انطلق القطار في طريقه إلى أسوان وتعلقت عينا الدكتور (شريف حمدي) بتلك الجالسة على المقعد المقابل لمقعده، لم يكن جمالها وحده هو ما يجذبه إليها بل هذا الحزن الرهيب الذي بدا وكأنه يأخذها إلى عالم آخر .. كانت شاردة إلى الحد الذي منعها حتى من الإحساس بجلوسه في مواجهتها
إنه على يقين بأنها لا ترى شيئًا وهي تحدق في كل المسافرين من خلال النافذة التي التصقت بها وكأنها تخفي نفسها من شيء ما.. انتهى الرصيف .. استدارت تائهة وانهمرت دموعها كشلالات غزيرة عجزت عن أن توقفها وهي تحاول جاهدة أن تمنعها بكلتا يديها بلا جدوى..
تراجِعت في فزع عندما مد إليها يده ببعض المناديل الورقية في محاولة للمساعدة.. رفعت إليه وجهاً بدا كسماء يوم شتوي قارص لبدتها السحب والغيوم . كانت صغيرة لم تتجاوز العشرين بعد.. هشة كالفراشات.. قسماتها جميلة متناسقة.. كل ما فيها رقيق خجول.. عدا ذا الحزن العنيف الذى يغزوها غزواً ..
تجاهلت يده قليلاً وهي تحاول فتح حقيبتها الصغيرة التي تمسك بها فأوقعتها أرضًا وتناثرت محتوياتها، ساعدها في جمعها.. لم يكن بها "مناديل"، عاد يغمغم من جديد وهو يمد يده:
- تفضلي
تناولتها منه بيد مرتعدة وهزت رأسها شاكرة.. حاولت التحكم في انفعالاتها من أجل هذا الذي ينظر إليها في حيرة:
- بالله كفي عن البكاء.. واخبريني كيف يمكنني مساعدتك..
زادتها كلماته إحباطًا فانهمرت دموعها بغزارة أكبر، زفر في ضيق وهو يتناول منديلا آخر ليقدمه إليها، ثم ما لبث أن وضع المنديل في جيب سترته وقدم إليها العلبة كاملةً وهو يحذرها متصنعًا الابتسامة :
- ليس معي مناديل أخرى...
ساد الصمت بينهما فترة حتى هدأت أخيرًا وغمغمت من بين انفعالاتها المتشنجة :
- شكرًا لك
ابتسم في ود قائلا:
- شريف حمدي.. طبيب بشري
هزت رأسها مرحبةً.. فأردف : -
- وأنتِ... ما اسمك؟
تأملته في حذر قبل أن تهمس في صوت بالكاد وصل مسامعه :
- سالي
- سالي... يا له من اسم جميل!
ترى ماذا سيفعل عندما يعلم بهروبها .. وماذا عن النقود التى سرقتها من الخزانة ... كلا أنها لم تسرقها بل هى ثمن بخس لحياتها التى تلاعب بها وكانها دمية بين يديه... كثيراً ما أخبرها انه سوف يعثر عليها أينما ذهبت .. لهذا السبب لم تذهب إلى منزل جدتها ... عليها أن تختفى من حياته للأبد
- سالي.. سالي....... سالي...
استيقظت من شرودها وهي تتأمل رفيق القطار... كان شابًا في بداية الثلاثينات تقريبًا.. طويل القامة.. يبدو جادًا وصارمًا رغم الهدوء والعطف الذي يبديهما نحوها
أنت تقرأ
وعاد ينبض من جديد _ كاملة( قريبًا في جميع المكتبات)
Romanceصغيرة .. جميلة .. ووحيدة .. وكأنها وردة برية قد نبتت فجأة في صحراء قاحلة جرداء .. هكذا كانت أعماقي قبل أن تسكنها .. حتى الوحوش تخشاها .... لم يكن في مخيلتى تلك الليلة سوى أن أبقيها معي .. لم أفكر كثيرًا .. بل ربما لم أفكر أبدًا .. وكيف أتركها تذهب...