وصلت.......إلى ديار عبدإيل....
كان قد ضاق صدري و لم يزل الضيق حتى بعد ثلاثة أيام من المسير، و لكي أنسى وجه يشجب، قلت لنفسي أني سأنزل ثقل هذا الضيق على أول انسانٍ أراه......
عندما دخلتُ المدينة، وجدتُ أمةً من الناس تقتتل على حوضٍ كلُّ يريد أن يسقي، و رأيت سواديًّا ينتظر، حتى إذ انفرجت فرجة من الزحام، تقدم يملأ جرته، فأتاه آتٍ من خلفه و سحبه حتى أسقطه أرضاً، فقلت في نفسي: (ظفرنا بصيدٍ اليوم)
فأتيته، و سحبته ثم حملته و قلبته حتى قَبَّل ثرى الأرض بفيه، ثم أخذت جرته و حطمتها على رأسه، و أخذتُ جرة السوادي و ملأتها له.
فدنا مني و قال: "أي أخا العرب، الشكر للرب ثم لك"
فقلت: "خذ ماءك و انصرف، لا أريد منك شي"
فقال: "ستلقى خيرًا أيها الرجل الطيب و سأدعو الرب لك"
"و كيف تعرف أني طيب؟"
"لأنك تنظر إلي بعينك و تحدثني، غيرك تأخذه الأنفة على أن يمشي على نفس الأرض التي مشيت عليها، أخبرني باسمك أيها الرجل الطيب"
"شهاب ابن الأسود الرازي"
"و أنا نبيل ابن السموأل، فليحمك الرب يا شهاب الطيب"
راقبتُ الرجل و هو يذهب و لم أشعر أن الرجال حول الحوض قد تفرقت فزعًا من فعلي، وقفتُ مكاني بانتظار أن يأتي شيخهم أو من رجالهم، و طال انتظاري و لم يأتِ أحد، فربطتُ فرسي عند الحوض، إذ عرفت أن لن يجرؤ أحد على سرقتها، ثم مشيت حتى دخلت سوق المدينة.
سوقٌ ساكنٌ ليس به كثير حوانيت و دكاكين و لا تجار، يغلب بيع الأصنام على بيع الطعام، و بيع النجوم و الصلبان على الشراب و اللباس، ثم سألت أحد باعتهم: "أين شيخكم عبدإيل؟" فأشار إلى صومعةٍ في صدر السوق فدخلتها، فإذ بي برجلٍ يعكف راكعًا أمام صورة هلال يتوسط شمسًا يقف عليها وعل ضخم القرنين تحته شموعٌ شتى، فلما أحس بي قام من ركوعه و رأيت وجهه.
ارتبطَتْ في خاطري صورتي بصورة يشجب بصورة عبدإيل أمامي، شابٌّ نحيل هزيل أسود الجفون خالي الخدين، و من شكل العروق في رقبته، افترضت أن له جسماً كجسوم الحمام تحت تلك العباءة الغليظة الخشنة التي جعلت له سناماً كسنام الإبل.
ثم حياني: "اغفر لي خطئي يا أخي، إذ لم يسعني قطع صلاتي"
فقلت: "تعرف من أنا؟"
فقال: "في هذه المدينة ما من أحدٍ ينتصر لمظلوم مهما نصحتهم، فعرفت من أصوات الناس أن غريباً قد أتى و ليس بأي غريب، و قد نويت أن ما أنتهي من صلاتي إلا آتي لأستقبلك"
"أما من مسافرين يأتون مدينتكم؟"
"ليس سوى بعض التجار و ثلة من المؤمنين و قليل من الأشرار، و لكن في عقيدتنا لا نتبع الضرب بالضرب، و لا العنف بالعنف، و لا الشدة بالشدة"
"إنه لأمرٌ غريب أن العرب لم تأخذ ماءكم أو أموالكم طالما لا تردون الضربة بالضربة؟"
"إن الرب ألمقه يقدر علينا كل ما يجري في حياتنا، إن أصابتنا سراء فلخير عملناه، و إن أصابتنا ضراء فلذنبٍ اقترفناه، فنرضى بالحسنة و نصبر على السيئة"
عقدْتُ ذراعي تململاً و أسأل في سخرية: "ألمقه تقول؟"
"نعم"
"و هو هذا الوعل الذي في الصورة و كنت تصلي له؟"
"هذا الشكل الذي اختاره إلهنا ليظهر لآبائنا في القرون القديمة، و إلا فإنه اتخذ من الزُهَرَة سكناً يرانا من هناك و لا نراه..........اصبر أريك"
و نزل أسفل قدمه الحافية المتقرحة و استخرج كتابًا و أراني ما فيه و أشار لصورة: "هذا عثتر الذي يعبده الملك، إنه ليس بإله، بل من أساطير الأقدمين، الإله الذي نعبده هو........"
أبعدت صورة غزالٍ أو وعلٍ عن ناظري: "اعفني من آلهة الماعز التي لا تنفع و لا تضر"
انتفض عبدإيل إلى الصورة على الجدار يسجد أمامها: "اغفر له أيا ألمقه! اغفر له فإنه لا يعلم!"
ثم قام و أخذ بيدي خارج صومعته: "سامح أخاك، فإني لم أضيفك"
و انطلق بي إلى طرف السوق ثم استوقفني و ذهب لحانوت يكلم صاحبه بما لا أسمع، لكني عرفت أنه يسأله مالاً و رفضه، ثم جر رجليه جرًّا رجوعًا إلي، فبادرته سائلًا: "مالك؟"
فقال: "ليس عليك من شيء يا أخي"
"قلت مالك؟!"
"............هذا تاجر الحرير نعلائيم، منعني نصيبي من شركتي معه حتى أسد ديني"
تنشقت نفسًا، و فركت عيني، ثم أتيت هذا التاجر و سألته: "أيهودي؟"
قال: "من السائل؟"
قلت: "آخر ما ستسمعه من الدنيا هو سؤالي هذا، فأحسن الجواب، أيهودي أنت؟"
"و ما شأنك إن كنتُ يهودياً؟"
فأطبقت بيدي على قفاه و أنزلته أرضًا، ثم أخذتُ شملة حرير مما يبيعه و ربطْتُ بها رجليه، و سحلته أمام أعين أهل المدينة و علقته من عرقوبه على باب عطن إبل، و كان كلما صاح أو استغاث ألقمته لكمةً في فيه.
ثم عدت لحانوته و استخرجت صرة دنانيره و رميتها لعبدإيل: "خذ مالك، و لا حاجة لي بضيافة"
فأتى إلى راكعًا: "أي أخي، ما هكذا نصنع بمن سكن عندنا"
"هكذا نصنع باليهود يا عبدإيل، لا يستطيع إنسان أن يركب ظهرك حتى تركع، و اليهودي يركعك ثم يصعد ظهرك فرأسك و يغضب إن أنزلته، لا تعد إلى مشاركة اليهود، و لا أن تبتاع منهم أو تبيعهم، إن من أبغض أهل الأرض إلي اليهود، لو كان ما كان، لسلطت نفسي على رمي كل يهود جزيرة العرب للبحر، ليس بِشَرِّ من الشعراء إلا اليهود"
"ليس الكره طريقًا يا شهاب"
"اترك صفصفاتك و أخبرني فقد أطلت، أين دفن الأسود الرازي؟"
"أبونا؟ أعلم أنه لم يدفن في الجنوب و اليمن"
"فأنبئني بكنزٍ يبتغيه ملك الشيوخ"
"و قد سألك عنه؟"
"نعم"
"امش معي"
فانطلق بي حتى خرجنا من المدينة، ثم قال: "إن ما تسألني عنه محرم في شرعنا ذكره على لسان"
فاستفسرت: "لِمَ؟"
تلفت عبدإيل حوله و تكلم في دنو صوتٍ: "إن هذا الكنز هو أثر مقدس تركه لنا ألمقه، لا تراه عين و لا تمسه يد، يفلق الجبال و يشق البحار و يقلب الليل نهار"
"و أين هو؟"
"في....أطلالٍ تبعد جنوبًا من هنا ساعةً جريًا"
"ما لي أراك ترجف؟ أ ثم متربصٌ أم عدو يفتك بالناس هناك؟"
"لا...إنما أخشى...إن عَلِمَ من هم على ديني أني دللتك على الكنز....قتلوني"
"و لِمَ يقتلوك؟"
"لأن هذا...من شرعنا"
"أمركم غريب، تُحَرمون الضرب و تبيحون قتل بعضكم البعض، ثم لمَ تدلني على الكنز إن كان سيودي ذلك برأسك؟"
"إن ملك الشيوخ غاضب علينا، فهو يريد أن يصرفنا عن عبادة ألمقه إلى عبادة عثتر، و يوشك صبره أن ينفذ أن لم نلبي أمره، و الكنز، هو حبل نجاتنا كي يتركنا الملك و ديننا، و هو بمكانٍ لا تبلغه أيادي البشر، لكن إن وقع بيديك، نجونا جميعنا"
"لا تصله أيادي البشر، لا تريدون أن تقطعوا صلواتكم في أمرٍ فيه خلاصكم؟"
"هذا...و ذاك يا أخي....إن قطع صلاتنا، هو كقطع أعناقنا، أما الآن و قد ذكرتَ هذا، فقد حان موعد الصلاة، ليغفر ألمقه لك يا شهاب و ليثبت خطاك"
"لا أريد البركة من وعلٍ أجرب"
"احذر يا شهاب، إن تمتحن صبر ألمقه ينلك عقابه"
"ليفعل ما شاء إن كان حيًّا"
قلتها و أنا أيمم وجهي تلقاء ناحية فرسي، كي أنطلق بها، لا ألقِ بالاً لصلواته و لا لأمره مع الملك، إنما أعود بالكنز ليشجب فيدلني على قبر الأسود.
********************************
ساعة زمانٍ هي ما احتجتها لأصل لتلك الأطلال التي أَمَّرها لي عبدإيل، أنقاض و بيوت و مصانع منكفأة على نفسها و توسد نصفها أسفل كثبان الرمال.
و هناك.....و لشدة السخرية...وجدتُ المرأة التي نطقتُ اسمها توًّا......رمال.
واقفة تنظر لتلك الأطلال كأنما تسمع داعيًا يدعوها إليها، ليس عليها أثر سفر أو متاع، كأنما هبطت من السماء، ثم الفتت تجاهي و قالت:
"ما ظننتُ أن لك منظرًا يسر الناظر يا شهاب"
فرددتُ متهكمًا: "بل أسأل أنا ما قدومك؟"
فأجابت: "إن قدومك أنت هنا لهو دليل على أنك تسير على الصراط الصحيح و تخطو على الطريق القويم، و توشك أن تبلغ مبلغك"
"هنا؟ في هذه الأطلال؟"
"هذه ما بَقِيَتْ من قصور عاد، مدفونٌ منها أكثر مما تبدو تحت الكثبان"
"قصور قوم عاد"
ثم أسررتُ في نفسي أني أدركتُ أمارة عبدإيل لي بمكان الكنز، ليس بمكانٍ يدفن فيه كنز الكنوز أقوم من هذا، ثم التفتُّ إلى رمال:
"هذا شأني، فما شأنكِ أنت؟"
"إني أتفكر كم من الرجال و الشجعان دخل هذه الأنقاض و لم يخرج منها قط، قصور عاد عمرها يقرب التسعة آلاف عام، تسعة آلاف عام يبتلع هذا الحوت كل انسانٍ تسول له نفسه دخولها"
"و ما أدراك أني داخلٌ إلا رغبةً في الموت؟"
"تروم الموتَ يا شهاب، لكنك لن تموت بعد، فليس هذا قدرك"
"إن لم يكن لديك كلامٌ نافع فأنا ماضٍ في طريقي"
"فاذهب إلى قدرك يا شهاب"
ثم تركتُ رمال و لم التفت لكيف هو وجهها، و دخلت باب القصر ذا الأربعة عشر ذراعًا طولًا، و مشيتُ بهوًا هو أقرب للنفق، حتى إذا أتيت على نهايته، إذ بثلاث طرق، أحدهما شقٌّ في الأرض للأسفل، و آخر للأعلى، و الثالث طريقٌ سالك يقع خلف شق الأرض.
تذكرت ما يقال أن من يدخل لا يخرج، فعلمت أن كل من دخل آثر القفز جهة الطريق السالك، و انتهى بأن سقط في الشق....لذا، شمرت ساعدي، و تسلقتُ الشق المؤدي للأعلى، مكنني من ذلك ضيق الشق إذ أسندتُ جسمي بذراعيَّ و ركبتي، حتى بلغت قمته.
و هناك...
راعني ما رأيت...
ما كان بجانٍّ و لا من وحوش البرية...
رأيته واقفاً..
رأيت كيان..
أنت تقرأ
غريب مجنون الجنوب إلى الحجاز
Historical Fictionتسعة آلاف سنة بعد هلاك عاد إرم.... بضع و ثمانون عاماً من زوال سبأ و يمنت...... كنت......و لا أحد مثلي....... أتيتُ من نسلٍ تفاخر بأمجاده منذ آلاف السنين، بنى مصانع و قصوراً نالت من الغيم في السماوات و قهر سكانها أهل الأرض... و لكن ما شفع ذلك للرجل ا...