختبار لم يكن مجرد رؤية لذكرياته أو مستقبله، بل كان اختبارًا لإرادته، لإيمانه بنفسه.
"أنا لن أخاف،" قال بصوت هادئ. "لن أدع مخاوفي تتحكم بي."
فجأة، بدأ النور يتلاشى، والظلام بدأ يحل مكانه. لكن إلرين لم يكن خائفًا. كان قد اجتاز الاختبار، وكان يعلم الآن أنه يستطيع أن يواجه أي شيء.
عندما اختفى النور تمامًا، وجد نفسه في غرفة مظلمة، لكن هذه المرة لم يكن هناك أي قلق في قلبه. كانت الأرواح قد اختفت، لكن كان هناك شيء آخر بانتظاره.
على الجدار أمامه، كان هناك نقش قديم، مكتوب بلغة لم يكن يعرفها، لكنه استطاع فهم معناه. كان النقش يحمل حكمة قديمة، تقول: "النور الحقيقي لا ينبع من الخارج، بل من الداخل. كلما كان قلبك نقيًا، كلما أضاءت طريقك."
ابتسم إلرين، ثم همس لنفسه، "الآن أفهم."
وبهدوء، استدار وخرج من الغرفة، وكان يعرف أن رحلته لم تنته بعد، بل بدأت لتوها. لكنه الآن كان مستعدًا لما سيأتي، ومعه المعرفة التي كان يحتاجها ليجد طريقه في العالم الذي ينتظره.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
مع اطيب التحيات
دنيا كمال