الفصلُ الأوّل: البدايّة فيِ القصرِ

218 54 72
                                    

الفصلُ الأوّلُ: البدايّة فيِ القصرِ
عددُ الكلماتِ: 1065 كلمة
الجزءُ: الخادمةُ ماريَا
___________________________________

كانت السَّماءُ مُلبَّدةً بغيومٍ رماديةٍ كثيفةٍ حينَ وطأت ماريا أخيرًا أرضَ القصرِ الكبير، وتملَّكتها رهبةٌ لا مثيلَ لها. حملت حقائبَها البسيطةَ بإحكامٍ بين يديها، وكأنَّها كانت تتشبَّث بشيءٍ مألوفٍ وسطَ هذا المكانِ الذي لم يبدُ وكأنَّه يرحِّبُ بها. نظرتُها لم تفارق المبنى الشَّاهق، ذاك الذي بدا وكأنَّه يُراقبُها من خلال نوافذِه الزُّجاجية العتيقة بعيونٍ صامتةٍ جامدة. كان القصرُ من الخارجِ أشبهَ بحكايةٍ قديمةٍ، جدرانه الحجريةُ كانت متآكلةً بعضَ الشيء، لكنَّها ظلَّت واقفةً بشموخٍ يوحي بقرونٍ من التَّاريخ والقصص المدفونة.

رائحةُ الأرضِ الرَّطبةِ اختلطت برائحةِ الأوراق المتساقطةِ حول الممرِّ الحجريِّ المؤدِّي إلى البواباتِ الضخمة. نباتاتٌ متسلِّقةٌ كانت تغطِّي أجزاءً من الجدران، وكأنَّ الطبيعةَ تحاول أن تبتلعَ المبنى تدريجيًّا. لكن رغم ذلك، لم تفقدِ الحديقةُ الأماميةُ للقصرِ رونقَها المميز. كانت هناك أزهارٌ داكنةُ اللون، بعضها لم تعرفْه ماريا من قبلُ، تزدحم حول النَّوافيرِ المتهالكةِ التي تنبعث منها أصواتٌ خافتةٌ للماء المتساقط، أشبهُ بهمَسَاتٍ سِرِّية. توقَّفت للحظةٍ لتأخذَ نفسًا عميقًا، محاولةً طردَ القلق الذي بدأ يتسلَّل إلى قلبها.

حاولت إقناعَ قلبِها أن لا شيءَ مُخيف في الأمر، مكانٌ ستعيش فيه لتأديةِ مهامِّها كبقيَّةِ الفتيات. لكن في أعماقِها، لم تستطع تجاهلَ الإحساسِ الغريب الذي أثاره هذا المكانُ في روحها، وكأنَّ هناك من يرحِّب بها بطريقتِه الخاصة، لكن ليس بالضرورةِ بطريقةٍ ودودة.

اقتربت من البوابةِ الرئيسية، وهي بابٌ خشبيٌّ ضخمٌ مُثبَّت بمساميرَ برونزيةٍ، تُزينه زخارفُ قديمةٌ تُصوِّر مشاهدَ من صيدِ الملوك في الغابات، ووجوهًا غامضةً تختبئ بين الفروع المنحوتة. دفع أحدُ الحرس البابَ لها، ليُفتح بصريرٍ عميقٍ بدا وكأنَّه أنينُ كائنٍ قديم. عبرت العتبةَ، وشعرت وكأنَّها تدخل عالَمًا آخر.

داخل القصر، كان كلُّ شيءٍ يبدو براقًا ومهيبًا ومريحًا. السقفُ المرتفعُ كان مُرصَّعًا بثريَّاتٍ ضخمةٍ، تتدلَّى منها بلوراتٌ لامعةٌ تلتمع بخفوتٍ في ضوء الشموع. الجدرانُ مُغطاةٌ بورقِ حائطٍ فاخر، تتخلَّله رسومٌ نباتيةٌ ذهبيةٌ تلتفُّ في دوَّاماتٍ متشابكة، تُحيط بلوحاتٍ ضخمةٍ تُصوِّر أفرادَ العائلة.

قطع تأمُّلَ ماريا صوتُ خطواتٍ قادمة. استدارت لترى سيدةً صارمةَ الملامح تتقدَّم نحوها. كانت السيدةُ أنيتا، المشرفةَ على الخدم، امرأةً طويلةَ القامةِ، نحيلة، بشعرٍ مشدودٍ بإحكامٍ إلى الخلف، ووجهٍ بلا تعبيراتٍ حقيقيةٍ سوى الجمود التام. تقدَّمت ببطءٍ، وعيناها الباردتان تفحصان ماريا كما لو كانت قطعةَ أثاثٍ جديدةٍ تمَّ جلبها إلى القصر، لا إنسانًا بشعورٍ وذكريات.

وعيونه وراء القبر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن