ثم لم يبق أحد

47 6 5
                                    

كنت أنظر إلى إصبع قدمي المخلوع ظفره وقد برز من مقدمة حذائي المتقطع، وفي لحظة باغتة، بدأت إحدى الذكريات تستعرض مفاتنها أمامي، راودتني عن نفسي وهمت بي وهممت بها، حاولت في البداية أن أقاوم لكني انتهيت بالإستسلام لها... رفعت يدي في الفراغ كأنما أحاول إمساكها قبل أن أشعر بنفسي وأسحب يدي في استحياء، كم مضى على ذلك الحدث يا ترى؟ ست سنوات أم عشر أم أكثر؟! لا أعلم، ولم أكن أريد ذلك، أريد أن أصدق بأنني ما زلت في ذلك الحدث ولست حيث أنا، لست هنا.
في نهاية المطاف، تملكتني تلك الذكرى وسيطرت علي تماماً حتى شعرت بكل لحظة كأنها تحدث أمامي مجدداً، كنت في سن صغير حينها، مجدداً لا أتذكر الرقم، لكن من هيئتي لعلي كنت في السابعة أو أصغر بقليل، كان يوماً اختطفت فيه حين كنت ألهو في إحدى المناطق البعيدة عن الخيام، وكانت الذئاب البشرية لي بالمرصاد، فلم تفوت تلك الفرصة وانقضت علي لأجد نفسي بعدها في الأسر، كنت للأسف طفلاً جباناً لذا ظللت مرعوباً منكمشاً على نفسي كقطة حاصرتها كلاب مسعورة من كل اتجاه، ولكن كان لخوفها وجه حق، أما أنا فلا! هذا ما كان ليقوله جدي لو رآني.
ولحسن حظي أو ربما سوء حظ هؤلاء، سرعان ما تم إنقاذي من أيديهم وخرجت سالماً كأنما كنت في نزهة، وانتهى نسل تلك القبيلة إلى الأبد، لم يكن أحد يستطيع التغلب على والدي، محال، لقد كانت جريمتهم حكماً عليهم بالإعدام، أو بالأصح قراراً منهم بالإنتحار!
هرولت إلي أمي مذعورة وأخذتني في حضنها كأنها تود إعادتي حيث كنت يوماً، جنيناً في أحشائها يأتيه رزقه رغداً، لا يتأسف ولا يخاف ولا يحزن ولا يقلقه شيء، وبعد دقائق كدت أختنق فيها أبعدتني عن صدرها وسألتني في إشفاق أم رؤوف:
- ولدي حبيبي، ما الذي فعلوه بك؟!
وقبل أن أجيبها ظهر جدي من حيث لا أعلم كما يظهر ملك الموت لمريض رجيت له الحياة، وفي حين أصرت والدتي على سؤالي عما فعلوه بي، سألني جدي بلهفة ممتزجة بالوقار:
- ما الذي فعلته بهم؟..
لم يكن هذا ليحدث لغيري، ربما كنت أذكى من أقراني، وأكبر من عمري، لكنني أدركت شيئاً في تلك اللحظة، ونظرت لجدي قليلاً ثم انتقلت ببصري لأمي، وكررت ذلك لمدة ليست بالقصيرة وأنا أفكر في شيء واحد:
- أمي في عالم، وجدي في آخر!
ولسبب ما، راقني عالم جدي أكثر، فالتفتت بكامل جسدي نحوه التفاتة استنكرتها أمي، وبدأت أحكي له -كاذباً ومدعياً- عن وقوفي أمام هؤلاء الظلمة بكل عناد! وأخبره عن الشتائم التي انهلت بها عليهم، وكيف أنني قمت بعض زعيمهم عضة أفقدته توازنه! لم أكتفي بذلك، بل حكيت له عن كيفية بثي لروح الشجاعة والتفاؤل في الأسرى الذين كانوا معي، ولولا أن حلقي قد جف بعد كل تلك الحكايات لكنت أخبرته بأنني جعلت أحد الأسرى يُسلم، وقد صدقتُ كذباتي كما يبدو، لأنني شعرت بالفخر من تلك الدعاوى لمدة ستة أشهر لاحقة، أما جدي المسكين فقد حلف للقوم يومها أني سأكون ولداً ذا شأن، ويالخيبته... دين عليه صيام ثلاثة أيام على حنثه وهو لا يدري.
تنهدت، ولكن همومي لم تخرج مع الزفير بل انضمت إليها أخرى مع كل شهيق، نعم لقد اتقدت نيران صدري غضباً على والداي، إلا أنه لم يكن سهلاً علي أن أراهما يذبحان كما كانا يذبحان البهائم، وحتى مع حنقي على رجال قبيلتي ونسائها، الذين انتشرت فيهم الرذائل، وشاعت بينهم الفواحش، وقيل عن من تبقى من صالحيها: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون... إلا أنني شعرت أن دمهم الذي أراقه العدو كان دمي، والجلود التي سلخوها كان جلدي، ولكن ما ينفعني كل هذا الآن؟ ما تنفع هذه الخواطر يتيماً وسط البحار وقد فقد كل شيء، كل شيء باستثناء حياة هي أهون عليه من ثوبه الممزق؟.
رحمك الله يا جدي، كنت تقول دائماً: إما أن يجتمع المسلمين، وإما أن تهرب فهذا نذير هلاك!
ليس على هذا ربتني أمي، أو حثني عليه أبي؛ لقد كان يخطب في القبيلة بما يثير حقد رجالها على بقية القبائل، وإن عقد معهم عقداً فللإتحاد ضد القرى، أو مع القرى ضد المدن، أما والدتي التي كانت تلقن القرآن والحديث لأولاد القبيلة، فلقد كانت تقيم مجالس للنساء وتشعلها غيبة ونميمة وهمزاً ولمزاً وطعناً في الأعراض.
جعلوني أنسى وصايا جدي وكلماته وتحذيراته، أنا الذي لم أكن أبرح خيمته إن لم يبرحها، صرت أسيراً للعادات والتقاليد، صرت حبيس الأفكار الدخيلة والأقوال المشوهة، هذا كل ما استطعت التفكير فيه، طوال الوقت حتى خيل إلي أن ذهني يستغيث.
مضى شهر كامل ونحن في المحيط، لا نهتدي سبيلا، ولا نعرف طريقا، أنا وثلاث شباب يقاربونني في السن، جلال وعبيد وبنغال، ورجل مسن مصاب بضعف في عقله، ولم يعرفنا باسمه، وآخر في العقد الثالث من عمره واسمه حمزة، قوي البنية شديد البأس، ومنى، فتاة صغيرة لم تبلغ بعد، وهي أسوأنا حالاً، إذ لم يكن سنها يهيئها لتلقي صدمات عنيفة ورؤية مشاهد مريعة، والأخيرة شابة قد قاربت العشرين، أصرف بصري عن تأمل عينيها الزرقاوين وشعرها الأشقر وجسدها الممشوق بصعوبة بالغة، لا لوازع ديني، فقط حتى لا تلحظني، اسمها إبريز وهي ابنة أحد أكبر ملوك المسلمين، لا يعلم بذلك غيري إذ أنني رأيتها مرة حين زرت قصرها مع أبي وكبار رجال القبيلة، لكنها حتى الآن لم تتعرف علي، أجدها أغلب الوقت قلقة ومذعورة تلتفت يمنة ويسرة، وتستر بدنها وأكثر شعرها بثوب لا يليق ببنات الملوك لتخفي عن الأعين الفضولية حقيقتها، وبذلك كنا ثمانية، فرقتنا مجازر المسلمين وجمعتنا حروب الكفار.
رغم حالتنا السيئة إلا أنني كنت أرى بين الحين والآخر بعض الحماقات التي كنت أرتكبها -وما زلت- تحدث هنا، حيث لا يتوقف حمزة عن معاكسة إبريز، لم يتعب من ملاحقتها ولم تتعب هي من مدافعته والإمتناع عنه، وقد يظهر بعضنا حقده على أبناء باقي القبائل، ولست بمعزل عن ذلك، فبيننا بنغال شاب أسود معوج الأنف كان أسيراً يخدمنا واليوم يقاسمني خبزي!
أما سفينتنا فمن السفن الشراعية الصغيرة التي جهزت للرحيل، والتي من حسن حظنا كانت محملة بالزاد والمتاع، ولقد كرهت تلك السفينة، وكرهت أهلها، بل وفكرت في تسليم نفسي لعدوها أو لخالقها.
لكن هناك شاب واحد فقط، وهو جلال، مختلف عن غيره، رؤيته وحدها تبعث بعض الأمل وتخفف عن النفس ما تجده، أسود الشعر صغير العينين، شديد بياض الوجه، حسن الشكل متناسق الهيئة ذا لحية خفيفة زادته حسناً، كأنه خرج من دفتي كتاب يتحدث عن الصالحين، هو الوحيد الذي يصلي بيننا، وهو طيب القلب لين الجانب عذب الكلام، حمل على عاتقه مسؤولية توزيع الطعام وتخزينه وتنظيمنا وتوجيه السفينة، فلديه بعض الخبرة بسبب سفره كثيراً مع عمه الملاح، يعظ حمزة أحياناً وينهاه بلطف عن أفعاله، مستمراً على ذلك رغم الأذى الذي يتلقاه من حمزة لطبعه الحاد، وهو الذي يخفف عن منى ويسليها، ويساعد المسن على ما يعجز عنه وحده، تراه لا يضجر من مناداتنا للصلاة، ويستقبل عنادنا وشتائمنا بصبر ورحابة صدر، بيد أنه ابن أرملة، بينما والدي كبير قبيلة من أقوى القبائل، فلم أتودد إليه ولم أجب على أسئلته أو أشاركه الحديث، وما يغيظني، أن البقية بدأوا يستلطفونه، ويحسنون الكلام معه، ويتبعون توجيهاته، لقد استعبد قلوبنا، لكن لماذا جلال وهو ابن أرملة وليس أنا ابن القائد؟! يا لتفاهتي وخفة عقلي، ابن قائد؟ أما زلت أصدق أنني ابن قائد؟!..
- ألا تأتي وتتناول الطعام معنا يا قيس؟
التفت فإذا هو جلال، بصوته الهادئ وابتسامته التي لم تؤثر عليها الأهوال، رمقته بنظرات حادة، وقلت:
- أحضره وضعه بجانبي.
فانحنى وقال لي مقترباً:
- لقد قبل الجميع بالإجتماع لنأكل معاً، فبذلك سيبارك الله لنا في طعامنا الذي بدأ يقل، ونحن في انتظارك.
إنه يذكرني بجدي، شيء فظيع كيف تتشابه كلماتهما، نظرت إليه، سكت، وكنت سأرفض، لكن عنادي انكسر أمام حدة الجوع، فقمت معه وأنا لا أكاد أتحكم في قدماي اللتان قد تعبتا من ميل السفينة تارة لليمين وتارة أخرى لليسار.
جلست الفتاتان في جهة والبقية في جهة حول مائدة واحدة، عرفت من وجه حمزة أنه حضر على مضض، بدى أن جلال بذل جهداً ليجمعهم على مائدة طعام أعده وحده.
جلست وعلى يميني عبيد، نظرت إليه، لم ألحظ هذا الشاب النحيل من قبل، كان يجلس بقلق وهو يقضم شفته السفلى وقد صفعت أشعة الشمس بشرته السمراء، وجلس على يساري جلال، انزعجت ولكني لم أظهر شيئا من ذلك، مددت يدي، فقال جلال:
- قولوا باسم الله.
وشرع الجميع في الطعام، تعمدت ألا أسمي! قلت لعل ذلك يغيظه، لكنه أحسن النية وافترض أني تمتمت بها بيني وبين نفسي، ولسبب ما، عادت تلك المشاعر التي تجمدت بفعل الزمن للذوبان، الأيدي التي تسابقت للأطباق، وأصوات المضغ، ومشاهدة الجالسين وقد ارتاحوا قليلاً بفعل اجتماعنا، واطمأنوا بسبب وفرة الطعام، لقد تذكرت أسرتي، شيء واحد لم يكن يقبل والدي التفاوض فيه؛ ألا وهو اجتماع الأسرة كلها من أكبر جد إلى أصغر حفيد على مائدة العشاء، وويل لمن يتغيب عن الحضور، كانت الخيمة تمتلئ كل مساء بالضحكات والإبتسامات بسبب القصص الشعبية التي يرويها الكبار، والنكات التي يلقيها الشباب، واللطافة التي يبديها الأطفال، حقاً كنا أسرة سعيدة... أو في غفلة، وما ضر الغفلة إذا حفتها السعادة؟! نعم، أنا كنت مسروراً ورغم أنف كل متدين.
لكن، هل بدأ كل شيء وانتهى في ليلة واحدة؟ لا.. بدأ الأمر حين كنت غلاماً يرضع من ثدي أمه لا يحمل هماً سوى إشباع بطنه، كما حكى لي جدي، لقد نشبت معارك واشتعلت حروب داخل قلب المسلمين ثم خرجت كالوباء لتشمل كل موحد على وجه الأرض إلا من رحم الله ممن لا صوت يسمع لهم ولا يد يؤخذ بها، ثم انتهز الكفار تلك الفرصة، فاجتمعوا ضدنا، وانقضوا علينا، ثمانية عشرة سنة وانتصاراتهم تتوالى وبطشهم يزيد وشرهم ينتشر حتى لم يبقى إلا قلة من المسلمين المهزومين، فاضطررنا للفرار بحياتنا وعائلاتنا إلى البحر بعد أن لم ينتصب في البر جذع شجرة إلا وخلفها عدو يتربص بحياة الأبرياء.
كنا على وشك النجاة.. فقط لو أننا سبقناهم بيوم، يالله لو أننا سبقناهم بيوم لما استطاعوا أن يضربونا تلك الضربة المميتة على ميناء السفن ولنجى ملايين المسلمين، وليس "ثمانية" فقط.
- قيس..
خرجت من شرودي على صوت جلال، لقد لاحظ هدوئي وتوقفي عن الأكل.
- هل أنت بخير؟
كوت الذكرى فؤادي فلم يسعني إلا أن ألين له العبارة:
- نعم..
لست أفهم نفسي، إنني معلق بين كرهي لهذا الشاب وبين اعجابي به، هل أعطيه فرصة أم أبقى على ما أنا عليه؟ لا يمكن لهذا أن يفعل بي كما فعل بالبقية، أنا أقوى من ذلك.. لكن أقوى من ماذا؟! من أن أرد الإحسان بالإحسان؟! أن أتعاون مع من مد لي يده؟! أليس هذا في الحقيقة ضعفاً يا قيس؟.
لحسن حظي قطع حبل أفكاري سؤال بنغال، بصوت منخفض، لا يخفى على السامع أن قائله قلق، معتاد على حياة الذل والعبودية:
- هل تظنون أننا آخر ثمانية مسلم على وجه الأرض؟
حدقت العيون به، إنه سؤال حاول بعضنا التهرب من الإجابة عنه، إما خوفاً من الجواب أو عجزاً عن إيجاده، وربما اتقاءً مما قد يعترينا لو جاءنا يوماً وهدم كل آمالنا، ضحكت في نفسي متسائلاً: آخر ثمانية مسلم؟! وهل نحن مسلمين أصلاً؟!
بادر جلال بالقول محاولاً أن يردي اليأس قتيلاً:
- بالطبع لا، ليس من المنطقي أن يقدر هؤلاء مهما بلغت قوتهم على إبادة المسلمين عن بكرة أبيهم.
فاعترض عبيد منفعلاً:
- ولكننا لم نهرب إلى البحر إلا بعد أن يئسنا من الحياة على الأرض لما أصاب الناس من قتل وحرق، ألم يتأكد لنا أن الموجودين على الموانئ كانوا آخر المتبقين؟!
فأجابه جلال بثقة لم يزعزعها إحباط من حوله:
- الله أعلم يا عبيد، لربما لم ترتكب بعض القبائل نفس خطئنا وانطلقت تختبئ في الأودية والغابات، انظر نحن موجودين ولا يعلم أحد عنا.
فقلت في نفسي، أو هكذا اعتقدت، لكني على غفلة فكرت بصوت مسموع:
- لا يعلم أحد عنا؟ أتساءل حول ذلك.
تأفف حمزة ثم قال وهو يلتهم حسائه بلا مبالاة:
- دعوكم من هذا السؤال الفارغ، كل ما يجب أن يهمنا الآن هو حقيقة أن هناك بشر على قيد الحياة، ولا تهم الديانة، علينا الوصول إلى البر بأمان.
ثم همهم:
- تباً.. بمجرد أن تخطو قدمي على الأرض سأعود إلى حياتي السابقة.
ثم قال وهو ينظر لإبريز مغازلاً ومحاولاً إغاظتها:
- وسأجد مئة واحدة تغنيني عنكِ.
- أنت مسلم.. يا حمزة.
التفت إلى جلال التي خرجت تلك الكلمات بصعوبة من فمه وفي عينيه نظرة لم أرها على محياه من قبل، كان مطبقاً شفتيه وغارقاً في التفكير حتى انتبه لي فابتسم كأنه خلق مبتسماً، وأطرقت أنا برأسي سريعاً مانعاً عينينا أن تلتقيا.
- هل سيعرفنا أحد لو استطعنا الوصول إلى البر؟
سألت إبريز بصوتها الرقيق، وكانت تلك واحدة من المرات النادرات التي تحدثت فيها، لكن ما يقلقني.. هل يمكن أن يكون سؤالها كما أظن؟.. هل صح ما اعتقدته؟ لا يمكن، لو كان كذلك لقتلنا منذ زمن.
سألها عبيد متعجباً:
- تقصدين أنك تظنين أن من أهلك من نجى؟ ولما لن يستطيع التعرف عليك؟!
لم تجبه، لقد أدركت أخيراً أنها سألت سؤالاً غبياً، بالنسبة لمن لا يعرف حقيقتها على الأقل، وعليه ختمت أمسيتنا.

آخر الموحدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن