ولكن جهاد، وفي طرفة عين، ابتعدت عن الدائرة التي شكلناها وأعادت سيفها لغمدها قائلة:
- لا، لنعطهم ما يريدون.
ثم نظرت إلي مخاطبة:
- قيس، جئنا مع أثواب وفساتين وجواهر ثمينة، لا حاجة لنا بها بعد الآن.
ودون أن تنتظر أن أسمعها رأيي، وضعت قدمها على أحد صناديق الثياب ودفعتها ليسقط الصندوق أرضاً مع كل ما فيها من جواهر ولآلئ وأشياء قيمة، لكن عين القائد لم يكن على الصندوق، بل على جهاد، نظر إليها جيداً قبل أن يقول في استنكار:
- أنتِ امرأة؟!
يبدو أن الظلمة جعلته لا يتعرف إليها في البداية، وراشيل التي كانت خلفنا لم يخطر لأحد أنها فتاة، وللمفاجأة، قال القائد وهو يدخل سيفه في غمده:
- بينكم امرأة إذاً...
أدخل رجاله سيوفهم أيضاً، فأضاف قبل أن ينصرف:
- سوف نترككم هذه المرة... ولكن إذا رأيتكم مجدداً سأقتلكم حتى لو كنتم مع أمهاتكم!
ومع كل تلك الأشياء الثمينة المتناثرة على الأرض، ابتعدو مسببين موجة من الغبار دون أن يمسوها أو يقربوها حتى، ولم أبعد ناظري عنهم إلا بعد أن اختفوا واختفت آثارهم، ابتسمت! بل لقد ضحكت، لقد كانوا لصوصاً عرب، لا شك في ذلك، كانت دماء العروبة تسري في دمائهم! أين نحن؟ في الجنة؟! هاجمنا لصوص عرب! لا بد أننا في الجنة، كنت سعيداً بهم أكثر من سعادتي باستقبال خدم القسيس لنا، وكان هذا أفضل ترحيب يمكن أن أتمناه.
* * *
كان جسدي يعاني من مشاق السفر وتعبه لكن روحي تحلق حول العرش حيث تجتمع أرواح الذين يذكرون ربهم فيشعرون بلذة وراحة لا تماثلها لذة ولا راحة، يالله، كيف كنت في السابق غافلاً عن هذا النعيم؟ وما الذي يجعل ذا عقل يزهد فيه؟ لا، ذوو العقول يعرفون هذا النعيم ويعيشون فيه، أما غيرهم فبهائم عطلت منافع العقل.
أخيراً، وصلنا المنطقة الجبلية التي تسبق بلدة الموحدين، كنا في ممر بين جبلين، الرياح نقية هنا، التراب نقي، الغبار، الأفق، الشمس هنا نقية! صحيح أن الإنسان ابن محيطه، فقد أثر النقاء على أرواحنا، لم تفارق الإبتسامة وجهي وأخذت أتلفت إلى كل مكان رغم عدم وجود ما يُنظر إليه، لكن حجراً أصماً هنا كان أجمل وأحب إلي من كل الزهور التي رأيتها سابقاً.
- هل نسرع؟
سألت وأنا ألتهب حماساً، لكنه كان سؤال من يفرض أمراً، أخبرتهم أني سأسبقهم وأسرعت بجوادي دون أن أنتظر جواباً.
نهاية هذا الطريق، نهايته... سأرى الوطن، وجدت رفقائي حولي فجأة، جهاد، سلام، وعبيد، هل كان سباقاً؟ أينا كان أشوق إلى الوصول؟ في تلك اللحظات لو أنني ركضت بقدماي لسبقتهم من شدة السرور، ضربت جوادي وطلبت منه التحليق، وفعلاً، بدونا في سرعتنا كمن يحلق، كنت أولهم حتى اقتربت جهاد بجوادها مني وقالت:
- تعتقد أن بإمكانك أن تسبقني؟!
- هنا، وإلى الجنة!
في أعلى الهضبة التي توقفنا عليها، لمحناها أخيراً وبكل وضوح، حبيبة القلب، حيث يجتمع الذين شُردوا وقُتلوا وأوذوا ويريدون أن ينتقموا، أن يصرخوا، أن يريقوا دماء الظلم، تلك هي: بلدة الموحدين.
فاقت كل التصورات، وجاوزت كل التوقعات، لم تكن قرية صغيرة، لم تكن مدينة مهدمة، لقد كانت مملكة! مملكة بأبنية شاهقة، ومآذن شامخة، كانت هناك مزارع وحقول تمتد حولها على مدى البصر لتشبه بستان وسطها قصر عال، لم أصدق عيني، فسألت جهاد:
- هل هذه هي بلدة الموحدين؟!
ابتسمَت، ابتسامة خالية من أي تهكم أو اسخفاف، ابتسامة صافية وهي تجيب:
- نعم، هذا وطننا يا قيس.
وبمجرد قولها لذلك، نزل عبيد من حصانه وقبل بجبهته الأرض ساجداً حامداً شاكراً، لم نتردد قبل أن نفعل كفعله، تداخلت كلماتنا وهمساتنا، وكانت سعادة كفيلة بشق الأرض، عندما وقفنا مجدداً، كبرت، كبرت بأعلى صوت عندي، فاتحدت أصواتنا، كبرنا معاً، هنا سيخرج الأبطال الذين سيبيدون الكفر وينهون الظلم.
نزلنا من الهضبة بعد وصول أدهم مع الأمتعة، أوقفنا على طرف المدينة حارس، لم أنتبه للمحادثة التي درت بينه وبين جهاد، أعطته ورقة، رآها وكلم الدليل قليلاً، ثم فتح لنا أحضانه ورحب بنا في أحضان البلدة، ولجت من الباب العملاق وكأنني سجين يتحرر من سجنه، لقد كنت في المكان الصحيح، هكذا قلت لنفسي، ففي كل شبر من المدينة كان يوجد مظهر من مظاهر الإسلام، كان جميع الرجال معممين يسطع نور الإيمان من وجوههم، والنساء مختمرات تظهر أثار الاحتشام في سكونهن وحركاتهن، ومع أننا كنا وسط سوق إلا أن المكان لم يكن صاخباً، لا أحد يصرخ، ولا أحد يعارك أخاه على دينار، الأعمدة والأبنية جميلة وبعضها مزخرف وملون، المساجد لا بناء أكبر منها ولا سقف يعلو على مآذنها، بدوت بالتأكيد كرجل مجنون في تلهفي على رؤية كل شيء، ورغبتي في احتضان كل أحد، لكني لم أكن آبه إلا بحقيقة أننا وصلنا للوطن.
سار بنا أدهم حتى بلغنا صدر البلدة حيث بني أكبر مسجد، وملاصقاً له كان مبنى كبير كتب عليه "بيت مال المسلمين"، توجهنا إليه ودخله أدهم، بقي فيه بعض دقائق قبل أن يخرج لنا ومعه حقائب، أعطى لكل منا واحدة قائلاً:
- في الحقائب مصاحف وسجادات مع مال سيكفيكم حتى تجدوا عملاً، يمكنكم أن تبتاعوا بها ما تحتاجونه.
حينها شهق سلام وقال في غضب، كان حسب عهدي به يصطنعه ليس إلا:
- ذهبت تشحت عندهم وتطلب الصدقات؟ أين الرجولة؟!
أجاب أدهم مدافعاً:
- ماذا؟! أنا لم أشحت! هذا بيت المال.
فسألته:
- إذاً كم ثمنها؟
- ألا تعرف بيت المال؟ إنه للمسلمين جميعاً، ولا تدفع نظير ما تأخذه منه شيئاً.
- لا لا أعرفه، لم يكن لنا بيت مال في قبيلتنا.
- ولا في غيره من القبائل، أماتوا هذه السُنة فافتقر الناس وافتقروا.
فكرت لثانية، وسألت أدهم مجدداً أتأكد:
- بيت مال، للمسلمين جميعاً، صحيح؟
أومأ لي وقد علم أن شيئاً ما يخطر في بالي، وضعت يدي على كتفه وقلت له:
- أدهم، معنا كما تعلم أشياء تساوي ثروة، احتجناها في سفرنا، وقد وصلنا الآن آمنين بحمد لله فزالت حاجتنا، خذها لبيت المال.
- ألن تحتاجها؟
- حتى لو احتجتها، لا أريد أن أستعملها، أريد أن أجمع مالي بعرق جبيني وألبس ثياباً أستحق ارتداءها، أريد أن أتخلص من الماضي وكل شيء له علاقة به.
نظر أدهم لأصحابي يستشيرهم بعينيه، فأشاروا له بالموافقة، إلا جهاد:
- نعم حسناً هذه فكرة جيدة، لكني سأحتفظ بالمجوهرات، يمكنك أخذ ما سواها.
حينها قال أدهم:
- إنهم يوفرون كل شيء إذا كان هذا ما يقلقك.
- أريد أكثر مما يستطيعون توفيره.
لم يعلق أحد على طلبها، إلا أنني لم أستطع منع نفسي من سؤالها:
- لم؟ ماذا ستفعلين بها؟
صمتت وهي تتساءل عما إذا كان عليها إخباري، ثم قالت بهدوء:
- أرجو أنكم لم تنسوا هدفنا... لسنا هنا لنعيش كباقي الناس.
- لم ننس، ولهذا نعطي ما معنا، هذا سيساعد البلدة ويقربنا من أهدافنا.
تمتمت وهي تحرك كتفيها في قلة مبالاة:
- حسناً، ربنا لكل منا طريقته الخاصة في فعل ذلك.
قطع حديثنا قهقهة أدهم المفاجئة، نظر إلى جهاد عميقاً، ثم قال:
- أرى أنك تريدين اختراق ميادين الرجال.
- ملاحظة متأخرة.
- لم تسمى "بميادين الرجال" عبثاً.
- أدهم...
قالت جهاد بحدة قبل أن تلتفت إلى أدهم بكامل جسدها:
- اسأل أصدقاءك وسينصحونك بالإبتعاد عني.
تنهد أدهم مبتسماً قبل أن يخرج من جيبه مفتاحين، سلم واحدة لي وأخرى لجهاد مشيراً إلى مبنى قريب:
- على كل حال أنتم ستقطنون في هذا المبنى مؤقتاً، إنه خاص بالجدد، قيس أنت ستكون مع صديقيك وجهاد مع راشيل.
كنت منبهراً بكل شيء، ولم يتوقف أدهم هنا، بل أضاف:
- يوم السبت إذا صليتم الفجر، تعالوا إلى بيت المال مجدداً وعرفوا عن أنفسكم وسيعطونكم عملاً، كل بما يناسبه إن شاء الله.
نظر بعدها إلى راشيل وقال لها بلغتها:
- أما أنتِ، سيرسلونك لإحدى الكتاتيب لتعلم اللغة العربية كشيء أساسي، مع أصول الدين وبعض من القرآن.
- والقراءة والكتابة أيضاً؟
سألت راشيل بخفوت، كانت أمارات الحزن والتعب ما زالت بادية عليها، ابتسم أدهم وهو يخبرها أنهم سيعلمونها القراءة والكتابة أيضاً حتى تتقنها، ثم طلب منا أن نلحقه، ذهبنا إلى السوق واشترينا ثياباً مما يرتديه الناس هنا، فرحت بها أكثر من أي ثوب حصلت عليه في الأعياد التي مرت علي، ولا بد أن أصحابي شاركوني هذا الشعور، لكني لاحظت بكل أسى العدد الكبير من الشباب مقارنة بالكبار والرجال والأطفال، لقد كانت تلك الشريحة هي الأكثر حظاً، والأقدر على النجاة، لذا كانوا يفوقون غيرهم بفارق هائل.
لم يتركنا أدهم حتى انتهينا وعدنا لمسكننا، ظل معنا يعلمنا ويرشدنا بكل رفق وصبر، لكنه توقف أمام المبنى قائلاً:
- انتبهوا إلى أنفسكم، ولا تخافوا من شيء هنا، الكل سيساعد، والكل يد واحدة.
- وأنت يا أدهم، أين ستكون؟
سأل عبيد وقد نبهه حسه إلى أن كلمات أدهم مودعة أكثر منها إرشادية، أخذ أدهم طرف عمامته ولثم بها وجهه، ثم قال:
- سأكون مع إخواننا المسلمين الذين يريدون المجيء إلى هنا، فهذا عملي، أن أكون دليلاً.
- جعله الله في ميزان حسناتك أخي.
قلت وأنا آخذ أدهم في حضني، ودعناه قبل أن ننطلق إلى المبنى الذي سنسكنه، كانت حجراتنا في طابق مرتفع، صعدنا الدرج حتى وصلنا إليها، حجرتنا هي الأولى تليها غرفة جهاد، افترقنا أمام تلك الأبواب واستوعبت لحظتها شيئاً، الآن انتهت رحلتنا معاً نحن وجهاد، سينطلق كل واحد في طريقه، فما الذي يجمعنا؟! لا شيء، فلسنا إخوة ولا أقرباء ولا أصحاب، مجرد مسلمين جمعنا الشتات، أما وقد صرنا بمأمن، فقد آن أوان الفراق، وقفت أمام الباب ثواني وقد أدركني هذا الخاطر، بينما دخلت جهاد حجرتها دون أدنى اهتمام، حتى راشيل التي لم نجتمع بها إلا متأخراً، بدا أن في نفسها الذي في نفسي، ولسبب ما، آلم فؤادي هذه الحقيقة، مع أن الذي كان يفترض أن أشعر به في تلك اللحظة هي السعادة، السعادة للتخلص من سطوة جهاد أخيراً... ربما طول الرفقة ومكابدة الصعاب معاً، جعلتني أعتبرها أختاً لي وأتعوض بها عن غياب سارة، نعم هذا أكيد، ومن الأكيد أيضاً أنها لم تكن تشعر بما أشعر به ولا تعتبرني أخاً لها، أو أي شيء آخر، ليس فيما يظهر لي على الأقل.
- أستودعكما الله...
قلت وأنا أفتح باب الحجرة، خيل إلي أن جهاد همهمت بشيء ما، لكني لم أرد أن يتنبه صاحبي إلى الذي انتابني، فنفضت هذا الخاطر ودخلت الحجرة، كانت أبسط من الأماكن التي نمنا فيها سابقاً، ولكني شعرت بالراحة فور رؤيتي لها، ثلاثة أسرة مرتبة ونافذة تطل على ساحة المسجد، الجدران والأرضية نظيفة، أحببناها جميعاً، ولكني اختلفت مع سلام في من يأخذ السرير الذي بقرب النافذة.
- أنا الأكبر، لذا أنا سآخذ هذا السرير.
قال سلام، فدفعته قائلاً:
- العجائز يجب أن يناموا قرب الحمام حتى لا يتعبوا في الوصول.
- والأطفال أيضاً حتى لا يبللوا فرشهم!
حينها قفزت على سلام وصرعته أرضاً، جلست عليه حتى لا يتحرك وأنا أضحك ضحكة المنتصر:
- ابتعد عن سريري، البقاء للأقوى.
أشار سلام إلى عبيد بحركة سريعة، فالتفتُّ لأجد عبيداً قد وضع حقيبة سلام على السرير الذي نتقاتل عليه.
- الآن صار السرير ملكي لأني وضعت أمتعتي عليه أولاً، قم عني أيها الجمل!
قال سلام لأنظر إلى عبيد نظرة المتحسر:
- أهكذا تخون صديقك يا رجل؟!
- لا لكني أريدك بقربي.
- ولكني أريد أن أكون قرب النافذة!
- تفضلها علي؟
سكت، اليوم غلبني الإثنين، حاول عبيد مواساتي بينما قفز سلام على السرير وهو يقول:
- هكذا تتعلم أن البقاء للأذكى.
ضحكنا، وربما لأول مرة، ضحكنا بملئ قلوبنا، براحة وسعادة ورضى، ضحكنا كأطفال تستثير أبسط الأشياء فرحتهم.
* * *
بمجرد دخولهما الحجرة، لم تتلكأ جهاد في ترتيب ما كان معهم من أمتعة قليلة، جلست راشيل على أحد الأسرة وهي تضم ركبتيها، لم تتحدث كثيراً في الآونة الأخيرة، تأملتها جهاد بصمت قبل أن تقترب منها وتقول بهدوء:
- راشيل، ما الأمر؟
ترددت راشيل قبل أن تجيب، نظرت إلى جهاد ثم أشاحت بنظرها:
- أشعر بأني غريبة هنا، هذا ليس مكاني.
صمتت جهاد لثانية وهي تتأملها قبل أن تأمر:
- حسناً راشيل، قومي وساعديني على الترتيب.
- ما... ماذا؟
- لستِ ضيفة حلت علي، هذه حجرتنا نحن الإثنتين.
أظهرت راشيل ابتسامة شاكرة لمحاولات جهاد في جعلها تشعر بالإنتماء، وانبسطت في جلستها مقتربة من جهاد، ثم قالت:
- جهاد، هل يمكنك أن تعديني بأنك ستبقين معي؟ دائماً؟
- حسناً إذا لم تكوني كقيس وصاحبيه وسمعتِ كلامي...
- ستبقين معي؟
- سأبقيكِ معي.
ثم تركت ابتسامة ممازحة تظهر على شفتيها، عانقتها راشيل وهي تعلن:
- حسناً، هذا وعد!
طلبت جهاد من راشيل أن تبدل ثيابها علها ترتاح فيها أكثر ويزول شعور الغربة، فبدلت ثوبها وبدت شخصاً جديداً في حلتها البنية، وقفت طويلاً أمام المرآة وهي تعدل خمارها، قامت بليه عدة مرات قبل أن تشعر بأنه أعجبها، التفتت حول نفسها وهي تشاهد ثوبها الجديد يتحرك كبتلات زهرة تحركها الرياح، كان ثوبها أفتح من لون الخمار، على كميه وياقته طرزت خطوط سوداء بسيطة، وبالنسبة لراشيل، كان أجمل شيء ارتدته في حياتها كلها.
- هل أنا جميلة؟
سألت راشيل لكن جهاد لم تجبها، انتبهت حينها إلى أنها كانت تصلي، انتظرت حتى انتهت من صلاتها ثم سألتها:
- ما هذه الصلاة؟ هل حان وقت العصر؟
- لا، أصلي شكراً لله.
- حسناً، ما رأيك بي؟
- يناسبك تماماً.
كلماتها البسيطة رسمت ابتسامة خجولة على وجه راشيل، لكن شيئاً آخر كان على بال جهاد في تلك اللحظة، اتجهت نحو النافذة المفتوحة وأخذت تتأمل المنظر متفكرة.
- ميادين الرجال ها...
شعرت راشيل بأن جهاد قصدت التحدث بالعربية حتى لا تفهمها، بقيت واقفة خلفها وهي ساكتة، وعندما طال مكوث جهاد أمام النافذة سألتها:
- هل هناك ما يزعجك؟
- نعم.
كانت راشيل تتوقع جواباً بالنفي، لكن جهاد كانت صريحة، في نظراتها وكلماتها، كان هناك ما يضايقها، كلمات أدهم السابقة لامست فيها شيئاً، ورغم أنها استطاعت أن تخفي عنه تأثرها، إلا أنها لم تستطع الإمتناع عن التفكير في كلماته، كلماته التي ذكرتها بأمنية قديمة.
* * *
نمنا حتى صلاة العصر، وعندما علا صوت الآذان وثبنا من فرشنا مفزوعين، لا بد أننا جميعاً كنا لا نزال نظننا في دار التأهيل، هذا الصوت العالي الذي ينادي "حي على الفلاح" كان شيئا جديداً علينا.
توضأنا ثم سارعنا إلى ارتداء ثيابنا الجديدة، لم تكن ياقات خانقة وبدلات ضيقة، بل قمصان واسعة، وكم عانينا حتى نعمم رؤسنا، ليس لأننا لم نرتديها منذ زمن، بل لأنها كانت أول مرة نرتديها أصلاً، إذ لم يكن من المعتاد عندنا أن يتعمم الشبان إلا في المناسبات والاحتفالات.
- انسوا أمر العمائم، سنتأخر عن الصلاة هكذا.
قلت وأنا أستعجلهم، فقال عبيد:
- لكننا لم نر أحداً يمشي حاسر الرأس هنا، لا بد أنه شيء غير لائق.
- عندي فكرة.
قال سلام ثم أكمل وهو يلف العمامة بحركات عشوائية:
- نخرج هكذا ثم نتشاجر في الطريق فيبدو أن عمائمنا كانت مرتبة حتى تعاركنا!
ضربت سلاماً على ظهره بقوة خلت أنها كسرته وأنا أدعو الله جهراً أن يهديَه، ثم قلت:
- انسى الأمر، الأفضل أن نسأل أحد الجيران فلعله يساعدنا.
- جهاد مثلاً؟
عاد سلام للحديث بعد تلك الضربة التي ظننتها أسكتته، ولولا أنه فر هارباً لضربته ضربة أخرى أوجع من الأولى.
دون أن يضيف أية كلمة، توجه عبيد نحو الباب وعمامته في يده، فتح الباب ثم التفت إلينا قائلاً:
- أنا سأذهب هكذا وليحدث ما يحدث.
- هكذا ما اقترحته أولاً لكنك اعترضت بأنه شيء غير لائق!
قلت معاتباً وأنا أتبعه إلى خارج الحجرة، أغلق سلام الباب ثم لحقنا ولحسن حظنا، صادفنا شاباً قبل أن نخرج من المبنى، تقدم سلام وسأله في لهجة المستنكر:
- كيف تضع عمامتك يا رجل؟!
تحسس الشاب عمامته بيده وهو ينتقل ببصره بيننا قائلاً في خفوت:
- كوا؟ ما بالها عمامتي؟
تجاهل سلام استعمال الشاب اللغة الفرنسية لقول "ماذا"، وقال له:
- ليس هكذا توضع العمائم.
- صحيح؟ وكيف توضع؟
- أرنا كيف وضعتها أولاً.
دفع عبيد سلاماً في رفق وقد فهم خطته، ذاك الفتى لم يكن ليتوقف عن حركاته ويهجر طبعه المازح أبداً.
- لقد وضعت عمامتك بشكل جيد، لكننا لا نعرف كيف نفعلها، هل تعلمنا ذلك؟
قبل الشاب مساعدتنا عن طيب خاطر، ولم ينقلب علينا ثائراً كما قدرت أنه سيكون، هرولنا بعدها إلى المسجد، وبالطبع، لم نستطع إدراك الصف الأول، ولولا لطف الله لما وجدنا مكاناً إلا في صفوف النساء.
كبر الإمام، وحينها شعرت بذلك...
مع أن كل شيء جديد هنا، كان يثيرني ويحمسني، إلا أن هذا كان يستحق الحماس والإثارة، أكثر من أي شيء آخر؛ وقوفنا بين المصلين والإمام يتلو بصوت جهوري يخترق حدود البدن فينفذ في الفؤاد ليفقدك الإحساس، الإحساس بكل شيء حولك، أنت ترى شيئاً واحداً، لا... أنت لا تراه لأنك لا ترى شيئاً على الإطلاق، بل تشعر به، مستعملاً حواساً أخرى تستيقظ في الأوقات التي تصحو فيها روحك لتأخذ زمام القيادة، كل حركة وسكنة أشعرتني بأني أخوض تجربة جديدة رغم أني أفعل ما فعلته دائماً! الصلاة، لكني الآن، وعكس المرات التي كنت أؤدي فيها الصلاة فقط، الآن فقط، كنت أقيمها.
لمست من ملامح صاحبي الهادئة والمطمئنة أن شعورهما في الصلاة كان مماثلاً شعوري، خرجت مع عبيد في تؤودة بعد قليل من انتهاء الصلاة، ووقفنا ننتظر سلاماً الذي استأخره شاب فاتحه بالحديث.
وحينها لمحتها مع الخارجين، لمحت جهاد، كانت تسير على مقربة منا فتبعتها بعيناي أتساءل عن وجهتها، لم تكن عائدة للمبنى، بل ذاهبة لمكان آخر لا أعرفه، ومع تتبعي لها ببصري، أدركت أنها لم تكن وحدها، بل مع شخص آخر، لم أكن أعرفه أيضاً، صرفت بصري سريعاً حين قصدني عبيد بحديثه سائلاً:
- قيس، أليست هذه جهاد؟
قاتلت حتى أخفي اضطرابي من سؤال عبيد المفاجئ، وقلت بلهجة طبيعية لأقصى حد أمكنني جعلها كذلك:
- نعم أنت محق، لا يهم... علينا أن نعود إلى حجرتنا وننام مبكراً فغداً يوم الجمعة.
- ننام؟ لقد صلينا العصر للتو!
- أقصد حين يحل الليل بالطبع... لا أريد أن أصلي صلاة الجمعة في الصفوف الأخيرة بسببكما.
- بسببي أم بسبب سلام؟
سأل عبيد فأجابه سلام وقد ظهر فجأة بجواب لم أسمعه، وأخذا يتراشقان الاتهامات وأنا لا أكاد أستمع إليهما بسبب الحيرة التي تملكتني، من ذاك الذي كان مع جهاد؟ وإلى أين كانا ذاهبين؟
دخلنا الحجرة فاضجعت على فراشي أراقب السقف وأنا أفكر في سارة التي قفزت إلى ذهني دون سابق إنذار، ما الذي تفعله يا ترى؟ وهل هي على قيد الحياة أصلاً؟ هل تجد ما تأكله وتشربه وتلبسه؟ وهل... وهل هي متمسكة بدينها؟..
وثبت من فراشي فور طفوِ السؤال الأخير على السطح، لم يكن سؤالاً أود التفكير فيه، وليس عندي عدة وعتاد يعدانني بأني سأفوز في هذه المعركة، وأثبت، بما لا شك فيه أن سارة الآن تقاتل لإحياء الدين!
هل كان هذا سوء ظن فيها؟ لا، بل خوفاً عليها، من بين أولئك القلة القليلة التي حاولت أن تعض على الدين بالنواجذ، وتلزمه رغم شيوع الإنحراف وكثرة الفجور، كانت سارة... فتاة شديدة التدين والهدوء، خلوقة ومتأدبة بما أسمته يوماً آداب الرسول، كانت تحاول التشبه به في كل شيء، كانت تسعى للخير، ولا تيأس من إقناعنا به، ولولا أنها تزوجت في سن صغير، وانتقلت إلى قبيلة زوجها الذي لم يصبر على عدم أذيتها وإذاقتها أنواع المآسي والعذاب، لكانت أقربنا من جدي رحمه الله.
شيء ما... منعني من كبح جماحي، وامتناعي عن التفكير فيها، فمن بين المرات القليلة التي حظيت فيها بزيارة من سارة لنا، رغم معارضة الكثيرين، وعدم محبتهم لها، كان يوماً ربيعياً مشرقاً لن أنساه، وعكس الآخرين الذين ذاقوا منها ذرعاً، أحببتها دائماً، مع ما أذاقتني أنا أيضاً من الوعظ الذي لم ينفعني كثيراً، فإذا كان جدي قد فشل في تغييري، لم يكن لها أمل في أن تصنع أفضل منه، لكنها كانت شعلة عجيبة من الأمل، لا تيأس، الكلمة الوحيدة التي لم توجد في حياتها أبداً: هي القنوط.
* * *
دخلت الخيمة في هدؤها ورقتها المعتادة، في فستان أسود مخطط بالأحمر، فاستقبلتها مع والدتي، وكعادتها قامت تقبل رأس والدتي ويديها، وحضنتني بقوة ودفئ، ومن حسن حظنا أن والدي وأعمامي وأخوالي وأبناؤهم كانوا في الخارج لشأن من شؤونهم، فلم يكن بإمكان أحد أن يقطع لحظاتنا الجميلة، وينهي الجلسة بكلمات مقتضبة أو أوامر لا تقبل المناقشة.
- كيف حالكِ، عزيزتي سارة؟
سألت أمي وهي تفيض حباً وشوقاً عجزت عن إخفائه، كنت أعلم أنها مثلي تحب سارة، بل تهيم بها ولا تطيق عنها بُعداً، لولا أنها تقدم والدي على كل أحد، وتطيعه طاعة عمياء، أحياناً من عشقها له، وأحياناً أخرى كثيرة لخوفها منه، وهو الذي يكره سارة التي انتشر بين الناس بسببها، أنه لا يقدر على نساء بيته، ويعجز عنهن.
- على خير ما يرام أمي...
لم نصدقها إطلاقاً.
- هكذا إذاً يا ابنتي، الحمدلله.
لكننا لم نظهر ذلك، بل استقبلنا كذبتها بابتسامة، كادت تصبح ضحكة من شدة مبالغتنا فيها، كانت تكذب، أو ربما كانت صادقة حسب فلسفتها التي كانت تكررها دائماً: ما دام هناك رب يرعاني، فمهما ساء الحال، أنا بخير.
أرادت أمي أن تجهز الشاي لكن سارة أصرت على مساعدتها، ويبدو أن أمر حضورها قد انتشر بين النساء، فجاءت بضع نسوة إلى الخيمة يستأذن في الدخول، كادت أمي تعتذر لهن لولا أن سارة أكدت لها أنها لا تمانع مجيئن، وأن الأمر سيصبح أسوأ لو رفضنا دخولهن، سيشعرن بالإهانة ولن تسلم من النتائج... نظرت لي أمي بإشفاق، فبادلتها النظرة، ولم نجد بداً من تركهن يدخلن في النهاية رغم أننا نعرف ما ستلاقيه بسبب ذلك.
كانت سارة عقيم، لا تنجب، وبالنسبة لمعتقداتنا وأعرافنا، كانت المرأة التي لا تنجب خرقة بالية، لا فائدة منها على الإطلاق، فالرجل يتجار ويحارب، والمرأة لا تفعل شيئاً إلا الوضع والتربية، فإن لم تقدر على هذين العملين، ماذا ستفعل؟!
لا شيء، ليس لأنها عاجزة عن غيره، بل لأنها كانت ممنوعة من فعل شيء سواه، وعدم قدرتها على الإنجاب، هو ما نفر منها زوجها، وكرهها فيه، وتغير عليها بعد كان حملاً وديعاً، فبطش بها بطش الأسد لفريسته، ومع ذلك، لم تشكو سارة يوماً، وما كان يصلنا من أخبارها غيض من فيض مما يعجز الإنسان عن ستره من ألسنة النساء، لم يتخذ أحد من الرجال موقفاً حقيقياً، باستثناء جدي الذي هدد وتوعد، بل أوشك أن يشعل حرباً بين الطرفين، فصار الجميع وبالأخص سارة يحرص على ألا يصله أي خبر عنها.
أخذت سارة في إعداد الشاي بينما تبادلت والدتي التحية والأحاديث العابرة مع السيدات الثلاث، ثم، وفي تحفظ واضح، قدمت سارة أكواب الشاي لهن وهي تطلب منهن أن يتفضلن ولا يخجلن، ويبدو أنهن فهمن كلامها بشكل خاطئ! أو أخذنه بمعناه الحرفي، فقالت إحداهن في جرأة تتساقط دونها جرأة الرجال:
- أين أولادك؟
ابتسمت سارة ابتسامة معوجة، وأجابت متمتمة:
- ليس عندي أولاد، تعرفين ذلك يا خالة هيفاء...
- أوه لا لم أكن أعرف، المعذرة فقد ظننتكِ أنجبتِ منذ آخر مرة رأيناك فيها.
- كم مر على ذلك؟
سألت أخرى، فأجابت الثالثة:
- ربما سنتين.
نظرن لبعضهن، في تعجب مصتنع، وتوجن صمتهن بقول هيفاء تخاطب سارة بكل وقاحة:
- أربعة وعشرون شهراً لم تكفكِ؟ الدجاجات تبيض يا عزيزتي، هل أنتِ ديك؟
ثم علا صوت ضحكاتهن، لقد كن يتشفين لبناتهن، كن يفرغن حقد قلوبهن في سارة، كانت فاتنة الجمال، ذكية وطيبة القلب، كما أنها متزوجة من رجل وسيم سيكون قائداً يوماً ما، فكان يعجبهن دهسها، بكل قسوة.
لم أتحمل ضحاكتهن الماجنة، ورأس سارة المنكس، فهممت بأن أرد عليهن لولا أن سارة قالت، وبصوت رزين جاد، لا يوحي بأي ضعف أو انكسار:
- {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور}... الأمر بيد ربي، إن شاء جمل بيتي بالأطفال وملأه بضحاتهم ومشاكساتهم، أو يمنعم عني لحكمة يعلمها وحده جل جلاله.
- كوني واقعية، لربما نسيكِ فحسب.
نظرت سارة لتلك المرأة مصدومة، لا لوقع كلماتها المؤذية عليها، بل لأنها تتعدى بها على المقام الإهي، ولكن قبل أن تمنحها فرصة للإجابة والإنكار، أضافت هيفاء بلهجة لا مبالية كأنها تتحدث عن مزاج زوجها:
- يقال أن المرأة التي يعطها الله جمالاً ينسى أن يعطيها عقلاً، ولكن يبدو أن المقولة الصحيحة هي أنه يعطيها جسداً وينسى أن يعطيها رحماً!
ظهر التأثر والتألم جلياً في وجه سارة، ولم يمنعهن ذلك من الضحك بصوت أعلى، فلم أطق أكثر من ذلك ووقفت كالثور الهائج، أمسكت بذراع سارة أجرها للخارج، لم أنبس بأي كلمة أو أحاول الرد عليهن، كان كلامهن فوق الاحتمال.

أنت تقرأ
آخر الموحدين
Randomفي عالمٍ مُدمر، حيث الظلم والكفر يلفان كل شيء، يقف قيس، الشاب التائه، على حافة الهاوية بعد أن فقد أسرته وأرضه في مذبحة وحشية طالت أمة الإسلام، ليجد نفسه مع بعض المرافقين وسط البحر، لا يصحبهم سوى شبح الماضي المؤلم وأمل خافت في المستقبل. لكن، يلتقي قي...