علقمٌ صائغ

116 21 166
                                        

" غير أن الحياة ليست كلها ورودًا "

- فيودور دوستويفسكي -

__________________
.


.
.
.
.

في تِلك الغُرفة البيضاء عديمة الأثاث ذاتِ الجُدران المُهترئة  تَتكئ بعضُها على بعض في حال تداعى جِدارٌ واحد تتبعهُ البقية،كانت تدور حول نفسها مِثل حيوانٍ ضاري يرفض أن تتطاول عليه أيادي الترويض، قهقاتٌ مُتداخلة تتسربُ من بين شقوق هذهِ الجُدران قبل أن يُخرسها ذلك الصُوت الذي صَدحَ كَغارةٍ مُفاجئة مُبعثرًا الأجواء بإلحاحه : " من أنا؟ .. من أنا؟ .. من أنا؟ .. من أنا؟ "

صمتَ لثوانٍ معدودة قبل أن يُعاودَ الصُراخ : " أنا قصيدةٌ مُتهالكة على الشط، لفَظها بَحرُ العَروض بِلا أي وزنٍ أو قافية، أنا ذلك الجُندي المَعطوب العائِدُ من حربٍ خاسِرة كلٌ من رآه سَألهُ 'طالمَا كانِ الفشلُ حليفكم لِمَ لمْ تَمُت هُناك وحَسب؟ ' .. هجينٌ في قَعرِ تَناقُضَاتِه سجين، لا يجِد مَكانًا في هذا العالم اللعين .. "

يتضاءَل الصُوت مُفسحًا المَجال للقهقهاتِ بالعُودة، فتحت عيناها بقوةٍ حتى كادت تُمزق اهدابها وكأنها أنتشلت نفسها من الحُلم عُنوةً وهي تلتقِط انفاسها المُتناثرة لتَجِد ذراتِ العرق تحتشِد فوق جبينها، وقفت ومشت بإتجاه الحمام وهي تُتمتم : " اذا كان الواقع مُرًا فالأحلام علقمٌ خَام "

دلفت لداخل الحمام لتُصعق من انعكاسها في المرآة؛ وجهٌ شاحب وملامح باهتة وعينان ذابلتين ،فقدت الكثير من الوزن مؤخرًا كذلك ..مهلا هل هذه دماء ؟! ..انفها ينزف ،رفعت خصلات شعرها بيدها كي يتسنى لها الانحناء لغسل وجهها لكن  عندما حررتهم جحظت عيناها لما رأت خصلة كبيرة من شعرها تتوسط كفها ..شعرها يتساقط! ..أرادت السقوط فقدماها لم تعد تقوى على حملها لكن إن هي تبعثرت الان فمن سيقوم بجمع قطعها ؟!

________________

أفلتَ الأوراقَ من يدِهِ وخَلعَ نظارتَهُ الطبية مُسندًا ظهرهُ على الكرسي  بينما أمالَ رأسَهُ للوراءِ مُغمضَ العينين، طَرقاتٌ متتابِعة كانت بمثابةِ طعناتٍ مُتتالية في ضهر خُلوتِه وسُكونه، فَتحَ عَينيه مُنزعجًا فأفّصَحت عن حباتِ البُن بلمعتِها البُندقية، اطلَق حَفنةً من الهواء من فمه زَافرًا بِملل مرر يده على خصيلاته القاتِمة والتي انفَلتت لتُلامِس جَبينه ورقبته البرونزية على استحياء، عَاد لوضعِه الجدي قائلًا بصوتٍ رخيم :" أُدخُل .. " 

فُتِحَ الباب ليظهر من خلفِه رجلٌ مهيبُ في عقده السادس، تقدم ناحيته بخطواتٍ ثابتة، فورَ أن رآه وقفَ مؤديًا تحيتهُ العسكرية وأشارَ إليهِ بالجُلوس بينما عاوَد الإستقرار على كرسيهِ القابِع خلفَ المكتب ..

تبادَلا النظرات الجدية وهو يُحاول سَبر أغوارِه لِمعرفةِ سببِ زيارِتهِ المُفاجِئة وبِلا شَك تِلك النظرات لا تخفى على شخصٍ برُتبةِ لواء لذَلك باشَر بالكلام مُخرسًا ألسنة الصمت قبلَ أن تطول : " أعلمُ أنهُ لم يمضِ الكثير من الوقت مُنذ أن سلمتك التقرير وكلفتُكَ بهذه المُهمة، جِئتك بنفسي لأطَّلع على نظرتك الأولية لهُ بَيد أن القضية تهمني على الصعيد  الخاص ولابُد أنها تهمك على الصعيد العام وذلِك لأنها تضرب أعمِدة القانون وأساساتِه  ..

فُرقانٌ قانٍ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن