الفصلُ الثالثْ: همسْ
عددُ الكلماتِ: 886 كلمة
الجزءُ: الخادمةُ ماريَا
___________________________________أصبَحَتْ حياةُ ماريا في القصرِ سِلسلةً مُتكرِّرةً من الأعمالِ المَنزليَّةِ الشاقَّةِ، تتراوحُ بينَ تَرتيبِ الأثاثِ الضخمِ وتلميعِ الأرضيَّاتِ التي تعكسُ انعكاسَ صورٍ عابرةٍ، كانت تتساءلُ دومًا إن كانت تلك الظلالُ تخصُّ أولئكَ الذين مرُّوا من هنا قبلَها. كلُّ صباحٍ تبدأ ماريا عملَها وسطَ الصمتِ القاسي، وتستمرُّ حتى ساعاتِ المساءِ، حيث تكادُ أنفاسُها تُسمَعُ وهي تلتقطُ أنفاسَها بتعبٍ. كانت السيِّدةُ أنيتا، مُشرفةُ القصرِ، صارمةً في مُتطلَّباتِها، لا تتوانى عن نقدِ ماريا وتوجيهِها لأدقِّ تفاصيلِ التعاملِ مع كلِّ قطعةِ أثاثٍ قديمةٍ، تحوي ذكرياتٍ عابرةً كأنها أحلامٌ مُختبئةٌ في الخشبِ.
رغمَ رتابةِ الأيامِ وصعوبةِ العملِ، إلا أنَّ ماريا شعرتْ بأنَّ شيئًا ما يتغيرُ داخلَها ببطءٍ، وكأنَّ القصرَ يتلاعبُ بأفكارِها ويُصقلُ روحَها. كان المكانُ يغمُرُها بهمساتٍ غيرِ مسموعةٍ، وكأنَّ الجدرانَ نفسها تتحدثُ بلغةٍ غامضةٍ لا يُدركُها سوى أولئك الذين يسكنون بين أروقةِ القصرِ ليلَ نهارٍ. أحيانًا كانت تشعرُ وكأنَّ تلك الغابةَ المظلمةَ تنبضُ بحياةٍ أخرى لأشخاصٍ مجهولينَ، وكأنَّ لديها أسرارًا دفينةً، تكتفي بالمرورِ أمامَها كالنسيمِ الباردِ في أمسياتِ الشتاءِ، تاركةً في نفسِها شعورًا مُبهمًا بالتَّرقبِ والخوفِ.
في مساءِ أحدِ الأيامِ الباردةِ حين كانت الرياحُ تصفعُ النوافذَ بصوتٍ خافتٍ، كانت ماريا منهمكةً في تنظيفِ إحدى الصالاتِ الكبرى وحدَها. كان الصمتُ الثقيلُ يُخيِّمُ على المكانِ، مما زادَ من شعورِها بالرَّهبةِ، وجودُها بمفردِها في مكانٍ باردٍ وصامتٍ أرعبَها. الجدرانُ العاليةُ المُغطاةُ بالستائرِ الثقيلةِ تُضيفُ إلى الصمتِ هيبةً مُرعبةً، وأحيانًا كانت ماريا تشعرُ أنَّ تلك الستائرَ تتحركُ بخفةٍ، وكأنَّ شيئًا يختبئُ خلفَها ويُراقبُها.
كانت تمرِّرُ قطعةَ القماشِ بلطفٍ فوق سطحِ المنضدةِ الطويلةِ المصنوعةِ من الخشبِ الداكنِ، عندما توقَّفت فجأةً. شيءٌ ما، صوتٌ خافتٌ، رنَّ إلى أُذنيها كهمسةٍ مجهولةٍ. ارتعشت يداها للحظةٍ، ورفعت رأسَها ببطءٍ، تُحاولُ التركيزَ على ذلك الصوتِ الخافتِ. كان يأتي من مكانٍ ما خلفَها، كأنَّ أحدًا يُناديها أو يُخاطبُها بكلماتٍ غيرِ واضحةٍ، كلماتٍ تتلاشى في الهواءِ قبلَ أن تُدركَ معناها. التفتت بسرعةٍ، عيناها مُتسعتان بحثًا عن مصدرِ الصوتِ، لكنَّ الصالةَ بدت خاويةً من أيِّ أحدٍ كما كانت.
شعرتْ بشيءٍ من البرودةِ يسري في جسدِها. ظلَّت واقفةً في مكانِها للحظةٍ، تُحاولُ السيطرةَ على أنفاسِها المُضطربةِ، وتتساءلُ في نفسِها عن حقيقةِ ما سمعتْ، أم أنَّه كان مجردَ وهمٍ، أو ربما هلاوسَ داخليةً ناجمةً عن أحاديثِ شارلوت ولوسي وجين؟
أنت تقرأ
وعيونه وراء القبر
Fantasyهرباً من حياة الريف الفقيرة ورفضاً لقدرها كراعية أبقار، حزمت أمتعتها وقررت البحث عن فرص أفضل في المدينة. فماذا ينتظرها هناك؟ وهل ستستمر حياتها بهدوء؟