الفرصة الضائعة

12K 245 4
                                    


لم يفهم غابرييل ما عنته بقولها, أخرجت في موعد ثم تعرضت بعده لاغتصاب؟ أم قطعت شوطا كبيرا في علاقة فلامت نفسها؟ قال:
-إذا تصرف ذلك الرجل تصرفا لا تريدينه, فالذنب ليس ذنبك".
رفعت رأسها:" أعلم أن الذنب ليس ذنبي".
فسأل بهدوء:" هل ستقولين لي ما حدث؟".
ترددت وحدقت إليه كما لو أنها تخضع لتنويم مغناطيسي وتناهى إليهما وقع خطوات ثم ظهر ميك أمامهما, وقال:" أحان وقت الرحيل؟ مساء الخير سيد هادسون, لم أكن أعلم أنك هنا".
شتم غابرييل بصمت, ونهره وهو يدرك أن الفرصة ضاعت من يد:" نحن نعمل".
تفاجأ ميك من نبرة غابرييل, فيما رحبت ريانون بالمقاطعة, فقالت:
-كنا نعمل ولكننا انتهينا لتونا, فما رأيك؟
ابتسمت واتجهت بسرعة نحو ميك لتنظر من أسفل الدرج إلى اللوحة متجنبة النظر إلى عيني غابرييل.
نظر إليها غابرييل وقد شعر بألم في صدره. إنها تهرب منه وتسعى إلى رجل آخر بحثا عن الحماية. إنها تبتعد عنه.
اعترف ميك:" أنا لا أفهم كثيرا في الفن التجريدي, ولكن الألوان جميلة جدا".
تحولت نظرة ريانون إليه:" يسرني أن الألوان أعجبتك, لن ترى جمالها كاملا قبل أن تنتهي. أنوي إنهاء الجزء العلوي أولا".
انزعج غابرييل لأنها تجاهلته, فقال:" سنترك الأغراض هنا إلى حين عودة ريانون في الصباح الباكر".
علم غابرييل أنه لن يحصل الليلة على مزيد من المعلومات من ريانون, فسمح لميك بمرافقتها إلى السيارة, وقد شعر بالمرارة لأن التوتر غاب عن وجهها لحظتها.
تلك الليلة, بالكاد عرفت ريانون طعم النوم. كان عقلها يعيد ويعيد ذكريات قديمة, تمكنت من تخطيها وها هي تعود الآن لتطاردها.
كانت تعرف كافة النظريات القائلة بضرورة مواجهة الظلمة ومخاوفها, فقد عاشت هذه التجربة في السابق, ولا تنوي المرور بها مجددا.
أما اليوم فها هي تحيا الكابوس عينه من جديد. شعرت بالبرد, وتعرقت خوفا, وراح رأسها يضج بالذكريات.
في الصباح, توصلت إلى استنتاج وهو أن شعورها بالاستياء من غابرييل أمر ظالم بحقه.
صممت على منع أشباح الماضي من أن تملي عليها تصرفاتها, فعادت إلى العمل على لوحة الموزاييك آملة أن يبقى غابرييل بعيدا عنها. لكنها وجدته ينتظرها عند أسفل السلالم. قال وهو يقترب منها تدريجيا:" ظننت أننا نستطيع أن نكمل من حيث توقفنا".
لم تجب ريانون, فقد كانت منهمكة بالسيطرة على المشاعر المتناقضة التي اجتاحتها. فكرت والحقد يملؤها في أنها تكرهه لعدد من الأسباب أهمها أنها وقبل وصولها إلى المبنى بجسمها يخدر وبسائل دافئ يجري في عظامها.
وبالرغم من أن نظرها كان مسمرا على العلب والأدوات الموضوعة أرضا, إلا أنها شعرت بأنه ينظر إليها وذاك البريق البارد في عينيه, بريق يشعرها بأنه يحاول اختراق ذاتها. كانت تعلم تماما أنه لم يعن بحديثه لوحة الموزاييك بل حمل كلامه معنى مبطنا آخر.
وقالت في نفسها إن ماضيها لا يعنيه, وهي لن تسمح له بأن يعرفه. تنحنحت وحاولت أن تجعل صوتها ثابتا وقالت:" لا أحتاج إليك".
-هل أنت متأكدة؟ عملنا بشكل جيد البارحة, وظننت أن ما من مانع في الاستمرار به.
-كان عمل البارحة صعبا, لكنني قادرة الآن على العمل بمفردي.
رفعت ذقنها وتقدمت, بعد أن ألقت نظرة سريعة على وجهه الذي بات جامدا, خاليا من أي تعابير واضحة. وحده بريق عينيه كشف عن انزعاجه.
بدا صوته عميقا:" حسنا, كما تشائين".
لم يبق قربها بل صعد السلالم وتوجه إلى مكتبه. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم, أحضر لها كوبا من القهوة.
جلست ريانون كعادتها على الدرج, وبعد أن حدق إليها طويلا, جلس ومد ساقيه ونظر إلى فنجان القهوة ثم قال:" مساء أمس, بدأت بإخباري شيئا".
ارتشفت بسرعة القليل من القهوة.
-ارتكبت غلطة بذلك. على أي حال لقد تخطيت هذا الأمر منذ سنوات.
-هل أنت متأكدة؟.
نعم.
حدقت إليه, فرأت الشك واضحا في عينيه مما اضطرها إلى إخفاء وجهها بفنجان القهوة.
-هل قابلت طبيبا نفسيا أو ما شابه؟
أخفضت ريانون كوب القهوة:" نعم, طيلة عام كامل".
-ربما يفترض بالعلاج أن يدوم أكثر.
-أتظن أنني مختلة؟
-طبعا لا. أظنك تكبحين مشاعرك وهذا ليس بالأمر الصحي.
شربت ما بقي من قهوتها ثم وقفت. نظرت إليه من علو فشعرت بثقة أكبر في النفس, وظهر مجددا الأمتعاض الذي أحست به سابقا.
-أشكر لك اهتمامك. أنت لست أول رجل يخضعني لهذا التحليل النفسي. حسنا, أنا أعاني من كبت جنسي وعجز عاطفي. في الواقع, أنا مرتاحة هكذا, شكرا لك.
أو على الأقل كانت مرتاحة إلى أن تعرفت إليه, وهي تريد بشدة العودة إلى حالة الاستقرار النفسي والجسدي. تابعت كلامها:" إن كنت باردة, فلا بأس في ذلك".
وضع غابرييل كوبه جانبا ووقف يعترض على كلامها:" باردة؟ لا أصدق هذا!".
-صدق ما أقوله, فقد قال لي هذا الكلام خبراء أو خبير واحد.
أرادت إغلاق فمها بيديها, فقد باحت بالكثير حتى الآن.
نظر إليها غابرييل والحيرة تملأ عينيه:" من هو ذلك الخبير؟".
-انس الموضوع.
رمت كوب القهوة أرضا ثم توجهت إلى الفرشاة وعلبة الطلاء اللتين كانت تستعملهما. وبسرعة البرق, تقد غابرييل منها و أمسك بيدها, وأدارها لتواجهه..
-أهو الطبيب النفسي الذي كان يعالجك؟.
أحس أنه يحكم قبضته عليها, فأفلت يدها لكنه وقف قريبا جدا منها إلى حد أنها رأت صورتها في عينيه, وأيقنت أنها لن تستطيع الهرب بسهولة.
سأل والشك يسيطر عليه:" هل كان هذا الشخص جيدا؟".
-إنه ذائع الصيت في مهنته.
وهو أمر لم يتوانى عن تذكيرها به مرارا وتكرارا.
قطب جبينه وسألها:" هل استشرت شخصا آخر في هذا الموضوع؟".
ضحكت ضحكة خفيفة:" حصلت على الكثير من الآراء, وأنت لست سوى الأخير".
-لم أقل هذا لأدفعك إلى إقامة علاقة معي, بل أردت المساعدة وحسب.
كان قريبا جدا منها إلى حد أنه يسعها الاستناد إلى صدره إن شاءت... وهي تريد هذا بكل جوارحها. وعوضا عن الارتماء في حضنه, تقوقعت على نفسها:
-لا أحتاج إلى مساعدة. لا أريد مساعدتك ولا مساعدة أي شخص آخر.
قال بعد لحظة:" حسنا, كما تشائين".
ابتعدت عنه غاضبة واتجهت إلى الحائط.
-لم ترتاحي إلا خمس دقائق!.
-أريد المضي قدما في هذا.
ارتشف ما تبقى من قهوته وقال:" وأنا أيضا".
بقي بجوارها يراقبها بكآبة, ما جعلها تشعر بأنه يريد أن تخرق جدار الصمت. عملت ببطء, إذ خشيت أن تخطئ فتكشف له أن وجوده قربها يوترها ويجعلها عاجزة عن العمل كالعادة.
وبعد فترة بدت لها كدهر, غادر المكان ولم تره مجددا ذلك اليوم.
في المرة التالية مر بها للتأكد من تقدم العمل بدا هادئا, ولم يقل أي شيء أو يقدم على أي عمل ما كان ميك ليقوله أو يقوم به.
لم يذكر موضوع ماضيها مجددا, وقالت ريانون في نفسها إنه نسي الأمر حتما. حاولت نسيان ما جرى, و بدأت ترتاح تدريجيا, أما غابرييل فراح يعرج عليها من وقت إلى آخر ويعاملها بطريقة مهنية صرف.
أنهت الجزء الأعلى من اللوحة فيما كان غابرييل يراقبها. ثبتت قطعة البلاط الأخيرة ووقفت:" لا أستطيع الأستمرار بالعمل إلى أن يجف الطلاء".
مد غابرييل يده ليساعدها على النزول, ومن دون تفكير, سمحت له بمساعدتها. وضعت يدها الأخرى وراء ظهرها وقالت مبتسمة:
-أحتاج إلى بعض التمارين الرياضية".
اقترح غابرييل:" ما رأيك بنزهة إلى رصيف الميناء, حيث يمكننا أن نتناول شيئا احتفالا بإنهاء الجزء الأعلى من اللوحة؟".
-وأنا أرتدي هذه الثياب؟.
لاحظت أنه ما زال يمسك بيدها, فسحبتها و أشارت إلى قميصها الملطخ.
-لا بأس, يسعني أن أقرضك قميصا إن شئت.
تذكرت ما جرى في المرة الفائتة حين بقيا وحدهما في مكتبه, وأحست بانقباض في معدتها, لكن غابرييل لم يشاطرها هذا الشعور بالانزعاج. بدا مؤخرا أنه يسعى جاهدا لعدم مضايقتها أو انتهاك خصوصياتها. وهي واثقة من أنه لن يقدم على أي تصرف يجعلها تشعر بالانزعاج أو الخوف.
هزت رأسها وسألته:" أتبقي ملابس إضافية في مكتبك؟".
-نعم, فأحيانا لا يكون لدي الوقت للذهاب إلى المنزل وتغيير ملابسي.
هي أيضا تغير ملابسها في العمل أحيانا, إذ تبقي سروال جينز وبعض القمصان في صالة العرض.
حدقت إليه لبضع لحظات ثم قالت:" حسنا, لم لا!".
جاهد غابرييل ليمنع نفسه من ضمها بين ذراعيه معانقتها. فتصرف بهدوء وقادها إلى مكتبه, ثم ناولها قميصا أبيض نظيفا وقال وهو يشير إلى باب:" الحمام من هنا".
حين خرجت من الحمام, كانت قد طوت أكمام القميص وربطته من الأمام, فسمح لنفسه بالنظر إليها للحظة, ولم يستطع إلا أن يعلق:
-يليق بك القميص أكثر مما يليق بي".
وبغية منع يديه من لمسها, استدار بسرعة نحو الباب وقال:" هلا ذهبنا؟".
ستكون بأمان في الشارع, حيث الناس. لقد جاهد لنيل ثقتها, وهو لا ينوي إفساد هذا الآن.
مرا بالمبنى القديم الذي هدم, والذي ظهرت مكانه أساسات بناء جديد. ومن بين المقاهي والمطاعم العديدة, انتقى غابرييل مطعما يطل على المياه والمرفأ.
طلب غابرييل كوبين من عصير الليمون الطازج, وسأل ريانون:" أتودين تناول شيء ما؟".
-بعض البطاطا المقرمشة والفستق.
اكتفيا بما فضلته وجلسا يتحدثان ويضحكان إلى أن قالت ريانون وهي تتثاءب:" اعذرني!".
-هل أنا مضجر إلى هذا الحد؟
ضحكت وهي تهز رأسها:" أنت تعلم أن ما تقوله غير صحيح, فأنت مسل أكثر من أي رجل عرفته في حياتي".
شعر بأن قلبه توقف عن الخفقان للحظة, وسأل بخفة:" و كم رجل عرفت في حياتك؟".
قالت وهي تتناول حبة بطاطا وتغمسها في الصلصة:" القليل".
تساءل إلى أي حد عرفتهم, وتكهن بأن معرفتها بهم كانت معرفة سطحية, باستثناء بيري.
تناولت حبة بطاطا أخرى واستدارت تراقب المارة, وقالت:
-حين كنت طفلة, كان والداي يأخذانني لقضاء عطلة الأسبوع على الشاطئ الشمالي.
-يمكننا القيام بهذا إن شئت.
نظرت إليه والدهشة تعلو وجهها, ثم ابتسمت:" أحقا؟".
وظهرت في عينيها نظرة شكر وامتنان, فتنهد غابرييل:"ولم لا؟".
استقلا المركب الذي شق طريقه عبر عباب البحر. راح النسيم يداعب شعر ريانون ويلون وجنتيها, وراحت المدينة تصغر تدريجيا فيما المركب يشق الأمواج ويترك رغوة بيضاء وراءه.
سألها غابرييل:" هل تودين الجلوس؟".
هزت رأسها ودخلت خصلة من شعرها في عينيها فأبعدتها. وتساءل إن كانت تدرك كيف يبدو قميصه عليها, وكيف يبرز جمال قدها, أشاح بوجهه بعيدا, فرأى شيئا لفت نظره. طوق ريانون بيديه وأشار:" أنظري إلى هناك".
ظهر في البعيد دلفين يقفز ثم ظهر دلفين آخر. ابتهجت ريانون والتفت إليها ليرى نظرة التعجب على وجهها. وأعلن قبطان المركب على المذياع أن على الركاب النظر يمينا لرؤية الدلافين.
لعبت الدلافين لبضع دقائق ثم اختفت, وغابت الحماسة معها. ارتجفت ريانون ولفت ذراعيها حول نفسها.
سألها غابرييل:" هل تشعرين بالبرد؟ يمكننا التوجه إلى الداخل!".
-لا, البقاء هنا مسل أكثر.
لكنها عادت وارتجفت ثانية. ومن دون تفكير وقف وراءها ولفها بذراعيه.
ارتجفت بين يديه, فأشك أن يفلتها, لكنها عادت واسترخت على صدره.
أغمض عينيه, إلا أن الصور التي تبادرت إلى ذهنه لم تساعده في السيطرة على نفسه. فتح عينيه مجددا وأمل أن تشغله الريح بفكرة مختلفة عن تلك التي تراوده حاليا. وتساقط الرذاذ على وجهه بسبب سرعة المركب, فضحكت ريانون و أحنت رأسها.
إنه يحتاج إلى أكثر من بضع قطرات من الماء ليطفئ النار التي تستعر في داخله. لكنه استغل الفرصة ليخفف من قبضته عليها. حين وصل المركب أخيرا إلى الشاطئ, انتابه شعور من الارتياح والأسى إذ ابتعدت عنه واتجهت إلى السلم لتنزل.
لا تذكر ريانون متى تصرفت بهذه العفوية. لعل شعورها بالتعب هو الذي دفعها للاسترخاء, أو لعله هذا الرجل الذي يشاركها هذه المغامرة الصغيرة. فلم تكن تخشى معه ألا يعيرها اهتمامه, ولم تكن مضطرة إلى صد نظرة الاعجاب التي يرمقها بها, كما لا تشعر بعدم الارتياح إذا لمسها.
مشى غابرييل بقربها واضعا يديه في جيبيه, ثم قفز عن حافة صغيرة باتجاه الشاطئ الرملي واستدار ليساعدها على القفز.
خلعت حذاءها وسمحت للأمواج بغسل رجليها كما اعتادت أن تفعل عندما كانت طفلة. وقف غابرييل بعيدا عنها, وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة رضى.
انحنت لتلتقط صدفة صغيرة زهرية اللون و متناسقة الشكل, واتجهت نحوه لتريه ما وجدت, قبل أن تسير إلى جواره. شعرت أنها خفيفة, غير مقيدة, لا بل سعيدة.
كان اكتشافها أنها سعيدة بمثابة رؤيا فاجأتها, و أفقدتها توازنها. فإذا بذراع غابرييل تمسكها.
ولم تعد ريانون تلاحظ ما حولها, بل تاهت في سحر ابتسامة غابرييل.
سألها:" هل أنت بخير؟".
قالت في سرها: أنا مغرمة, هذا هو الحب.
قالت وهي عاجزة عن إبعاد نظرها عنه:" نعم, أنا بخير".
تذكرت بغموض أنها أحست بمشاعر مشابهه عندما كانت مراهقة, ولكن ما تعيشه اليوم مختلف. فذاك الشعور لم يكن يوما واثقا وعميقا ومرهقا للأعصاب.
رفع يده ولمس خدها بأصابعه:" ريانون, قولي لي ما الخطب؟".
ابتلعت ريقها وابتسمت:" لقد لويت كاحلي قليلا".
قطب جبينه, وركع على رجل واحدة:" أريني. أي رجل؟".
التفت أصابع قوية على كاحلها وتملكها شعور عجزت عن تحديده. ضحكت:
-غابرييل, أنا بخير الآن.
-هل أنت واثقة؟
عندما أومأت برأسها, وقف وأمسك بيدها مجددا, وسألها:
-ستخبرينني إن كنت تتألمين, أليس كذلك؟".
-أنا بخير حقا.
-عديني ألا تكذبي علي.
-لن أفعل.
لقد تغير كل ما في عالمها في لحظة, وكانت تجهل تماما ما عليها فعله, قالت وقد نكثت بوعدها:" أنا بخير".
ماذا سيقول إن أفصحت له عن حبها؟ بدأت بالسير مجددا وأجبرته على اللحاق بها.
وصلا إلى العشب الأخضر المقابل لمركز التسوق, وابتسم غابرييل عندما رآها تحاول إزالة الرمل عن قدميها وهي تجلس على درجات تؤدي من الشاطئ إلى مركز التسوق. قال وهو يقدم وهو يقدم لها محرمة حريرية:" استخدمي هذه".
-أنها نظيفة جدا.
-يمكن أن تغسل, تفضلي.
-حسنا. . . شكرا لك.
تناولت المحرمة ونظفت رجليها قدر الإمكان ثم أخذت فردة حذاء وانتعلتها
كان غابرييل يمسك فردة الحذاء الأخرى في يده, فانحنى أمامها وأمسك بكاحلها ثم ألبسها الحذاء. حين استقام ومد يده ليساعدها على الوقوف شعرت بشيء من الدوار.
تفرجا على بعض واجهات المحلات, ثم غرقا في مكتبة للكتب المستعملة, بعدها سألها:
-ما رأيك لو نتناول الطعام هنا قبل أن نعود إلى المدينة؟.
كانت الشمس تشارف على الغروب عندما طلبا طعام العشاء, وفتحا حزمة الكتب التي اشتراها كل واحد منهما وراحا يتفرجان على ما انتقاه الآخر, بعد أن أنهيا عشاءهما وصعدا إلى المركب, كان الليل قد حل.
تعثرت فتاة تنتعل حذاء عالي الكعبين, كذاك الذي أقنع بيري ريانون بشرائه, ووقعت على ركبتيها.
ساعدها غابرييل على الوقوف ثم أفلتها وعاد إلى جوار ريانون, فظهرت على وجه الفتاة علامات الخيبة. ولم تستطع ريانون منع نفسها من الابتسام.
سألها غابرييل وهو يقودها إلى مقعدها:" هل ما جرى مضحك؟".
-طبعا لا, هل آذت نفسها؟.
-لا, هذا الحذاء قاتل. كيف حال حذائك؟.
-لم أنتعله مجددا, شجعني بيري على شرائه.
-بيري, إذا؟.
-قال إنه لا يسعني الخروج مع... إلى حفلة كهذه وأنا أرتدي ملابس العمل, لذا اصطحبني للتسوق.
-اصطحبك؟.
-لقد اختار كل شيء ارتديته تلك الليلة.
حدق غابرييل إليها:" هل بيري.. شاذ؟".
-يمكن للرجل أن يهتم بالملابس النسائية من دون أن يكون شاذا لكن في الواقع نعم, إنه شاذ, فهل صدمك الخبر؟.
-لا. . لا. . كان علي أن أخمن.
في البعيد, تلألأت أضواء المدينة والمباني المحيطة بالمرفأ. تثاءبت ريانون, فقربها منه وسر عندما وضعت رأسها على صدره وأغمضت عينيها.
باتت تثق به كفاية إلى حد أنها غفت بين ذراعيه. لقد قطع شوطا كبيرا ومهما, إنما عليه التنبه لئلا يفسد كل شيء.
حين توقف المركب, استيقظت. لكنها بدت وكأنها في حلم لم تستيقظ من إلا بعد أن وصلا إلى الشارع ونادى غابرييل سيارة أجرة. استدارت نحوه وقد بدأ النعاس يتلاشى من عينيها.
-ألن نسير؟
-سأقلك إلى المنزل, فأنت لست بحالة تسمح لك بالقيادة.
اعترضت وهو يدخلها إلى المقعد الخلفي لسيارة الأجرة, ويعطي العنوان للسائق:" سأطلب من ميك الاهتمام بها".
تناول الهاتف الخلوي من جيبه, وطلب الرقم ثم ترك رسالة على المجيب الآلي.
-لقد قمت بنشاطات عدة في يوم واحد, وأنا لست معتادة على ذلك.
-نعم, فأنت تعملين طيلة الوقت على لوحة الموزاييك اللعينة.
ضحكت:" إنها لوحتك, ظننتك تحبها".
-أنت مرهقة.
-أنا متعبة فحسب والذنب ليس ذنبك.
تمتم:" كان علي أن أرسلك إلى المنزل لترتاحي عوضا عن أخذك في هذه المغامرة".
-لم أكن أحتاج إلى الراحة, كما أنني قضيت يوما ممتعا.
مدت يدها وأمسكت بيده, فجاء تأثير لمستها كصدمة كهربائية.
لم تكن ريانون معتادة على التصرف بشكل عفوي, وبدا أنها لا تعي ما فعلته, فاضر لأن يأخذ نفسا عميقا قبل أن يقول:" يسرني هذا".
لحسن الحظ أنها لم تتوقع أن يبادلها كلامها بحديث لبق, بل اكتفت بأن تبتسم وتنظر من نافذة سيارة الأجرة إلى الأنوار التي تضيء الشوارع.
عندما وصلا إلى منزلها, طلب من السائق الانتظار ورافقها إلى الباب. قال:
-إن أعطيتني مفاتيح سيارتك, فسأحرص على ركنها في المرآب.
أعطته المفتاح ثم نظرت إلى سيارة الأجرة, وقالت بتردد:" إن كنت تود الدخول. . . ".
توقف غابرييل عن التنفس. ترى ما الذي يجول في خلدها؟ مهما كان ما تفكر فيه, فهو لا يثق في نفسه, ويخشى أن ينجرف وراء عواطفه عندما يصبحان في الداخل بمفردهما, فهي منهكة ومتعبة, لذا يستحسن أن يرفض دعوتها, وقال:" سأقبل دعوتك في مرة أخرى".
وتساءل عما إذا كان يتصرف بغباء, لكنه غادر قبل أن يغير رأيه.
*******
قال بيري:" لا بد أنك مغرمة!".
-ماذا؟.
نظرت إليه ريانون بذهول وقد نسيت الكتاب الذي تحمله بين يديها.
-أنت تقفين هنا من دون حراك منذ نحو خمس دقائق كما لم تسمعي كلمة واحدة مما قلته.
قال بيري:" لا بد أنك مغرمة!".
-ماذا؟.
نظرت إليه ريانون بذهول وقد نسيت الكتاب الذي تحمله بين يديها.
-أنت تقفين هنا من دون حراك منذ نحو خمس دقائق كما لم تسمعي كلمة واحدة مما قلته.
احمرت وجنتاها:" عذرا بيري, كنت أفكر".
-إنه ملاكك غابرييل, وأنا لا أعني لوحة الموزاييك. كيف تجري الأمور؟.
-سأعمل على الجهة العليا من اللوحة في الأسبوع المقبل.
لقد أنهت نصف اللوحة, والعمل على الجزء السفلي أسهل. يثير فيها إنهاء المشروع مشاعر متناقضة, فهي تتوق إلى الانتهاء منه ورؤية ثمرة عملها, لكنها تخشى في الوقت عينه أن يطرأ تغيير على علاقتها بغابرييل جراء ذلك.
كانت ريانون تشعر بالضياع والإثارة كلما فكرت بغابرييل. وقد تساءلت في بعض الأحيان عما إذا قرر عدم إضاعة وقته معها نظرا لأنها عاجزة عن منحه ما يريد. يفترض بها أن ترتاح لأنه لم يعد يريدها, إلا أنها شعرت بألم يعتصر فؤادها ويمزقه.
اكتشافها أنها مغرمة به أثار الكثير من المسائل والتعقيدات, وباتت تشعر بالسعادة والخوف في الوقت عينه.
عندما بدأت ريانون بملء الفراغات بين قطع البلاط, عرض غابرييل عليها مساعدته لإنهاء الزاوية العليا, فراحت تراقبه عن كثب.
بعد أن عملت لبعض الوقت, خلعت قفازيها ومسحت جبينها, ثم حركت يدها اليمنى المتصلبة.
قال لها غابرييل:" هذا يكفي. أنت أقوى مما تبدين عليه, لكن هذا العمل مرهق, وأنا جائع, هل تناولت الطعام قبل أن تحضري إلى هنا؟".
-تناولت صحن سلطة.
بدا مشمئزا:" سلطة! أنت تحتاجين إلى شيء مفيد أكثر من السلطة. لما لا نخرج لتناول وجبة طعام حقيقية؟".
أشارت ريانون إلى قميصها وسروالها الملطخين, ونظرت إلى حذائها, فإذا به ملطخ أيضا.
-هل تمزح معي؟
-سأطلب طعاما جاهزا. ماذا تفضلين؟ طعاما هنديا؟ صينيا؟ سمكا؟ نقانق؟
كانت أفكاره ممتازة, جعلتها تشعر بالجوع, وقالت:" طعاما صينيا!".
وفيما راحت ترتب معداتها خرج لإحضار الطعام, ثم عاد وهو يحمل في يده كيسا كبيرا تفوح منها رائحة زكية, كما حمل تحت إبطه جريدة.
مد الجريدة على طاولة القهوة ثم وضع الكيس الورقي عليها. وعندما خرجت من الحمام بعد أن غسلت يديها, كان قد أعد المائدة, وأخرج قنينة مرطبات من الكيس, فشعرت أنها مدعوة إلى وليمة.
بعد أن انتهيا من تناول الطعام, جلست ريانون على الأريكة, وفي يدها كوب مليء.
أراد أن يضيف إلى كوبها المزيد, فرفضت:
-إن أردت أن تنتهي لوحتك, فكف عن إطعامي لأتمكن من الوقوف والعمل.
-لن تعملي الليلة!
-أريد إنهاء النصف العلوي.
ونظرت إلى ساعتها..
-حسنا, ما رأيك ببعض التفاح؟
رددت ريانون, من دون أن تفهم:" تفاح؟".
-أنا أمزح. لا تقلقي!
أنهت ريانون العصير فانحنت لتضع الكوب على الطاولة. لفتت الجريدة المطوية نظرها إذ أظهرت جزءا من صورة. إنها صورة رجل وسيم في منتصف العمر يدير ظهره للكاميرا, وقد امتدت يد لتمنع المصور من التقاط الصورة.
اقتربت ريانون أكثر, فيما راح قلبها يخفق بقوة. لا يعقل, هذا مستحيل!
بلى, لقد تعرفت إلى وجهه, بالرغم من مرور أعوام على المرة الأخيرة التي رأته فيها.
مدت يدها بسرعة وسوت الجريدة فرأت الصورة كاملة وقرأت العنوان:" طبيب نفسي متهم".
وانتقل نظرها إلى المقالة:" الطبيب النفسي جيرالد دود متهم من قبل مريضتين سابقتين لديه بالتحرش الجنسي. وقد رفض التحدث إلى مراسلنا بعد أن استدعي إلى المحكمة نهار الجمعة. . . ".
و غامت الكلمات أمام ناظريها. أخذت يدها ترتجف, فأمسكت الجريدة بسرعة, ووضعتها في حضنها.
جيرالد دود. وراح الاسم يتردد في رأسها. نظرت مجددا إلى الصورة, وهي تتمنى لو تستطيع الانقضاض عليه.
بدا صوت غابرييل ملحا:" ريانون؟ ما الخطب؟".
حدقت إليه من دون أن تراه جيدا. تذكرت تلك الغرفة بأنوارها الخافتة, و جيرالد دود الذي جلس وهو يضع يده على ركبتها ويحدق إليها بنظرة غامضة وحادة.
((يمكن شفاء البرودة الجنسية, يمكنني أن أساعدك)).
-ريانون؟ هل أنت مريضة؟.
لا بد أنها بدت مريضة. كان رأسها يدور وشعرت بالبرد في جسمها كله, كما ظهر العرق على جبينها.
همست:" أنا أعرفه!".
نظر غابرييل إلى الجريدة ثم حملها بين يديه, وقد اسودت عيناه:
-هل مات أحدهم؟
نظر إلى العناوين ثم استدار ناحيتها:" أتعرفين هذا الرجل؟".
عجزت عن الكلام من تأثير الصدمة, لذا اكتفت بأن تهز رأسها إيجابا.
أخفض غابرييل نظره وراح يقرأ المقالة بسرعة, ثم فتح على الملحق ليرى نهاية المقال.
نظر إلى الأعلى, وقد ظهرت علامات الحزن على وجهه, ثم سألها:
-إنه الطبيب النفسي الذي كان يعالجك؟ هو من قال لك إنك باردة؟
ومجددا, أومأت برأسها إيجابا.
شتم بصمت, وسألها بسرعة:" هل فعل بك هذا أيضا؟".
بدت الأوراق التي يحملها بين يديه ضبابية, وقالت:" لم أقرأ المقال كله".
قال بقوة والقرف باد في صوته:" تحرش جنسي!".
وضع الجريدة جانبا وأردف:" السافل استغل مرضاه, لكنه يقول إنهن وافقن على أساليبه في العلاج".
ردت:" نعم, سيقول هذا. فقد استمع إلى أسرارهن الحميمة. وعرض عليهن المساعدة والدعم, واقترب منهن أكثر من والدتهن حتى. لقد جعلهن يعتمدن عليه, ووعد بمساعدتهن على الشفاء, وبالوصول إلى حالة جسدية ونفسية طبيعية إن وثقن به. فهذه هي الطريقة التي. . . يعمل بها".
لكنها أدركت أن ما يقوله خاطئ. صحيح أنها كانت ضعيفة ومشوشة, لكنها حافظت على بعض المنطق فرفضت ادعاءات جيرالد دود, وعرفت ما يحاول فعله.
اسودت عينا غابرييل, وتصلب وجهه فبدا وكأنه منحوت من الصخر.
-هل بلغت الشرطة عنه؟
هزت ريانون رأسها نفيا:" ما كان أحد ليصدقني, هذا ما قاله لي. فهو طبيب مشهور. . . وأنا مجرد شابة مضطربة نفسيا".
للحظة, فقد غابرييل رباطة جأشه المعهودة, وبدا غاضبا جدا. أخذت نفسا عميقا ووضعت يديها في حضنها.
ومن دون تفكير, اقتربت منه وانساب دفء أصابعه إلى أصابعها صعودا إلى يديها,إلى أن عانقها فغمرها بالدفء مجددا.
-قال. . . إن النساء المرضى يتوهمن ويتخيلن أمورا لم تحصل. كنت أعلم أنني لا أتخيل, لكنه كاد يقنعني. وقد أيقنت أنه لن يواجه صعوبة في إقناع أي لجنة تحقيق.
تمتم غابرييل:" السافل!".
كانت ترتجف, وشعرت كأنها غزال يركض في الغابات هربا من شيء ما, وقد وجد ملاذا آمنا.
لم تستطع رفع نظرها إلى الأعلى. حدقت إلى ذقن غابرييل وأدركت أن عضلاته مشدودة جدا.
قربها منه إلى أن استندت إلى صدره. كان يضمها بحنان, وقال:
"هذا الرجل مجرم. إنه حيوان ينقض على فريسته. يا له من حيوان, يختار أضعف النساء ضحايا له. آمل أن يتعفن في السجن لبقية أيام حياته".
همست ريانون:" شكرا لك".
ابتعد عنها قليلا ونظر إليها:" علام تشكرينني؟".
-لأنك صدقتني... لأنك غضبت مما حدث معي... لأنك واسيتني, بالرغم من أنك لم تحضر لي التفاح.
حاولت أن تبتسم ورفعت رأسها لتنظر إليه.
لم يبتسم غابرييل لكن الغضب تلاشى من عينيه:" إذا, أنت تعرفين ما يقال عن التفاح".
تردد صدى هذه الجملة في رأسها. لعلها سمعتها في زفاف صديق! فرددت:" ناولني إبريقا و أغرني بالتفاح . . .".
قال غابرييل بصوت عميق ودافئ:" إنه قول مأخوذ من نشيد الأناشيد".
وبالرغم من أنها تعرف تتمة الأبيات إلا أنه أضاف:". . . فأنا سقيم من الحب".
نظر إلى عينيها المنخفضتين ووجنتيها المحمرتين. سألها: " ريانون؟".
أدرك الجهد الذي بذلته لترفع نظرها وتحدق إلى عينيه, وقالت متنهدة:" نعم؟".
ولم تبتعد بالرغم من نظرة القلق البادية في عينيها.
قال مجددا بصوت أشبه بالهمس:" ريانون؟".
كان يشعر بقلبها ينبض قرب صدره. قالت مجددا وهي تجيب عن السؤال الذي ارتسم في عينيه:" نعم".
أغمض عينيه للحظات. ثم قلص المسافة التي تفصل بينهما وعانقها عناقا طويلا, حارا ملؤه المشاعر و الأحاسيس العذبة.
عانقها لوقت طويل, فضاع كل معنى للوقت والمكان, وشعر بسعادة لم يعرف لها مثيلا يوما.

روايات عبير / دقات على باب القدر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن