دوامة في قلب البلورة

1K 102 31
                                    

#دوامة_في_قلب_البلورة
الفصل السابع
استمر الدكتور هشام يتابع حالة شاهندا. عندما حان موعد العملية الثانية.. كانت ترتجف قبل أن يتم تخديرها.. مما دفع هشام لتهدئتها، مخبراً إياها أن كل شيء بيد الله، ليس هناك ما تخسره، فكل ما هو مقدر لها سيكون من نصيبها.. أخذ ينظر في عيونها مهدئاً و مطمئناً لها.. حتى إسترخت و هدأت.. أخذت تتلو بعض أيات القرأن حتى إستسلمت تماماً لسطوة مخدر العملية. كانت ترى ألواناً تمتزج لتصنع وجوهاً.. الأسود و الأبيض صارا وجه علاء زوجها السابق.. البنفسجي صار وجه والدها الحزين.. الأزرق بدرجاته صار وجه هشام.. الأحمر و الأصفر و الأخضر صاروا وجهها.. لتمتزج الألوان كلها معاً في صخب، ثم تصبح اللوحة في عقلها بيضاء تماماً.

حين تفتح رموشها.. ترى وجه طبيبها مبتسماً.. فتبتسم. يخبرها أن العملية كانت ناجحة، و أن المرحلة القادمة تعتمد كلية على العلاج الطبيعي و إرادتها الحديدية.. إن تمكنت من الإستمرار بهما سيمكنها العودة لإستعمال أصابعها بشكل طبيعي.. سترسم و إنما مع قليل من المران ربما يمكنها العودة لما كانت عليه.. لكنه لا يريد أن يستبق الأحداث. كل مايريده الأن أن تتحلى مريضته العزيزة بالصبر و العزيمة. تألق وجهها فرحاً رغم تعبها من أثار المخدر. وعدته أنها ستستعيد شتات نفسها مرة أخرى.

و قد كان.. رغم كل الألام، و خيبات الأمل المتكررة، لم تيأس شاهندا.. أظهرت قوة إرادة لا مثيل لها. تشجيع أهلها و طبيبها.. كل ما مرت به مع علاء.. فقدها لجنينها.. كل الندوب و الجروح و الكسور جعلت منها شخصاً أقوى. أصبحت إنسانة تصعد درجات المعاناة لتصل إلى تحقيق مرادها بالقمة..

ذات صباح حينما كانت شاهندا في شرفة غرفتها بالمستشفى، سمعت إحدى الممرضات تقرأ خبراً في مجلة فنية عن زواج المخرج المسرحي علاء عزام بالفنانة إيناس الأسمر في حفل زفاف أسطوري و تغطية إعلامية واسعة، و أن العروسين سيقضيان شهر العسل في إحدى المدن الأروبية. كانت شاهندا تسمع هذه الأخبار، و دموع عيونها تتساقط، ليس حزناً عليه.. كلا.. بل حزناً على كل ما فاتها و خسرته عندما أحبت ذلك الشخص. حين دخل هشام لزيارته اليومية لمتابعة حالتها سألها عما بها.. فبدأت تحكي. إنهار سد صمتها، و أخبرته بكل شيء.. كانت ترى معالم وجهة و كيف سيطر على غضبه الذي لم يكن موجهاً لها بل إلى زوجها السابق و كيف كان يعاملها..

سألها إن كانت لا تزال تشعر نحوه بشيء، فأجابته أنها تشعر بالرثاء على حالها أكثر مما تشعر بأي شعور نحو من كان شريكاً لها في الحياة. تريد أن تكون جملة محفورة في الصخر ذات معنى في حياتها و حياة من تحب، لا مجرد نقطة مهمشة بالرصاص بلا معنى.. تُمحى ليعاد كتابتها لتُمحى مرة أخرى. ساعتها نظر في عيونها و ابتسم، و لأول مرة تحس بإهتمام حقيقي منه ليس كمريضة و إنما كإمرأة.. حكى لها عن ظروفه و سبب تأخره عن الزواج لإنشغاله بمستقبله المهني.. عن أسرته.. طموحاته و أماله.. عن أنه يتمنى تكوين أسرة صغيرة مع شريكة يحبها و تحبه و يتبادلان نفس الميول و الإهتمامات. و كم من أشياء أكتشفا عشقهما لها!

بعد إحدى جلسات العلاج الطبيعي، فوجئت شاهندا، بهشام و قد أحضر لها هدية معه بمناسبة إقتراب موعد مغادرتها للمستشفى و بدء تماثلها للشفاء. فتحتها و هي تنظر إليه باسمة و سألته إن كان يجلب هدية لكل مريض له يشفى. فأجابها بل لها هي فقط.. شاب وجهها حمرة الخجل، و دمعت عيناها حين رأت محتوى هديته بعد نزع الغلاف.. كراس رسم و ألوان كتلك التي تهدى لطفل في المرحلة الإبتدائية. طلبه هو ما أدهشها أكثر.. فقد أعلن عن رغبته في أن ترسم وجهه. إبتسمت مخبرة إياه أنه سيشبه الوحش إن فعلت ذلك لكنه أصر.

و هكذا بدأت شاهندا في رسم وجهه في كراسها.. مع تكرار المحاولات في الدقائق المسروقة من الزمن لإنشغال هشام بعمله، رسمته. كان الأمر مؤلما في البداية، و لم تكن الصورة بالدقة التى أرادتها، و لا بما يتناسب مع موهبتها لكنها كانت بارقة أمل..

بعد ذلك أهداها أوراق كانسون و أقلام فحم، و طلب نفس الطلب، و استمرت هي في رسم وجهه مراراً و تكراراً، فأهداها ألواناً مائية و فرشاة، ثم ألواناً زيتية و مجموعة من الفرش و حامل الرسم.. و داومت على النظر في ملامحه.. كانت الكوابيس التي تغزو أحلامها تضمحل شيئاً فشيئاً حتى إختفت، ليحل محلها وجه هشام.. ملامحه.. تفاصيله.. كل حركة و لفتة له.. الشعيرات التي بدأت تنمو في ذقنه في نهاية يوم طويل متعب.. إجهاد عينيه الذي سرعان ما يختفي و يحل محله بريق و إلتماع الفرح حالما يرى إبتسامتها، و حين يغفو و هي ترسمه.. كان ملهمها.. يداً تمتد إليها لتأخذها من الظلام إلى النور.

في يوم مغادرتها للمستشفى، أخبرها أن تبلغ والدها أنه سيزورهم في البيت يوم الجمعة في السادسة مساءاً.. سألته لماذا؟ فأخبرها أنها ستعرف في حينها. كانت تنتظر مجيء الجمعة و هي على أحر من الجمر.. تخاف أن تترك الأمل بداخلها ينمو حتى لا تصاب بخيبته.. إلى أن دقت الساعة السادسة و رن معها جرس الباب.. تأنت قليلاً قبل أن تفتح للضيف، علها تخفف من تسارع أنفاسها و دقات قلبها.. تفتح الباب مبتسمة لتجده أمامها مبتسماً و بالخلف خاله ووالدته التي ما إن رأتها حتى أطلقت الزراغيد.. في هذه اللحظة توقفت دوامة المخاوف في قلب شاهندا الرقيق كبلورة من زجاج مكسور، لتتحول إلى أمواج هادئة على شاطئ نظرات هشام الباسمة.

جريدة الأخبار عدد الخميس الرابع من شهر أغسطس لعام ٢٠١٦، تحوي خبرين مهمين: الأول في صفحة أخبار الناس عن زفاف الفنانة المتميزة شاهندا وصفي بالجراح اللامع الدكتور هشام خليل في حفل عائلي، و أن الفنانة أعلنت أنها ستستعد لإقامة معرض فني بعنوان "وجه الحب" فور عودتها من شهر العسل.. أما الخبر الثاني فهو منشور في صفحة الحوادث عن القبض على المخرج المسرحي علاء عزام و عرضه على النيابة العامة بعد أن قام بضرب زوجته الفنانة إيناس الأسمر إثر مشادة حامية ضرباً مبرحاً أودى بحياتها بسبب إصابتها بإرتجاج في المخ و نزيف داخلي.

©Salwa M
August 4th, 2016

دوامة في قلب البلورةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن