لقاء متعثر

28.5K 376 11
                                    


ريانون تكره المصاعد, إلا أن الطوابق السفلى في مواقف المبنى كانت مزدحمة حين وصلت هذا الصباح, وهي ليست مستعدة لصعود أكثر من أربعة طوابق, حاملة بين يديها صندوقا مليئا بالبلاط وأي إنسان عاقل يغتنم الفرصة الأكثر سهولة ويدخل إلى المصعد.
لقد أمضت خمس سنوات من عمرها تحاول أن تكون متعقلة وطبيعية.
أخذت نفسا عميقا, ودخلت إلى المصعد, ثم ضغطت على الزر الرابع وقد تملكها الارتياح لأنها بمفردها في المصعد.
وما إن أوشك البابان على الالتقاء حتى باعدت بينهما يد, ودخل إلى المصعد رجل يرتدي بذلة رمادية اللون.
تراجعت ريانون بسرعة إلى الخلف, والتصقت بالجدار البعيد عن باب المصعد.
نظر القادم الجديد إلى الأرقام المضاءة.
قالت في نفسها: لا بأس, إنه مجرد رجل عادي وبغية التأكد من هذا, رمقته بنظرة خفية, فوجدت ولدهشتها أنه ينظر إليها نظرة استكشاف, فيما يتكئ إلى جدار المصعد مكتوف اليدين, نظرت إليه, فإذا بأهدابه تخفي عينين فضيتين تتأملان وجهها, وشعرها البني الغامق, وقميصها الأبيض وتنورتها الخضراء.
اقشعر بدن ريانون, وتسارعت دقات قلبها. حاولت أن تتنفس بانتظام. وان تحافظ على هدوئها, فأمسكت العلبة التي تحملها بين يديها بإحكام, وركزت نظرها على الأرقام المضيئة المتغيرة, إلا أن عقلها كان يردد لها بأن صحبة هذا الرجل ليست اعتيادية.
بدا قميصه الأزرق المخطط وربطة عنقه القاتمة اللون تقليديتين ومتلائمتين تماما مع تفاصيل جسمه. أما وجهه فيشبه بوجوه تماثيل الآلهة اليونانية القديمة: وجه نحيل يميل إلى الشقرة, وشعر لوحته أشعة الشمس فزادت إلى جمالة رونقا.
أضاء الرقم اثنين على لوحة الأرقام في المصعد, تلاه الرقم ثلاثة, فأربعة. تنحى الرجل ليسمح لريانون بالخروج أولا من المصعد ثم تبعها, فتوجهت مسرعة إلى الدرجات التي تقود إلى الطابق ب.
وما إن وصلت إلى أسفل الدرج حتى أمسك بيدها:" يبدو هذا الصندوق ثقيلا, فدعيني أساعدك".
كانت قد وضعت رجلها على الدرجة الأولى, فتراجعت إلى الخلف لترفض عرضه, إلا أنها فقدت توازنها ووقعت عن الدرج, فصدمت كوعها بحافة من الإسمنت, وأفلتت الصندوق من بين يديها.
تبعثر البلاط وتكسر. شعرت بشيء من الدوار جراء الألم, فجلست على إحدى الدرجات تتفحص كوعها, وهي تصر على أسنانها وتعتصر عينيها لتمنع نفسها من البكاء.
-أنا آسف!..
بدا الصوت قريبا جدا منها, فاتسعت عيناها وهي ترى الرجل ذا الوجه الشبيه بوجه آلهة اليونان, يبعد بضعة إنشات عنها.
ركع الرجل أمامها على ركبة واحدة على الأرض الوسخة وتابع:
-لم أقصد إخافتك.
عن قرب, بدت عيناه زرقاوين, لكنهما ليستا باردتين, بل مليئتين بالشعور بالذنب:
-هل أنت مجروحة؟.
ونظر إلى يدها التي تغطي كوعها النازف: "دعيني أرى".
أحنى رأسه حتى باتت ترى الفراغ بين خصل شعره, ولفها عطره الأخاذ.
مد يده ولمسها مجدد, فتراجعت ريانون إلى الخلف وهي تهز رأسها.
-سأكون بخير بعد لحظات.
رد فورا:" لكنك شاحبة"
لم يفاجئها كلامه, فهي تشعر بأنها شاحبة. لكن دوارها بدا يتلاشى.
-أنا بخير.
ولتثبت له صحة قولها حاولت الوقوف.
-لا تتحركي.
امتدت يد قوية لتثبتها في مكانها, فيما أضاف:" يستحسن أن ترتاحي لبرهة".
وعندما قاومته لتقف, قال:" هوني على نفسك!".
لم تعرف ما إذا كانت ملاحظته الأخيرة استكمالا للأولى, أم أنها أتت كرد فعل على محاولتها الهرب. إلا أن نبرة صوته المهدئة هدأت من روعها.
هذا الرجل لن يعتدي عليك!
بذلت جهدا لتهدأ, ولاحظت أن اليد التي تأسرها دافئة, لا بل مطمئنة. وبعد لحظات, أفلتها وراح يجمع القطع المبعثرة على الأرض ويضعها في الصندوق.
-انكسر البعض منها, لذا سأستبدلها لك أو أدفع ثمنها.
-ما من داع, كنت أنوي كسرها على أي حال.
وفيما كان يضع بلاطتين في الصندوق, نظر إليها مبتسما ومتسائلا:" أتكسرينها لتهدئة أعصابك؟".
ردت:" أستعملها للموزاييك".
وتابعت عل الكلام يخفف الألم الذي تشعر به في كوعها:" معظمها مكسور على أي حال".
-هل الموزاييك هواية أم مصدر رزق؟
وترددت ريانون. لا تترددي! إنه مجرد سؤال تقليدي, لا تتصرفي بغباء!
-ليس تماما.
-هل لي أن أعرف اسمك؟.
-لا أظن ذلك!.
وحين لم تجب على سؤاله, رماها بنظرة ثانية, وحدق إلى شفتيها المرسومتين, ثم أغلق الصندوق وسأل:" كيف تشعرين؟".
-أنا بخير.
سوت حقيبة يدها وحملتها جيدا ثم استعدت للوقوف ثانية, إلا أنها تلوت ألما.
عبس الرجل:" هل أنت واثقة من أنك لم تكسري يدك؟".
حركت ريانون ساعدها, لترى ما إذا كانت يدها مكسورة, فشعرت ببعض الألم,إلا أنها قالت:"إنها مجرد رضه قوية".
إلا أن حمل الصندوق سيشكل لها مشكلة.
-تفضلي وسأحمل الصندوق عنك.
لم تملك حلا آخر, لذا صعدت الدرج وهي تشعر بخطاه خلفها. وحين وضع الصندوق في شاحنتا الصغيرة, سأل:
-هل من شيء آخر أساعدك به؟.
-لا شكرا, لقد فعلت ما يكفي.
فرد بلطف:" حقا؟".
-لم أقصد...
ضحك, فيما تابعت ريانون بسرعة:" كان لطفا منك, وأقدر مساعدتك".
-هذا كرم بالغ منك, إذ كنت السبب في ما أصابك.
-لا, لم يكن الذنب ذنبك!
ونظرا لطلته البهية ووسامته, أي امرأة كانت لتقبل مساعدته برحابة صدر , عوضا عن التعثر والوقوع أرضا في محاولة للهرب منه.
سألها وهو يشير إلى الصندوق:" أثمة من بإمكانه أن يساعدك على تفريغه؟".
-نعم.
ومن دون أن تعطيه المزيد من التفاصيل, فتحت باب سيارتها وصعدت إليها.
أغلق باب سيارتها بنظرة كئيبة, ولوح لها مودعا, ثم ارتد إلى الوراء.
نظرت في المرآة فرأته ينظر إليها.
وعند اختفت الشاحنة الصغيرة, فرك غابرييل هادسون يديه ثم وضعهما في جيبيه.
أحسنت هادسون, لقد غيرت أسلوبك هذه المرة!
فهو لم يعتد التعرف إلى النساء في مرآب السيارات, إلا أنه رفض اليوم رفضا قاطعا حتى قبل أن يشتري شركة فاشلة, ويغير أسمها ويقودها إلى القمة جاعلا منها إحدى أفضل شركات نيوزيلندا. كان مدللا من قبل الجنس اللطيف, إذ لطالما كان مظهره الوسيم مصدر نجاح وإحراج له على حد سواء, وهو لم يخف النساء يوما.
لكن ما إن دخل إلى المصعد حتى تراجعت إلى الخلف ووقفت في الزاوية من دون أن تنظر إليه متيحة له فرصة أن ينظر إليها للحظات قبل أن تكتشف أنه يراقبها.
بدت خائفة. عيناها الخضراوان اللوزيتا الشكل حدقتا إليه للحظة طويلة, وشفتاها الجميلتان سحرتاه, فهما مغريتان,ناعمتان, وزهريتا اللون.
كان شعرها لامعا مقصوصا بطريقة بسيطة ليلامس بشرة ناعمة, وردية اللون, لون استحال شحوبا عندما تعرضت للأذى. أخفى الصندوق الذي كانت تحمله قوامها, إلا أن تنورتها كشفت عن ساقين جميلتين.
أشاحت بنظرها بسرعة وهي تعض على شفتها, وقد لا حظ أنها ابتلعت ريقها وراحت تحدق إلى لوحة الأرقام في المصعد كما لو أنها قادرة على جعلها تزيد من سرعتها.
شعر بتيار من المشاعر يجتاحه, وقد فاجأه رد فعله الشبيه برد فعل المراهق. فرغبته بمساعدتها على حمل الصندوق لم يكن عملا يخلو من الأنانية, فهو لم يشأ إغوائها على
السلالم, إلا أنه لم يرد أن يراها تذهب, فنظرة واحدة منها كانت كفيلة بأسره وإثارة اهتمامه.
لم يكن عليه أن يلمسها, فقد أخافتها لمسته وجعلتها تقع على السلالم.
وتذكر وجهها الشاحب وعينيها اللتين ازداد لونهما عمقا تحت تأثير الصدمة, وفمها الجميل, فشتم منزعجا.
لقد خسر فرصة التقرب منها, إذ جعلها تقع وتتألم إلى حد كاد يغمى عليها.
وبعد كل ما جرى, لم يبق سوى مساعدتها في الصعود إلى سيارتها بأمان, ونسيان هذه المقابلة التي اتخذت طابع كارثة.
***********
قادت ريانون بحذر وبطء, وهي تدرك أن يدها لن تحتمل الكثير من الضغط. كانت عضلات كتفيها متشنجة, وعند الضوء الأحمر في إشارة المرور, استغلت الفرصة لتمارس تمارين التنفس, كما أفلتت المقود لتريح أصابعها.
حين مررت أصابعها على المقود, تذكرت بوضوح يد الغريب وهي تلامس يدها. كانت يدا قوية لكن مطمئنة. تذكرت عينيه, وكيف تغير لونهما من الرمادي الفضي, إلى ازرق شبيه بلون صبيحة نهار في الشتاء. كانت عيناه تشعان دفئا. حين أمسكت به يحدق إليها, بدت عيناه ممتنتين, ثم استحالتا معتذرتين, فقلقتين, ولاحقا فضوليتين.
أصبح ضوء إشارة المرور أخضر, فداست برجلها على البنزين بتردد, ثم انطلقت.
أحست وكأنها تقف على طرف حافة, وبشعور غريب في معدتها وبنبض غريب في عنقها. شعرت بحرارة تجتاح جسمها, وبتعب شديد وضعف.
