لم تتوقع ريانون ما جرى. وقف غابرييل مسمرا في مكانه لفترة طويلة فخيل إلى ريانون بأن الزمن توقف. وقف من دون حراك يحاول التأكد من أنها قصدت ما قالته.
لم يعانقها بقوة كما توقعت, بل شبك أصابعه بأصابعها, وعانقها للحظة ثم ابتعد قليلا إلى الوراء. تسنى لها بعض الوقت لتشعر بخيبة أمل, إلا أنه سرعان ما ضمها إليه. ضمها إلى صدره بقوة وحنان وغابا في عالم من الأحلام والأماني.
لم تظن يوما أن عناقا واحدا من رجل قد يكون مليئا بالحنان والرقة. بدا وكأنه خال من أي أنانية فجل ما يريده هو منحها الحنان من دون مطالبتها بشيء.
بدت وكأنها... بدت وكأنها لم تعانق رجلا من قبل!
حين رفع رأسه مجددا ونظر إليها بغموض, لم تستطع مبادلته النظر لشعورها بالدوار. لامس خدها واقترح مازحا: " تستطيعين مبادلتي العناق؟!".
شعرت ريانون بالخجل واحمرت وجنتاها. لإخفاء خجلها أبعدت رأسها واستدارت مفلتة يدها من يده, ومسوية شعرها.
تمتمت:" علي أن أغادر".
حين تحرك تراجعت إلى الخلف, إلا أنه اتجه نحو الأريكة لإحضار حقيبة يدها. أعطاها الحقيبة ورماها بنظرة غامضة:" أرى أنك منشغلة هذا المساء".
-وعدت زميلتي في السكن بمرافقتها للتسوق.
-تعيشين مع زميلة في السكن؟ أهي فنانة مثلك؟
-جانيت ممرضة.
-ممرضة إذا!
رافقها إلى خارج المبنى, ثم إلى سيارتها. وقبل أن يغلق باب سيارتها وراءها قال:
-أنا مسافر إلى أستراليا غدا لزيارة مكتبنا في سيدني, لكنني سأتصل بك بعد عودتي.
ستتمكن من أن ترتاح ومن أن تفكر, إلا أنها شعرت بنوع من خيبة الأمل.
لم تصدق ماذا جرة منذ بضع دقائق.
ظلت طيلة رحلة العودة تفكر بعناقه, وتسترجعه بكل حذافيره, وقد شعرت بفرح كبير وهدوء إلى أن أيقظها سائق دراجة نارية من أحلام اليقظة ليخبرها بأن ضوء الإشارة استحال أخضر وأن عليها الانطلاق.
اتصل بها غابرييل في نهاية الأسبوع التالي وقال:" عدت مساء أمس, وقد سلمتني سكرتيرتي بطاقتي دعوة لحضور عرض الرقص الأفريقي الليلة. فهل تودين مرافقتي إن كنت غير مرتبطة؟".
-الليلة؟
-أعلم أنني أدعوك في اللحظة الأخيرة, إن كنت مشغولة...
-لا... أعني نعم, شكرا لك.
-هل أمر لاصطحابك من منزلك؟.
-لا, لاقني إلى هنا. في أي ساعة؟.
-هل تناسبك الساعة السابعة والربع؟ نستطيع عندئذ تناول وجبة سريعة قبل العرض, ثم الخروج لتناول العشاء بعد انتهاء العرض.
وفيما كانت تضع سماعة الهاتف, سألها بيري بفضول:" أتخرجين في موعد؟".
-لحضور عرض الرقص الإفريقي.
-يقال إنه عرض جميل, وحسبما سمعت, يصعب الحصول على بطاقات بسهولة.
-حصل غابرييل على بطاقتي دعوة.
رفع بيري حاجبيه:" غابرييل هادسون؟ ماذا سترتدين؟".
نظرت إلى تنورتها الضيقة وقميصها الأخضر.
-لا أملك الوقت الكافي لأذهب إلى المنزل وأبدل ملابسي.
نظر إليها بيري رافضا ما تقوله.
-يا عزيزتي, عليك أن ترتدي شيئا مميزا إن كنت ستخرجين مع غابرييل هادسون. لما لا تذهبين للتسوق في فرصة الغداء وتجدين لنفسك ثوبا خلابا؟ اسمعي, لما لا نذهب سويا إلى السوق, فإن تركتك تذهبين بمفردك, ستشترين حتما ثوبا تقليديا لن يلائمك.
كانت ريانون تعلم أن ثيابها تقليدية فهي لم تشأ أن تسترعي الانتباه.
-لا, لا أستطيع أن أفعل.
-هيا يا راي, ثمة العشرات من المحال التجارية على مقربة من هنا, وأنا واثق من أننا سنجد لك ثوبا ملائما. كما أننا لن نفقد عددا كبيرا من الزبائن إن أقفلنا لنصف ساعة.
وافقت بعد جهد جهيد, فهي لا تحبذ فكرة التسوق بمفردها. استمتع بيري بوقته وهو يرفض كل ثوب تقليدي, و أخيرا وافق على فستان أزرق قصير قال إنه يبرز لون عينيها بروعة وسترة من الساتان زرقاء اللون, كما اشترت حذاء عالي الكعبين.
-تبدين رائعة.
قال لها بيري هذا لاحقا حين أقفلت صالة العرض, وأخذت حماما سريعا في حمام المكتب, وارتدت ثيابها, ثم وضعت القليل من الزينة التي اشترتها تحت إشراف بيري.
بقي بيري معها بعد أن أقفلت الصالة وراح يتأمل ما صممه. بدا وكأنه بقي لئلا تغير رأيها وتخلع هذه الملابس لتعود وترتدي ثيابها التقليدية.
قالت ريانون:" أشعر و كأنني سندريلا, أنا لا أبدو على طبيعتي".
-تبدين جذابة جدا, لطالما أخفيت أنوثتك وقد حان الوقت لإظهارها من جديد.
وقف خلفها وسوى بضع خصلات من شعرها. وبعد قليل, سمع أحدهم يدق الباب فعرف أنه غابرييل, سألها وهو يتراجع إلى الخلف:" هل أدعه يدخل؟".
-نعم, شكرا.
انهمكت في إحضار حقيبة اليد المصنوعة من الساتان التي أصر بيري على شرائها, إلى حد أنها لم تلحظ النظرة التي وجهها غابرييل إلى بيري عندما دخل صالة العرض.
عندما استدارت, قال لها بيري:" سأتركك الآن, استمتعي بوقتك".
لاحظت ريانون النظرة التي ظهرت في عيني غابرييل عندما رآها, نظرة ملؤها الاستحسان والسرور, وسأل:" هل أنت جاهزة؟".
أومأت وتساءلت إن كانت ستجهز يوما لملاقاة هذا الرجل. كان يرتدي بذلة رسمية, وقد بدا وسيما, وسيما للغاية.
سأل:" هل يدعوك عدد كبير من الناس باسم راي؟".
-بعض الأصدقاء المقربين فحسب, هل يناديك أحدهم غاب؟.
-عائلتي فقط, ولكن يمكنك أن تناديني غاب إن شئت.
-أنا لست فردا من عائلتك.
نظر إليها مفكرا للحظة ثم سأل:" هل أستدعي سيارة أجرة؟".
-لا, يمكننا السير إلى المسرح.
-وأنت تنتعلين حذائك هذا؟.
ونظر إلى حذائها الرسمي العالي الكعبين.
إنه محق في كلامه. فهي لم تعتد انتعال حذاء مماثل, وقد لاحظ هذا الأمر بسهولة. لعله خبير في الأمور النسائية, وقد ذكرها هذا بمدى افتقارها للخبرة مع الرجال.
-سأكون بخير.
أكدت له هذا وهي تتجه إلى الباب وتحضر المفتاح.
تمتم وهو يخرج من الباب:" لا تفهميني بشكل خاطئ, يعجبني حذاءك كثيرا".
-لقد تأنقت لـ... لهذه المناسبة.
أوشك أن يزل لسانها وتقول "لك"
لعله عرف ما يجول في خلدها, فقال:" استحق الأمر العناء, فأنت تبدين خلابة".
-وأنت أيضا تبدو رائعا.
حين وصلا إلى المسرح ودخلا الردهة سرت ريانون لأنها أخذت بنصيحة بيري. كان البعض يرتدي ثيابا غير رسمية إنما باهظة الثمن وأنيقة, فيما البعض الآخر متأنق حتى أنها رأت نساء يرتدين الحرير والجواهر أيضا.
عند دخولهما المسرح لفتت وغابرييل بعض الأنظار, فافترضت أن السبب في ذلك شهرته, أو سحره ووسامته. مشت إلى جانب هذا الرجل الطويل القامة الذي طوق كتفيها بذراعه بثقة واتجها إلى المطعم الصغير, حيث جلسا إلى طاولة وطلب غابرييل بعض العصير و المقبلات.
بعد انتهاء العرض, والموسيقى الصاخبة والرقص, شعرت أن رأسها مليء بشتى الصور الغريبة الملونة, من ملابس مزركشة, وأشخاص فرحين لا يرقصون على أنغام الموسيقى فحسب بل يعيشونها أيضا. خرجت من صالة المسرح وهي تشعر بأنها قضت ساعتين من الزمن في عالم آخر.
حيا أحدهم غابرييل, فقدمها إلى رجل وامرأة بالكاد سمعت اسمهما, ثم أصغت إلى حديث لم يدم إلا بضع دقائق, قادها غابرييل بعده إلى مطعم قريب من المسرح.
سوت ريانون كرسيها ووضعت حقيبة يدها على الطاولة. وحين رفعت نظرها إلى غابرييل, وجدته يحدق إليها متأملا, ثم قال:" بعض الرقصات كانت جريئة والملابس أيضا... ألم تنزعجي من هذا؟".
هزت ريانون رأسها:" طبعا لا, كان العرض رائعا".
-أظن أن الفنانين لا يتصرفون بحياء.
ووصل النادل, فسأل غابرييل ريانون ماذا تريد أن تشرب.
-عصير طماطم من فضلك, فهو يمنحني النشاط, إ سأقود إلى المنزل.
حين رحل النادل, قال غابرييل:" كنت آمل أن تدعيني أقلك إلى منزلك".
-سيارتي في المرآب, ولا أريد إبقاءها هناك.
ظهرت نظرة شك في عينيه, إلا أنها ما لبثت أن اختفت, فتحدثا عن العرض إلى أن حضر الطعام, ثم راحا يتحدثان عن مختلف أشكال الفنون.
حين غادرا المطعم, كان الشارع أكثر هدوءا بالرغم من وجود عدد لا بأس به من الناس والسيارات.
وفيما كانا يسيران على الرصيف, علق كعب حذائها بين بلاطتين وتعثرت. وحدها ردة فعل غابرييل السريعة أنقذتها من السقوط أرضا, فتمسكت بذراعه بسرعة.
بقيت نحو نصف دقيقة قريبة جدا منه إلى حد أنها استطاعت أن تشتم رائحة عطره الزكية. كانت راحة يدها على صدره الدافئ فشعرت بنبضات قلبه, إلا أنها سرعان ما أبعدت يدها.
خفف غابرييل من قبضته التي تمسك بها, إلا أنه لم يرخها تماما:" هل أنت بخير؟".
-نعم, شكرا لك.
كل شيء بخير, ما عدى قلبها, فهو ينبض بسرعة كبيرة.
-صحيح أن هذا الحذاء مثير للغاية لكنه خطر أيضا.
-مثير؟.
جاء رد فعلها عفويا ونظرت بسرعة إلى الحذاء.
-هذه الأزرار الصغيرة على جانبي الحذاء... مثيرة
مال برأسه قليلا, وقد ظهرت نظرة غريبة في عينيه, ثم سوى رأسه ونظر إليها معتذرا بصمت.
لم تشأ المضي قدما في الحديث, بل أرادت أن تنسى الحادث وتكمل الأمسية.
إلا أنها شعرت بنوع من التمرد ولم تشأ التراجع. فأخذت نفسا عميقا, ثم أرغمت نفسها على النظر مباشرة إلى عيني غابرييل, وقالت باستخفاف:
-أنت لست من أولئك المهووسين بالأرجل, أليس كذلك؟.
سرت لرؤية الدهشة في عينيه, ثم ضحك فشعرت بالدفء والطمأنينة مجددا.
-لا تقلقي, لست مهووسا بأي شيء, جل ما في أن حذاءك يعجبني.
وكشفت ابتسامته و تعابير وجهه عن مشاعره, مشاعر حركت في داخلها مزيجا من الخوف والارتياب, والفرح الحذر. إنها قادرة على الاستمرار في هذا, تماما كغيرها من النساء. كل النساء قادرات على الخروج لتناول العشاء وحضور عرض مسرحي مع رجل جذاب, وتبادل أطراف الحديث معه. جل ما تحتاجه هو بعض التمرين والخبرة.
وبدا غابرييل مستعدا لمساعدتها على اكتساب هذه الخبرة.
حين تابعا السير, بقيت يده حول كتفيها.
كانت قد ركنت سيارتها في الطابق الثاني, وحين رفضت استعمال المصعد رافقها من دون الإدلاء بأي تعليق.
فتح غابرييل باب سيارة ريانون فيما راح بعض الشبان يصرخون ويتفوهون بكلام بذيء موبخين رجلا يسير ببطء.
ارتعبت ريانون فأدخلها غابرييل بسرعة إلى مقعد السائق, ووقف بجانبها يحميها إلى أن مرت سيارة الشبان بقربهما وهي تنفث دخانها عليهما.
انحنى نحوها وأدار وجهها بيده يتأملها ثم أغلق الباب.
وفي صباح اليوم التالي, اتصل بها في صالة العرض:" هل أنت مشغولة الليلة؟".
-وعدت أن أساعد في تنظيم حفلة في المستشفى حيث يعيش والدي.
كان المرضى في المستشفى يحضرون لهذا الحدث منذ أسابيع. وبالرغم من أن ردات فعل والدها لا يمكن التنبؤ بها, إلا أنه يستمتع بالموسيقى.
-هل يمكننا تناول الغداء سوية بعد أن تنهي عملك في صالة العرض؟
أرادت القبول لكنها ترددت:" علي أن أعمل على لوحة الكنيسة في نهاية هذا الأسبوع إذا أردت تسليم العمل في الموعد المحدد".
قال بعد صمت قصير:" مرة أخرى إذا".
-نعم.
بدت مشتتة الأفكار, فقد كانت الصالة العرض تعج بالزبائن صباح هذا السبت,
-أهذا وعد؟ ستتصلين بي ما إن يستجد شيء بخصوص لوحتي؟.
-نعم, طبعا.
اتصلت به نهار الثلاثاء قائلة: " لدي بعض الرسومات الأولية التي يجب أن تراها عندما يناسبك".
قال بسرعة:" ماذا عن الليلة؟ يمكننا مناقشتها على العشاء, لا تنسي أنك وعدتني بالخروج معي".
-حسنا, سأنهي العمل حوالي السابعة".
-أتفضلين نوعا معينا من الطعام؟ طعام بحري؟ أو غريب كالطعام التايلندي أو طعام لبناني مثلا؟.
-أترك لك الخيار, فأنا أحب كافة أنواع الطعام.
-أنت امرأة يسهل إرضاءها.
قال هذا كما لو أنه استغرب الأمر.
اعترضت:" هذا ليس بالأمر النادر, لا أظنك ستواجه مشكلة في إرضائي".
لم تتفوه ريانون بسوى الحقيقة, وقد تكلمت بعفوية فصمت غابرييل للحظات ثم ضحك:" شكرا لك, سأبذل جهدي لإرضائك".
فكرت ريانون وهي تضع سماعة الهاتف, في ما إذا كان عليها تأجيل الموعد لتتمكن من تبديل ملابسها. كانت ترتدي فستانا أخضر طويلا بأزرار وياقة عالية, وتنتعل حذاء متوسط الكعبين.
إنه ثوب ملائم للعمل, لكنه غير مناسب أبدا للخروج لتناول العشاء.
غالبا ما كانت تخرج لتناول العشاء برفقة فتيات أخريات, وكانت الكلفة العنصر الأساسي في تحديد المطعم. أما اليوم, فهي لا تملك أدنى فكرة عن المكان الذي ينوي غابرييل اصطحابها إليه.
وصل بسيارة أجرة ولوح لها لتوافيه, قائلا:
-آمل أن تطيلي السهر الليلة, ولم أشأ أن تقودي بمفردك ليلا لذا جئت في سيارة أجرة.
حذرته:" أنا لا أرتدي ثيابا ملائمة للذهاب إلى مكان أنيق".
رمقها بنظرة سريعة:
-ثيابك ممتازة, تبدين خلابة.
وبالرغم من أنه جلس بعيدا عنها في السيارة, إلا أن رائحته الزكية داعبت أنفها, وأيقظت فيها شعورا غريبا, شعورا بالدفء والسلام والأمان.
سألها عن والدها فردت:" يبدو راضيا, كما أن العاملين في المستشفى يحسنون معاملته".
-أظن أن هذا الأمر يعزيك ولو قليلا.
-نعم.
تمنت لو تستطيع أن تفضي بسرها إلى والدها, أن تخبره عن غابرييل, وعن المشاعر المتناقضة التي يثيرها فيها, وأن تطلب النصح منه.
صحيح أنها تخبر والدها عن حياتها اليومية آملة أن تدخل بعض المعلومات إلى عقله المصاب, إلا أن ردوده غالبا ما تأتي غير متعلقة بالموضوع. أما إذا بدت مستاءة, فيستاء بدوره مما يزيد الطين بله.
قالت:" أحضرت معي بعض الرسومات الأولية, سأريك إياها ما إن نصل إلى المطعم".
كان المطعم الذي انتقاه يطل على المرفأ. جلسا إلى طاولة قرب النافذة, متأملين الناس يعبرون.
وفيما كانا ينتظران الطعام ارتشفت ريانون القليل من العصير, ثم أخرجت بعض الرسومات وقالت:" إنها مجرد رسومات, لم أعتمد أيا منها بعد".
رماها غابرييل بنظرة وابتسم, ثم تصفح الأوراق التي قدمتها له, وسأل:
-لم أسألك يوما كيف بدأت العمل في الموزاييك.
-ذات يوم, بعد أن استلمت العمل مكان جدتي أوقعت, صحنا جميلا جدا فتحطم تماما.
وتوقفت عن الكلام تتذكر ثم تابعت:" كنت أرتجف وأبكي بسبب الضرر الذي ألحقته بالصحن إلى أن دخلت سيدة إلى المحل وأنقذتني. عرضت علي هذه السيدة أن أستخدم هذه القطع في لوحة موزاييك, وتطوعت لتعليمي, وما إن بدأت بهذا الفن حتى علقت".
-تحويل شيء جميل إنما محطم إلى تحفة فنية.
بدا نظره ثاقبا, كما لو أنه يرى أكثر مما تنوي البوح به. قالت بسرعة:
-أنا لا أستعمل دائما قطعا مكسورة. أستطيع أن أعمل بواسطة بلاط مقطع كما يفعل فنانو الموزاييك التقليديون. لقد أخذت بعض الدروس في مدرسة الفنون وتعلمت تقنيات مختلفة وجربتها جميعها.
-وأي تقنية تفضلين؟.
-غالبا ما تتلاءم اللوحات التشكيلية مع مختلف الأشكال, إلا أن البلاط المقطع مسبقا ممتاز للدقة واللوحات ذات الطابع الرسمي.
رفع غابرييل حاجبه, ورد:" أظن الدقة والرسمية هما ما تحتاجينه".
هذه الكلمات لم تكن ما تريد سماعه, لذا أكدت له:" لوحة الموزاييك التي اخترتها لك ستكون ذات طابع مغامر وجريء, لتعكس شخصيتك".
مال برأسه, وقد ضاقت عيناه:" أيسهل حقا كشف شخصيتي؟".
فكرت مليا في السؤال ثم قالت:" لقد رسمت شركة الإعلان صورة معينة لشركة آنجل إير رسختها في عقول الرأي العام".
-أهذه هي الصورة التي كونتها عني؟.
-أنت وشركة آنجل إير واحد, أليس كذلك؟.
-أنا رجل يا ريانون ولست مجرد شركة!.
-لا يمكن إلا أن تنعكس شخصيتك على شركتك.
-تماما كما انعكست شخصيتك على لوحة الموزاييك.
-أظنك محقا.
وافقت على كلامه, وتناولت كوب العصير لترتشف منه جرعة. قال غابرييل:
-علي أن أعيد النظر في الديكور المحيط بلوحة موزاييك التي في الممر.
إنه ذكي للغاية وبشكل مخيف أيضا. رفعت ريانون كوب العصير بسرعة, فانسكب بعض العصير على يدها وعلى الطاولة.
-آه!..
وضعت الكوب من يدها على عجل. فتناول غابرييل فوطة بسرعة وأمسك أصابعها بقبضته وراح يمسح يدها, ثم أشار إلى نادل يمر بالقرب من طاولتهما, وقال له بهدوء:" هلا نظف أحدهم هذا".
نظر النادل إلى السائل الذي غمر الطاولة وانصرف, وكانت ريانون تجلس وعلى حضنها فوطة, فقالت:" شكرا لأنك أنقذتني!".
-هل وقع العصير على ثيابك؟..
-لا، أنا آسفة.
وبحذر وضعت الفوطة على الطاولة.
-لم تعتذرين؟ لم يحدث أي ضرر.
-أشعر أنني بلهاء.
-أنت لست بلهاء يا ريانون, بل بعيدة كل البعد عن هذا.
تناولت ريانون كوبها بحذر، وارتشفت العصير الباقي فيه وحين وضعت الكوب جانبا ولحست شفتها العليا لاحظت أن غابرييل يراقبها.
عندما التقت أعينهما، انتاب ريانون شعور غريب. أحست أن الزمن توقف وأن العالم من حولهما تلاشى.
حاولت التخلص من الشعور الغريب الذي غمرها فسألته:
-هل أعجبتك الرسومات؟ إنها مجرد مخططات أولية، ولكن إن أعجبتك فسأعمل على تنقيحها وتحسينها.
حول انتباهه إلى الرسومات, وحاولت ريانون الاسترخاء.
لقد ساعدها الطعام على الاسترخاء, فقد بدا لذيذا, طازجا, كما قدم بشكل مميز.
قال غابرييل:" تعجبني أفكارك كثيرا ولكن قولي لي كيف انتقلت من الأيقونة الروسية لتصممي هذه الرسومات؟ قولي لي ما هي مراحل الإبداع التي مررت بها؟".
حاولت أن تفسر له مراحل عملها, فيما أخبرها عن عمله وكيف أوصل مؤخرا طردا إلى قوات الصليب الأحمر العاملة في منطقة تسود فيها الحروب.
-نحب دوما أن نؤدي عملنا بإتقان.
-ألا تستسلم أبدا؟.
نظر إليها مفكرا وقد التمعت عيناه أكثر من قبل:
-حين أعقد العزم على شيء ما, نادرا ما استسلم. وإن لم تنجح إحدى الطرق في إيصالي إلى ما أريد، أظل أحاول إلى أن أجد طريقة تنجح.
حدقت ريانون إلى كوب العصير، ومررت إصبعها حوله، وقد اقشعر بدنها.
سألها غابرييل بلطف:" ما خطبك؟".
-لا شيء.
أبعدت هذا الشعور الذي استيقظ في داخلها, فالارتياب والخوف لن يوصلاها إلى أي مكان. فتصميم غابرييل جزء من شخصيته ومن ما عاشه في حياته. إن لم يولد والتصميم جزء منه, فلا بد أنه اكتسبه مع مرور الأيام. نظرت إليه:
-أنت ناجح للغاية.
جال بنظره على وجهها:" وأنت كذلك وأنا أحترم هذا".
أشعرها مديحه بالدفء. صحيح أنها لا تحلم بامتلاك شركة تساوي ملايين الدولارات مثله، إلا أنها قطعت شوطا كبيرا منذ أن تسلمت تلك المراهقة العصبية العديمة الخبرة محل التحف.
لقد تعلمت كيف تتعامل مع البائعين اللجوجين, والفنانين المزاجيين, والزبائن الغريبي الأطوار, بدلا من أن تسمح لهم بإخافتها والسيطرة عليها. وبالرغم من أنها لا تزال تخاف أحيانا, إلا أن ثقتها بنفسها ازدادت مع مرور الوقت.
كما أنها تجنبت التعاطي مع الرجال على الصعيد العاطفي والشخصي طبعا.
لم يترك لها غابرييل أي مجال للشك, فهو ينوي حتما التقرب منها. لكن عالم العلاقات الحميمة مجهول بالنسبة إليها ومخيف بعض الشيء.
لقد خاضت معركة عاطفية طويلة وموحشة, وربحت, وتمكنت من تخطي الكابوس, فأسست لنفسها حياة رتيبة ومنظمة. لكن, وعقب كل انتصار, تظهر وحوش أخرى فتحارب من جديد؟.
لعل غابرييل هو الشخص الذي سيساعدها على محاربتها. لعله الملاك الحارس الذي سيرسل كافة الوحوش إلى الجحيم ويعتقها. ابتسمت وتساءلت عما سيكون عليه رأيه إن عرف ما تفكر فيه.
رفع حاجبه متسائلا:" بم تفكرين؟".
هزت ريانون رأسها:" لا شيء".
لا شيء تستطيع البوح به. فالرغبة في اقحام غابرييل في معركتها الشخصية ما هي إلا لحظة ضعف.
هذه معركتها وحدها، معركة ستخوضها متسلحة بقوتها وشجاعتها فحسب. ما من أحد قادر على خوض هذه المعركة بدلا منها، لقد سبق أن حاولت ذلك, إلا أنها وصلت إلى طريق مسدود.
شربا القهوة, ورفضت ريانون أن تشرب كوبا آخر. نظر غابرييل إلى ساعة يده:
-هل ترغبين في نزهة قصيرة؟.
هواء الليل منعش ومهدئ للأعصاب, كما أنها بحاجة إلى بعض الرياضة بعد وجبة الطعام الدسمة التي تناولتها. فلطالما استمتعت بالتنزه ليلا لكنها لم تكن تتجرأ على ذلك بمفردها.
عندما اجتازا الشارع, أمسك غابرييل بيدها لكنه لم يفلتها عندما وصلا إلى الجهة المقابلة.
لم تعترض ريانون, وتذكرت المرة الأولى التي لمسها فيها, حين وقعت على السلالم.
كانت أصابعه دافئة, وقبضته قوية إلى حد أنها عاجزة عن الإفلات منه. وجدت نفسها تركز على مشاعرها الجديدة, تحاول أن تحللها. شعرت أنها مرتاحة ومسترخية أكثر من العادة, فهل السبب في ذلك يعود إلى الطعام أم الرفقة المسلية؟.
مشيا قرب الماء, فداعبت نسمات الهواء العليل وجهها وردت شعرها إلى الوراء. كانت الأمواج تتكسر على الصخور, فيما أضفت عليها مصابيح الشارع لونا مخمليا.
سأل غابرييل:" ألا تشعرين بالبرد؟".
-لا!.
في الواقع كانت تشعر بدفء لذيذ بالرغم من نسيم البحر.
وبعد قليل, توقفا عن السير واستندا إلى حائط يراقبان حركة الأمواج, وانعكاس الضوء عليها, وتلألؤ بعض النجوم التي تحاول أن تضاهي بنورها أنوار المدينة. أفلت غابرييل يدها, فشعرت أنها وحيدة.
قالت:" يا لروعة ما أراه".
مال غابرييل ونظر إليها:" أتنزعجين إن قلت القول نفسه عنك؟".
راح قلبها يخفق بسرعة. ابتعدت عنه قليلا وأشاحت بنظرها بعيدا. هب النسيم العليل من جديد وعبث بشعرها, فرفعت يدها لتبعد الشعر عن وجهها وهي ترتجف.
اقترب غابرييل منها, وراح يبعد شعرها عن وجهها, لكنه عاد وتراجع بسرعة. تسمرت في مكانها, فيما أخذت ترتجف قليلا لكنها لم تكن خائفة. وبعد لحظة أو اثنين, لف يد حول خصرها وقربها منه.
عانقها بدفء وحنان, فشعرت بقربه, وتنشقت رائحة عطره, ثم ما لبثت أن استسلمت لسحر عناقه, وبادلته إياه. اختلجت في داخلهما مشاعر جياشة, مشاعر نقلتهما في الزمان والمكان فحلقا في عالم من السحر.
سمعا وقع خطوات تقترب منهما, فابتعدت ريانون بسرعة عنه.
ضحك غابرييل وأفلتها, وقال بصوته الأجش:" سأصحبك إلى منزلك, هذا ما لم ترغبي في مرافقتي إلى منزلي".
هزت ريانون رأسها رافضة. فقد أيقظ هذا العناق فيها مزيجا من المشاعر لم تستطع أن تحددها بعد.
-كنت أعلم أنك لن توافقي.
لم يبد منزعجا من رفضها, بل اتجه إلى الطريق العام, ولوح لسيارة أجرة.
سألته ريانون وصوتها يرتجف بالرغم من محاولتها البقاء هادئة:
-كيف تحصل على سيارة تاكسي بهذه السهولة؟.
ضحك غابرييل, فهدأ روعها قليلا:" الحظ حليفي, أو لعل السبب في هذا هو أني أرافق سيدة رائعة الجمال. فأي سائق أجرة سيسر بأن يقلك".
-لا تجري الأمور هكذا عندما أكون وحدي.
سأل السائق:" إلى أين؟".
كان يجب أن تنتبه إلى ما يحدث, فلو أن سيارتها مركونة في المدينة لطلبت من السائق أن يقلها إلى هناك. لكن بما أنها لم تحضر أي عمل إلى صالة العرض اليوم, تركتها في المنزل واستقلت سيارة أجرة.
ما إن حاولت التكلم, حتى أعطى غابرييل عنوان بيتها للسائق, ثم سوى جلسته وأخذ يدها بين يديه.
شعرت ريانون بأن لا حيلة لها حين أمسك غابرييل بيدها, وقد اقتربت منه عن غير قصد عندما التف سائق السيارة بسرعة. تسمرت مصدومة و لم تستطع الابتعاد عن غابرييل. مرت دقائق استجمعت فيها قواها وتجرأت على طرح السؤال الذي يجول في فكرها.
لم تتجرأ على النظر إليه, بل سألته بصوت خائف:" كيف عرفت عنوان منزلي؟".
أنت تقرأ
روايات عبير / دقات على باب القدر
Roman d'amourالملخص: تلك الفتاة تحد ينبغي أن ينتصر عليه. كيف لا وهو غابرييل هادسون رجل الأعمال لأنجح في نيوزيلندا. أيعقل أن ترفضه!! ومن هي التي تجرؤ على ذلك! سيحاول بكل ما أوتي من نفوذ و سحر أن يخضعها حتى لو اقتضى ذلك أن يعرض عليها العمل في شركته... إحساسه الداخ...