لقد هزها الحادث من دون شك, وستحتاج إلى بعض الوقت لتستعيد عافيتها بالكامل.
وصلت ريانون إلى الفيللا القديمة في (( مونت ألبرت)) التي تتشاطرها مع شابة أخرى, وراحت تحمل البلاطات تدريجيا وتنقلها إلى غرفة نوم في الطابق الأعلى حولتها إلى مشغل.
قد تتمكن لاحقا من إنجاز بعض أعمالها الصغيرة في صالت العرض الجديدة وسط المدينة, إلا أنها تتقاضى الآن أجرا مقابل لوحة كبيرة.
بعد أن نقلت البلاط, نظرت إلى كوعها, ووضعت كمادة باردة في المكان المتورم. وفي وقت لاحق من الأمسية, أصرت مدبرة منزلها وهي ممرضة سابقة, على تحريك يد ريانون مرات عدة.
-يدك ليست مكسورة,ولكن يستحسن أن تذهبي إلى الطبيب ليفحصها.
هزت ريانون رأسها:" أعدك بالذهاب إلى الطبيب إذا لم تتحسن".
بعد العشاء, غلفت ريانون البلاط بورق جرائد وحطمتها بالمطرقة بيدها اليسرى. وكما قالت للرجل الغريب في مرآب السيارات, فإن معظمها محطم أصلا.
بعد أن وضعت بعض القطع المحطمة داخل التصميم, أحست بعدم رغبة في العمل فتوقفت.
بعد أسبوع, ونهار الجمعة تحديدا, كانت تدخل الطابق الأرضي من المرآب حين استوقفها صوت عميق مرح, صوت رجل جعلها ترتجف إنه الإله اليوناني.
لحق بها ورماها بابتسامة:" مرحبا مجددا! كيف حال يدك؟".
ونظر إلى يدها الظاهرة تحت فستان لونه بيج.
أجابت مندهشة قبل أن تبتسم: " بخير شكرا".
-لا تزال الكدمة ظاهرة.
لقد مرت المرحلة الأسوأ, إلا أن لونا بنفسجيا ما زال باديا. مرر أصبعا رجوليا على الكدمة, فاجتاحتها رجفة غريبة.
-آسف, هل لايزال كوعك يؤلمك؟.
-كلا.
قالت هذا, وابتعدت قليلا إلى الوراء, مخلفة مسافة بينهما.
رمقها بنظرة مازحة: " إذا, أعتذر لأنني تخطيت حدودي".
قالت ببرودة:" لا بأس!".
لا يمكنها اعتبار لمسته عدائية, فغالبا ما يلمس الناس بعضهم بشكل طبيعي, بشكل لا يثير مشاعر حميمية.
توجهت إلى السلالم, فعلق على الموضوع قائلا:" ألن تستقلي المصعد؟".
هزت ريانون رأسها, وعوضا عن الاعتراف بخوفها من المصاعد. قدمت عذرها المعتاد:
-صعود السلالم يساعدني على الحفاظ على رشاقتي.
استدار ليرافقها.
-يبدو أن الأمر ينجح.
وجال بنظره على قوامها, فراح كل عصب في جسمها يصرخ أشاحت بوجهها ولم تجب.
سأل بنعومة, وهو يصعد السلالم إلى جوارها:" هل أعتذر مجددا؟".
هزت رأسها, وانقبض حلقها, بالرغم من أن عقلها كان يردد لها أنها تتصرف بسذاجة. فأمامها رجل جذاب يعلمها أنه معجب بها. قد تسر غالبية النساء بهذا, كما أن غالبية النساء كن ليبتسمن له, ويتساهلن قليلا.
كانت ريانون تدرك تماما بأنها مختلفة عن باقي النساء.
وبعد قليل قال:" أشعر أنني أدين لك بنوع من التعويض. هل لي بدعوتك لشرب القهوة أو ما شابه؟ أو ربما لتناول العشاء؟".
ردت بحزم:" أنت لا تدين لي بشيء".
سأل:" هل أنت متزوجة؟ أو مرتبطة؟".
دفعها السؤال المفاجئ إلى الرد دون تفكير:" لا!".
-أنت حتما تكرهينني جدا, وأنا لا ألومك, فبعد الحادث...
-أنا لا أكرهك... فأنا لا أعرفك حتى.
قال بخفة:" إذا شئت..".
أشكت أن تقول له إنها لا ترغب, لكنها ترددت. إذا أرادت أن تكون امرأة طبيعية, فقد حان الوقت لتبدأ بالتصرف كسيدة, آن الأوان لتنسى الماضي.
وصلا إلى فسحة الدرج, فتوقف كما لو أنه يعيق مسارها بالرغم من وجود مسافة تقارب نصف المتر بينهما. سحب بطاقة من جيبه وناولها إياها قائلا:
-غابرييل هادسون. أعمل في مجال النقل الجوي.
اسم معروف, فغابرييل هادسون يملك إحدى أكبر الشركات الخاصة في البلد.
أكدت البطاقة شكها, فالشعار المألوف مرسوم في زاوية الباقة, وقد وضع اسمه بالحرف العريض وسط البطاقة. تتمحور كافة إعلانات الشركة حول العناية والسرعة, فتصور الجناحين يحملان برفق أغراضا ثمينة ويحلقان بها في كافة أرجاء نيوزيلندا والعالم. كانت هذه الشركة ذات شعبية لأنها, وخلافا لغيرها من الشركات, توصل الغرض إلى المنزل.
إنه رجل أعمال محترم, ذائع الصيت لنجاحه الباهر وهو لا يزال في العشرينات من عمره, وقد رشح العام الفائت لنيل جائزة الرجل الأغنى والأكثر تواضعا أما حياته الخاصة, فقد بقيت خاصة ولم تنشر للعلن.
قالت:" استعنت بخدماتك".
ومن لم يفعل فكل من له صلة بمجال الأعمال في نيوزيلندا, استعان لمرة على الأقل بخدمات شركة(( آنجل إير)) .
-هل نقلنا لك لوحات الموزاييك؟.
شعرت بحاجة لأن تغطي ملاحظتها السخيفة فقالت:
-وأعمال فنية عائدة لأناس آخرين أيضا, بالإضافة إلى الكتب.
-كتب؟.
-نعم, فأنا أملك صالة عرض ومكتبة.
مال برأسه قليلا:" أين؟".
شعرت بأنها أعطته الكثير من المعلومات, فردت باستخفاف:
-انتقلنا منذ أسابيع إلى شارع هاي.
كان إيجار المكان رخيصا بالنسبة لوسط (( أوكلاند)) بالرغم من أنه ضعف ما كانت تدفعه كإيجار المحل الصغير في الضاحية, إلا أنها أملت أن يعوض عليها هذا المكان المال الذي دفعته.
-ما أسمه؟
ما من جدوى من التراجع الآن:
-موزاييكا.
صعد شاب السلالم ومر قربهما, فاقترب غابرييل هادسون منها ليفسح له الطريق, فشكره الشاب وتابع سيره بعجل.
لا مست كتفها يد قاسية مليئة بالرجولة, واشتمت رائحة عطره الزكية التي سبق4 أن لاحظتها في لقائهما الأول.
بدأ بدنها يقشعر, وحنجرتها تضيق, لكنه ابتعد عنها وسمح لها بمعاودة السير, فأسرعت إلى السلالم.
عندما وصلت إلى الطابق التالي, توقفت لتفسح المجال لسيارتين بالمرور وفتح باب المصعد فخرج منه عدد من الركاب سأل غابرييل: " هل ستطلعيني على اسمك؟".
-ريانون, ريانون لويس.
كرر, كما لو أنه يجرب وقع اسمها على السمع.
-ريانون, أنت من ويلش أليس كذلك؟.
-نعم في الأصل.
-أرغب برؤية صالة العرض يوما ما, وقد نخرج أيضا لشرب فنجان من القهوة.
كانت نبرة صوته ودية, ومطمئنة.
إنه رجل متحضر, معروف, محترم, ووسيم, وناجح, وهو لن يلقى صعوبة في إيجاد امرأة أخرى في حال صدته الآن. لعله سينساها بعد لحظة واحدة, وبالرغم من ذلك ترددت:
-لا أحب ترك الموظف بمفرده لفترة طويلة.
اقترح:" بعد العمل إذا؟".
-علي أ أراجع الحسابات وأجري الجردة.
مال غابرييل برأسه وخفض عينيه, وزم فمه.
ظن أنها تشعر بالحياء وبعد أن تذكرت القرار الذي اتخذته سابقا, قالت ريانون بسرعة:
-يستغرق هذا الأمر عشرين إلى ثلاثين دقيقة. نحن نقفل في السادسة كافة أيام الأسبوع باستثناء السبت, إذ نقفل عند الثانية.
هل قالت ما ظنت إنها قالته؟ هل قبلت دعوة رجل ما للخروج؟ قفز قلبها من مكانه ثم عاد.
أومأ غابرييل يحفظ المعلومات التي قالتها له.
رافقها إلى سيارتها, وكان لسانها مربوط لشدة دهشتها مما أقدمت عليه. لم يلمسها, بل انتظر حتى جلست ووضعت حزام الأمان, ثم أغلق الباب, وتراجع إلى الخلف, ملوحا لها.
توجه إلى السلالم سم إلى سيارته مقطب الجبين. فبعد لقائهما الأول, ظن أن هذه المرأة تشغل تفكيره لأنه يشعر بالذنب بعد أن كان السبب في سقوطها أرضا. ولكن, حين لمحها مجددا اليوم, شعر بالحماسة تغمر قلبه, ثم أحس بضيق يعتصر صدره, وتعرقت يداه لم يختبر مثل هذا الشعور منذ المرة الأولى التي دعا فيها فتاة للخروج, حين كان لا يزال مراهقا. أما اليوم, فها هو الشعور يعاوده.
أراد أن يمسك بها, أن يتأكد من بقائها بجواره إلى أن يعرف كل شيء عنها. إلا أنه تذكر, وهو يضغط على زر جهاز الإنذار في سيارته, أنها ستخاف وتهرب إذا ما لمسها.
صعد في سيارته وأدار المحرك. ريانون! أحب انسياب اسمها, تماما كما أعجب بها منذ اللحظة الأولى التي وقع فيها نظره عليها.
نظر في مرآته, ورجع قليلا إلى الخلف, ثم قاد سيارته في الممر إذا, لم تكن تعرف هويته! ولكن أهذا سبب كاف لتتصرف بهذه الطريقة الجافة؟ أتتصرف هكذا مع الرجال كافة؟ ترى ما الذي يدفع المرأة للتصرف بهذا القدر من الحذر؟.
تبادر احتمالان إلى ذهنه, ومن دون أن يعي شد بيديه على المقود آلمه فمه فأيقن أنه يصر على أسنانه. حاول الاسترخاء, وفضل عدم الوصول إلى استنتاجات قد تكون خاطئة. فلمجرد أن امرأة ما لم ترتم بين أحضانه منذ اللحظة الأولى, ولم تتأثر بوسامة وجهه وسحره, لا يعني أنها تشكو من علة ما.
لعل هذا هو ما أثار اهتمامه في ريانون, فهي لم تتصرف كغيرها من النساء, بالرغم من أنه أظهر اهتمامه بكل وضوح. لم تعكس نظراتها أي اهتمام, كما أنها لم تحب أن يلمسها.
وهذا أمر ينوي تغييره.

روايات عبير / دقات على باب القدر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن