تركت سكرتيرة غابرييل رسالة لريانون تعلمها بأنه يسعها معاودة العمل وبأن السقالة أزيلت.
فسألت ريانون بيري:" هلا ساعدتني على إنهاء المشروع! سأدفع لك ثمن أتعابك طبعا".
-طبعا, أنا لست خبيرا بالموزاييك, لكنني شاهدتك تعملين مرارا, و أظنني قادر على مساعدتك.
حين رأى غابرييل بيري واقفا إلى جوارها يساعدها في الجزء السفلي من اللوحة, رماها بنظرة ثاقبة, ورفع حاجبيه.
قالت بعد أن رمقته بنظرة تحد:" سيساعدني بيري على إنجاز بقية اللوحة".
-فهمت.
علم أنها تستخدم بيري كدرع واق إذ قررت التصرف بجبن. وهذا أفضل من الاستسلام لمشاعر قد تؤدي إلى هلاكها, أليس كذلك؟.
ساعدها بيري على أكثر من صعيد. فبوجوده لم تحتج إلى أحد لنقل البلاط والعدة كما فهم تقنية العمل بسرعة. سار العمل بسرعة كبيرة, وحين كان غابرييل يحضر لمراقبة تقدم العمل, يبقى صامتا لفترة ثم يغادر.
بعد أن أنهت الشبكة, قالت:" سأنهي الباقي بنفسي, شكرا لك على مساعدتك بيري".
-أنت على الرحب والسعة. ما قصتك مع الملاك, غابرييل؟
-لا شيء, يحب الاطلاع على تقدم العمل في مشروعه وحسب.
-ليس هذا فحسب, بل كان يراقبك كالصقر. هل يخيفك؟
-طبعا لا!.
-إذا لما لا تنظرين إليه إن كنت لا تخشينه؟ أنت لا تخرجين برفقته, صحيح؟
-حضرنا عرضا واحدا سوية, وهذا لا يعني أننا نخرج معا أما باقي لقاءاتنا فكانت بغرض العمل ليس إلا!.
-أنت تهربين من شيء يخيفك. إن كنت تخشينه فيسعني تدبر أمره.
-لا, فهو لم يفعل شيئا سيئا.
طبعا لم يفعل. إنها تهرب خوفا من نفسها, ومن ردات فعلها ومشاعرها. وقد حان الوقت لتحل المسألة. آن الأوان لتخطو خطوة في الظلام.
عادت إلى آنجل إير مستعدة لمواجهة غابرييل, فلم تجد إلا ميك الذي عرض عليها المساعدة. قال:" طلب مني السيد هادسون الاعتناء بك في غيابه".
-غابرييل غير موجود؟
-اضطر إلى السفر إلى استراليا على عجل, ألم يخبرك؟
-لا.
-تعرض أخوه لحادث. إنه يدير فرع سيدني كما تعلمين.
وعاودتها ذكرى حادث والديها, ورهبة سماع الخبر والشعور بالضياع الذي تملكها حين علمت بوفاة والدتها, والخوف عندما قالوا لها إن والدها على قيد الحياة لكن حالته خطرة, والأمل المستمر الذي تشعر به كلما رأت والدها على هذا الحال.
-هل الحادث خطر؟.
-لا أعلم, ولكن السيد هادسون بدا قلقا للغاية.
لم يتحدث غابرييل كثيرا عن عائلته, لكن نبرة صوته كانت عاطفية عندما ذكر أخاه. تمنت لو تستطيع أن تعبر له عن أساها وتعاطفها. لكن رأسه منشغل حتما بأخيه, ولا يحق لها أن تتوقع منه اتصالا.
حمل ميك سلما ووضعه قرب اللوحة بناء على طلبها, وبقي بجوارها فيما تحققت من الموزاييك لترى ما إذا كان ثابتا. وفي مساء اليوم التالي, بدأت بوضع الطلاء الفضي ليظهر وكأنه جناحا ملاك.
عندما انتهت و أزاح ميك السلم, وقفت تتأمل تحفتها. قال ميك:" اللوحة رائعة, عليك أن تفخري بنفسك".
ابتسمت ريانون. كانت اللوحة تماما كما تخيلتها, ولكن ثمة خطأ ما. مهما نظرت إلى رسوماتها ودققت فيها, عجزت عن معرفة الخطأ.
*******
وجدها بيري تحدق إلى الأيقونة الروسية التي استلهمت منها, وتقارنها بتصميمها.
قالت له:" ثمة خطأ ما, ولكنني عاجزة عن تحديده".
-هذه لوحة كبيرة, أأنت واثقة من أنك لا تغالين بطلب الكمال؟.
هزت ريانون رأسها:" تبدو اللوحة غير منتهية, كما لو أن شيئا ما ينقصها".
جال بنظره من ورقة إلى أخرى بتركيز. وأخيرا, أشار إلى صورة الملاك وقال بتردد:
-راي. . . العنصر الوحيد الذي ينقص هو الوردة التي يحملها في يده.
حدقت ريانون إلى الوردة في يد الملاك, وقالت بصوت مرتفع:
-لا, إنها لوحة تجريدية, وليست نسخة.
تنهد بيري بانزعاج:" نعم, طبعا. . . القرار قرارك".
في مساء اليوم التالي دخلت ريانون مبنى آنجل إير. كان الطقس غائما طيلة اليوم كما هطلت بعض الأمطار.
نقل ميك السلم, وقال وهو يتأكد من متانته:" سأبقى هنا فيما تصعدين السلم وتنزلين تفضلي إنه متين".
كانت تمسك صورة الأيقونة بيدها, وقد ظهرت الجدية على وجهها, ورسمت بحذر الخطوط على البلاط ونقلت الزهرة بدقة متناهية ولكن بشكل أكبر. وبشكل تدريجي, تلاشت جديتها وهي تنهي الرسم.
قال ميك متفاجئا:" يسعني معرفة هذه الرسمة".
ابتسمت:" هلا ناولتني الطلاء؟".
لونت الوردة وأوراقها وفيما كانت تضع فرشاتها في وعاء الطلاء, سمعا صوتا على السلالم الجانبية. وبعد لحظات, ظهر غابرييل.
كان شعره رطبا, كما سالت بعض نقاط الماء على وجهه. قال:" سأتولى الأمر عنك ميك!".
نظر الرجل العجوز إلى ريانون قبل أن يبتعد, وسأل:" كيف حال أخيك سيد هادسون؟".
كان غابرييل يحدق إلى ريانون من دون أن يتحرك. وبعد لحظات, حول نظره إلى ميك وقال:" لم تلتئم جراحه تماما لكن حاله مستقرة. لما لا تأخذ بقية النهار عطلة؟ لدي الكثير من الأعمال لذا سأبقى هنا طيلة اليوم".
-طبعا سيدي, فأنا لا أمانع في الخروج لرؤية أصدقائي القدامى.
وبعد أن غادر ميك, اتجه غابرييل نحوها. بدا مرهقا وقد ضعف وجهه قال:
-لم أعلم إن كنت سأجدك هنا, ظننتك أنهيت العمل.
-آسفة جدا لما حدث لأخيك, أخبرني ميك عن الحادث.
-اصطدم سائق ثمل بسيارة أخي. اضطر الأطباء إلى استئصال طحاله وتقطيبه في أكثر من مكان. كما تكسرت بعض عظامه, لكننا نأمل أن يتعافى تدريجيا, زوجته معه وأمي أيضا, لا يحتاجونني قربهم.
أنا أحتاجك, أحتاجك بقربي, قالت ريانون هذا في سرها. وقد تسمرت في مكانها لهذه الفكرة.
حول نظره ليرى ماذا تفعل:" لا تدعيني أزعجك, فرؤيتك تعملين. . . نريح أعصابي".
-أوشكت على الانتهاء.
حملت الفرشاة, ولونت بحذر عنق الوردة. وبعد بضع لمسات انتهى العمل. أغلقت وعاء الطلاء, ووضعت الفرشاة عليه, ثم ناولتهما لغابرييل.
-هلا أخذت هذا من فضلك؟
وضع الأغراض على الأرض, وفيما كانت تنزل السلم, أمسك به بقوة. وحين استدارت وجدت نفسها بين ذراعيه المفتوحتين.
انتفض قلبها, لكنها نظرت إليه من دون خوف وقابلت نظراته المتسائلة. وبهدوء, رفعت يدها ووضعتها على صدره.
اقترب ببطء, مانحا إياها الوقت لتبتعد, لكنها لم تفعل.
ضمها إلى صدره بقوة, فأغمضت عينيها واستسلمت لعناقه, وبعد لحظات ابتعد عنها.
-احتجت كثيرا إلى هذا العناق.
-وأنا أيضا.
التمعت عيناه لكلامها, فاقتربت منه تعانقه من جديد.
عانقها بقوة, ثم تنبه لما فعله فأرخى يديه قليلا, كان يعاملها بحذر ولطف شديدين, وذاب قلبها كالحديد على النار.
شعرت بأنها تحلق في الفضاء, فقال وهو يعانقها مجددا:" شكرا لك!".
تغيرت ملامح وجهه عندما نظر إلى الرسم الصغير, وسأل:" لم تكن هذه الوردة في التصميم الذي رأيته؟".
-لا, هل لديك مانع؟.
هز رأسه, ونظر مجددا إليها بنوع من الفضول والاستغراب.
-أحبها, لما رسمتها؟.
-بدت ملائمة, لا أعلم لما رسمتها؟
قال وهو ينظر إلى اللوحة:" أنت محقة. هل وقعت اللوحة؟".
-لا.
لم توقع اللوحة قبل أن تسوي ما كان ينقص. انحنت ووضعت حرفي اسمها على طرف اللوحة, ثم وافته إلى الدرج. قال:" تهاني, إنها ثروة للمبنى. سيتحدث الناس عنها حتما".
-إنها أفضل عمل قمت به, والأكبر أيضا, أشكرك لأنك منحتني هذه الفرصة.
نظرت إلى الفرشاة التي لا تزال تحملها بيدها, وقالت:" يفترض بنا ترتيب المكان, كما علي تنظيف فراشي التلوين".
لو قال لها إلا تفعل شيئا الآن, لأطاعته من دون تردد. لكنه بالكاد أومأ وبدأ يوضب المعدات. تذكرت أنه قال إن عليه إنجاز الكثير من الأعمال المكدسة جراء غيابه.
قال:"علي أن أنهي بعض الأعمال الضرورية, هل يمكنني أن أطلب منك الصعود إلى المكتب وانتظاري؟ أريد التحدث إليك والتواجد بقربك".
-يسرني لك.
تمهل عندما وصلا إلى المصعد, وقال:" فلنصعد السلالم. . ".
-لا, لا بأس.
عندما فتح باب المصعد, ترددت للحظة قبل أن تدخل الغرفة الصغيرة, وضغط غابرييل على رقم طابق مكتبه.
بدأ المصعد بالصعود, فغاب كل صوت من الخارج كانت تقف على بعد أقدام منه وهي تتكئ إلى الجدار, وتذكر المرة الأولى التي رآها فيها, حيث وقفت في زاوية المصعد تماما كما تفعل الآن. وفجأة, سمع دوي قوي من الخارج وتوقف المصعد, وانقطعت الكهرباء.
شتم غابرييل, وضغط زر الإغاثة ولم يجبه أحد.
لم تحدث ريانون أي صوت, ولم يستطع رؤية شيء في الظلام الحالك.
-ريانون, هل أنت بخير؟.
-نعم.
كان بوسعه سماع الخوف باديا في نبرة صوتها.
-لا تخافي, انقطعت الكهرباء فحسب, ما من شيء خطير.
حاول فتح البابين ولكن من دون جدوى:" تبا!!".
سألت ريانون:" ما بك؟".
حاول أن يطمئنها:" نحن لسنا في خطر لكن هاتف الطوارئ لا يعمل, يبدو أن أحدهم قطع التيار الكهربائي والهاتف".
-ماذا عن هاتفك الخلوي؟ أنا لا أحمل هاتفي معي.
-لن يعمل هنا!.
لعن الظلام, وابتدأ بالتقدم منها بهدوء.
-نحن عالقان, ولكن لن يطول الوقت قبل أن يتم إصلاح العطل.
غادر ميك المبنى منذ بعض الوقت, وقد تمر ساعات قبل أن يعود, كما قد لا يلاحظ وجودهما في المصعد.
لمست يده يدها, فتنهدت وابتعدت عنه.
قال بغباء:" هذا أنا".
بدا صوتها مخنوقا وباردا:" أعلم هذا! لا تلمسني, أرجوك".
صدم غابرييل لقولها هذا, واجتاحته موجة من السخط. شعر بأنه مسجون وما بيده حيلة. مسجون مع امرأة تموت خوفا, وهو عاجز عن رؤية أي شيء.
وها هي ريانون تتصرف كما لو أنه يوشك على الاعتداء عليها, فصرخ:
-بحق السماء, ومتى منحتك عذرا لتخافي مني؟ ما الذي جرى معك بحق الله؟.
فكر: يا للطريقة الملائمة لنيل ثقتها! إلا أن صبره عيل, وفقد أعصابه.
لم تجب فضرب الحائط بيده, وشتم بصوت مرتفع, وهو غير مهتم بمداراة مشاعرها بعد الآن.
سمع صوتها ورائه:" أنا آسفة".
-علام تعتذرين؟.
لم يرضه الاعتذار, ولم يخفف من روعه. إن كان على أحدهم أن يعتذر فهو وليس هي.
-أنا لست خائفة منك غابرييل.
سمع حركة خفيفة وراءه لكنه لم يستطع رؤية شيء.
تابعت:" خشيت أن أصبح هستيرية وأفاجئك لو لمستني, وهذا ليس بمفيد لكلينا".
يا إلهي! إنها تحاول السيطرة على نفسها, هذا هو معنى حديثها. إنها تحارب خوفها, وهي مصممة على عدم الاستسلام. تحارب هذا الخوف بمفردها وعلى طريقتها, فصرخ في وجهها:" تصرفي بحرية. تصرفي بقدر ما تريدين من الهستيرية, فجري مكنونات صدرك ومكنونات صدري أيضا".
ارتاح لسماع ضحكتها, وسألته:" هل أنت خائف؟".
-لست خائفا, بل منزعجا, وأعجز عن الخروج من هذا المأزق. ألا تكرهين هذا الشعور؟.
-ليس بقدر ما كنت سأكرهه لو أنني بمفردي.
هذا خبر سار. قال بحذر:" قد يمر وقت قبل خروجنا من هنا, لذا يستحسن بنا أن نرتاح قدر الإمكان. هل تشعرين بالبرد؟".
-لا فالجو حار قليلا.
-أعلميني إن احتجت لسترتي.
-حسنا.
بدأت عيناه تتأقلمان مع الظلام, واستطاع رؤية انعكاس وجهها على باب المصعد.
جلس غابرييل أرضا ومد رجليه الطويلتين أمامه فيما أسند رأسه إلى الحائط خلفه. تمنى لو تدعه يقترب منها. كان يتوق إلى ضمها إلى صدره وحمايتها, ومواساتها. لكنها لا تريده أن يفعل هذا, وعليه احترام رغبتها
حاول جاهدا رؤيتها, وقد انزعج من الظلام المحيط بهما. وقال في نفسه إنها جالسة متقوقعة على نفسها جسديا ونفسيا دون شك.
حاول إيجاد موضوع يناقشانه, لكنه لم يتمكن من ذلك. بدا وكأن أفكاره كلها هجرته.
وبعد قليل من الوقت, ومن دون أي مقدمات قالت:" سأدلي بشهادتي ضد الدكتور دود".
تفاجأ غابرييل:"أحقا؟".
-قصدت الشرطة وأخبرتهم. . . كل شيء. كنت محقا, وجب علي القيام بهذا.
ابتلع ريقه, لا بد أن الأمر كان صعبا عليها. وهو لم يكن بجوارها.
-متى تعقد الجلسة؟.
-الأسبوع المقبل.
-سأرافقك.
-لا.
شعر بألم في صدره لرفضها, فسألها:" هل سيرافقك أحد؟".
-علي القيام بذلك بمفردي.
-لم؟.
التزمت الصمت لوقت طويل, فظن أنها لن تتابع الكلام. وعندما تكلمت بدا كلامها غير مرتبط بموضوع الحديث.
قالت:" منذ خمس سنوات تعرضت للاختطاف".
خطرت في باله كافة الاحتمالات إلا هذا. الاختطاف؟ عليه أن يعدل أفكاره بطريقة جذرية. فقد ظن أن عائلتها غير ميسورة الحال.
-هل اختطفت كرهينة؟.
-لا.
لزمت الصمت لفترة ثم أردفت:" كنت أعرفه. حضر معي صفا من الصفوف في الجامعة, ودعاني للخروج مرتين. بدا لطيفا جدا, لكن في المرة الثالثة رفضت طلبه".
توقفت عن الكلام مجددا, فسألها:" لم؟".
-كان لجوجا للغاية. . . جعلني أشعر بالانزعاج. قال لي أنه راقبني لفترة قبل أن يجرؤ على طلب الخروج معي. قال أمورا مبالغا فيها. . . وكأنه انتظر لقائي طيلة حياته. في بادئ الأمر, سخرت منه, فشعر بالإهانة. لم أكن خبيرة في العلاقات الشخصية, ففي المدرسة لم أكن أهتم إلا بدروسي. وبما أنني كنت في سنتي الجامعية الأولى, ونظرا لعدم خبرتي. . . لم أستطع تحمل هذا النوع من. . . الهوس.
-إذا, قطعت علاقتك به, فهذا التصرف المنطقي.
-نعم. وبعد فترة وجيزة, فقدت والدتي. بدا متعاطفا جدا وساعدني, إذ فقد والدته عندما كان صغيرا. بدا وكأنه يفهم ما أمر به. وبطريقة ما أصبحنا نخرج سويا.
-وبعدئذ؟. . .
-ازداد هوسه وتملكه. بت عاجزة عن الذهاب إلى أي مكان أو رؤية أحد حتى صديقاتي. لم يكن الأمر طبيعيا وعجزت عن التحمل أكثر. بدأ يرسل لي رسائل غرامية وباقات كبيرة من الورود الغالية الثمن كل يوم تقريبا. كان يحضر الصفوف نفسها التي أحضرها إلى أن صحت في وجهه في أحد الأيام, وطلبت منه أن يتركني وشأني. تلك الليلة هاتفني, ووبخني لأنني صرخت بوجهه أمام الطلاب, لكنه لم يقترب مني مجددا, وتوقف عن إرسال الأزهار. بعدئذ, انهالت علي الاتصالات الهاتفية, وكنت أرفع السماعة وما من مجيب. كنت أعلم أنه المتصل, لكنه لم يتحدث يوما!.
-هل أبلغت الشرطة؟.
-لا, لم أظن أن الأمر ضروري. لم يهددني يوما, وظننت أنني إن تجاهلته, فسيستسلم.
-لكنه لم يفعل.
-وفي أحد الليالي, وبعد أن انتهت محاضرتي استوقفني. قال إنه قد تصرف بغباء, واعتذر لأنه أحرجني وأراد أن يفسر لي تصرفه. قلت له إن ما من ضرورة لذلك. لكنه عاد وأقنعني بشرب فنجان من القهوة معه, فوافقت. أظنني شعرت بالذنب لإهانته علنا, كما أنني أشفقت عليه. قال إنه سيحضر سترته من السيارة ثم نذهب. مشيت معه إلى السيارة, ففتح الصندوق وأمسكه بيد واحدة, ثم طلب مني الإمساك به لأنه مكسور. وفجأة, دفعني إلى الداخل وأقفل علي. لا أظن أن أحدهم شاهد ما جرى, ولم يتسن لي الوقت للصراخ وطلب النجدة حتى.
شعر غابرييل بكل عضلة من عضلات وجهه تنقبض. كانت تقص الحكاية عليه بهدوء, وبصوت ناعم وبارد في الوقت عينه, لا بد أنها خافت كثيرا.
-وإلى أين اصطحبك؟.
-كان يملك كوخا في الغابة, بالرغم من أنني كنت أجهل مكاننا وجدت نفسي أمام منزل قديم, لا يحيط به جيران. كانت الأرض المحيطة به مهجورة وقد نمت فيها الأعشاب والأشواك. قال إنه مقدر لنا العيش معا, وإننا نحتاج لقضاء بعض الوقت بمفردنا.
سأل غابرييل, وقد شعر بشيء يمسك بحنجرته:" كم من الوقت احتجزك؟".
-ستة أيام, الوقت ليس طويلا لكنه بدا لي بمثابة دهر
-طبعا.
فهي لم تكن تعلم كم سيدوم كابوسها وما سيقدم عليه ذلك المجنون.
-في الليلة الأولى لم ننم. لم يعتد علي بل ظل يكرر أننا خلقنا لبعضنا, وأنه يمنحني بعض الوقت لأعي هذا. حاولت إقناعه بإرجاعي إلى المنزل, وتوسلت إليه, وصرخت بوجهه, وهددته بالشرطة, لكنه لم يقنع. طلبت منه اصطحابي إلى المدينة, ووعدته بألا أخبر أحدا بما جرى, فظل صبورا معي.
-صبورا؟..
-لم يرفع صوته في وجهي أبدا. بعدئذ قلت له إنني بحاجة لدخول الحمام, ففتحت الشباك وهربت منه. لحق بي و. . .
-وماذا؟.
-كان هناك حاوية وراء المنزل. أظن أن أحدهم اشتراها ليخزن فيها بضائع أو ما شابه.
-هل حبسك داخلها؟.
-ظل يرتاد الجامعة بشكل طبيعي. كان يتركني كل يوم, بعد أن يترك لي طعاما و شرابا, ودلوا. كان الطقس حارا في النهار لكن أغصان الأشجار المتدلية تحول دون وصول الشمس إلى مباشرة. أحدث ثقبا صغيرا للتهوئة في السقف. قال لي إن الوضع مؤقت, وسيستمر إلى أن أعود إلى رشدي وأعي أنه من المقدر لنا أن نعيش سويا. كان المكان مظلما باستثناء بعض النور الذي يدخل من الثقب, كان صغيرا أيضا.
بحجم مصعد, كما خطر لغابرييل وهو يبتلع ريقه.
-كان يحضر كل يوم باقة ورود حمراء لم أنس رائحتها يوما. وكان يحضر العشاء ونتناوله سويا بعد أن يضع باقة الزهر على الطاولة. كان الأمر غريبا.
-لا بل مرضيا!.
-إنه مريض, فهو الآن في مصح عقلي.
إنه المكان الذي يليق به, سواء أكان مريضا أم لا. وإن رآه غابرييل يوما فسيوسعه ضربا ويهشم وجهه.
-لم يكن يشيح بنظره عني إلى أن يرغب في النوم. ثم يطلب مني وبكل تهذيب أن أنام معه. وعندما أرفض يهز رأسه حزنا ويعيدني إلى الحاوية. وفي إحدى الليالي وافقت, على أمل أن أستغفله وأسرق مفاتيح سيارته لأهرب بها. كنت مستعدة لتنفيذ طلبه كي أهرب. لكن, ماذا لو أمسك بي واحتجزني أكثر؟ وحين توجهنا إلى السرير, لم أستطع القيام بما طلبه وحاربته. غضب مني وجرني إلى الحاوية, و. . . في اليوم التالي لم يترك لي أي طعام.
شعر غابرييل بالسخط والاشمئزاز:" وكيف تمكنت من الهرب؟".
-بلغت جدتي الشرطة عن اختفائي, وأطلع رفاقي رجال الشرطة عما كان بيننا. الحمد لله أن الشرطة أخذت كلامهم على محمل الجد, فاستجوبته ولحق به بعض العناصر بعد أن غادر الجامعة. راقبوه عندما فتح الحاوية, ولكن. . .
-ماذا جرى بعدئذ؟.
-كان رجال الشرطة مسلحين وهو يحمل سكينا. هدد بقتلي وقتل نفسه إذا حاولوا أخذي منه. وقد عنى ما قاله, فلم يتجرؤوا على الاقتراب منه. دفعني مجددا إلى الحاوية ودخل معي وأقفل الباب. بقينا في الداخل لساعات وهو يراقب ما يجري في الخارج من خلال الثقوب.
أغمض غابرييل عينيه وعض على شفته:" لا عجب أنك تخشين الأماكن المغلقة".
-نعم, فهي ليست أماكن أحب التواجد فيها. حينذاك, كان قد فقد عقله. فكذبت عليه وأخبرته أنني أيقنت الآن كم يحبني وأن علينا البقاء معا إلى الأبد. قلت إنني أريد الزواج به وإنني لن أشهد ضده ولن تمسك به الشرطة. . . فنبقى معا إلى الأبد.
-هذا الكلام لم يعد صحيحا, أليس كذلك؟.
-لا أعتقد. لكنه قبل اقتراحي. أظن أنه أراد أن يصدق أنني أحبه. طلب كاهنا فحضر شرطي متنكر بلباس كاهن.
تنفس غابرييل الصعداء:" لم تتعرضي للأذى!".
-لا أمسكوا به, وانتهى الأمر.
انتهى كل شيء باستثناء الصدمة التي شعرت بها.
قال:" لهذا احتجت إلى طبيب نفسي".
• -نعم في بداية الأمر, ساعدني الدكتور دود كثيرا. كنت في حالة مزرية, فلم أعد أمشي في الشاعر وحدي. وكان صعود المصعد أمرا مستحيلا بالنسبة إلي. نمت والنور مضاء لأشهر طويلة, وكنت ارتعب من فكرة البقاء بمفردي مع رجل حتى مع طبيب, فلازمتني جدتي طيلة جلسات العلاج الأولى إلى أن وثقت بالطبيب.
توقفت ريانون عن الكلام, فقال غابرييل بقوة:" ثم خان ثقتك".
-كنت أرتاد عيادته منذ أشهر. كان حبل الأمان الذي أتمسك به. بدأ يمسك بيدي قائلا إنه علي اعتياد اللمس, ثم راح يمسك بيدي وذراعي ويمسد شعري ورقبتي. لم يعجبني ما كان يجري لكنه أقنعني. ظننت أن علي أن أعتاد هذا وأنه جزء من العلاج. حين حاول أن يتمادى, لم أصدق ما يجري. وحين تحديته رد بأنني أعاني من كبت ومن برودة, ويمكنه شفائي إذا ما سمحت له بذلك. ولحسن الحظ, اكتشفت نواياه السيئة و علمت أنه يقدم على عمل خاطئ.
-حتى لو وافقت, يبقى ما يفعله اغتصابا.
-أعلم, ولكن.
-قررت ألا تثقي بأحد, وألا تطلبي الدعم والمساعدة من أحد, لأنك خشيت أن يخذلوك.
همست:" شيء من هذا القبيل".
-لقد وثقت بجدتك!.
-طبعا فعلت.
-لكنها توفيت وتركتك.
-لم يكن الأمر بيدها.
-والدتك توفيت أيضا, ووالدك عاجز عن التصرف كوالد.
-ما الذي تحاول قوله؟
-لن تسمحي لنفسك بالاعتماد على أحد, فكل من اعتمدت عليهم هجروك بطريقة أو بأخرى.
-لم يهجرونني, ولم أكن طفلة.
-كنت في السابعة عشرة من عمرك. لم تكوني راشدة أنت تخشين الاتكال على أحد لذا لا تدعينني أقترب منك. حين كنت جالسا مع زوجة أخي قرب فراش أخي, اتكأ أحدنا على الآخر ودعمنا بعضنا البعض, وحين أتت والدتي بكينا معا.
-أنتم عائلة, أنا لا أملك عائلة. ولا يمكنني أن أتوقع من أي شخص مساندتي.
-بل تستطيعين توقع هذا مني. فأنا أحبك يا ريانون, وأريد الزواج منك والعيش قربك طيلة أيام حياتي. لا يسعني أن أعدك بألا أموت, ولكن طالما أنا على قيد الحياة, أريدك أن تمنحيني دعمك, تماما كما فعلت عندما عانقتني اليوم من دون أن أطلب منك ذلك, علمت ما أحتاج إليه لوحدك. أريد أن أكون الشخص الذي تعتمدين عليه عندما تحتاجين إلى دعم.
صمتت طويلا, لكن عجز عن التزام الصمت:" ريانون؟".
وبعد صمت دام دهرا:" أتعلم؟ أشعر بالبرد!".
قال وهو يخلع سترته:" تعالي بقربي".
مرت لحظة قبل أن يشعر بها تقترب منه, ويشتم رائحتها الزكية وضع سترته على كتفيها ولفها بذراعيه, فاقتربت منه واستندت إلى صدره.
سألت:" ألن تشعر بالبرد؟".
-ليس وأنت بقربي.
شعرت بتعب شديد. كان جسم غابرييل دافئا, وبالرغم من وجودها في وضع أثار لديها ذكريات سيئة, إلا أنها شعرت بالأمان والطمأنينة.
-أحبك غابرييل.
شعرت بيديه تضمانها إليه, وأردفت:" أحببتك منذ وقت طويل, لكنني لم أتحل بالشجاعة الكافية لأخطو خطوة في الظلام. كنت أخشى أن أعيش ما اختبرته في السابق إن أحببتك وهجرتني. أردت أن أحبك كما تستحق أن تحب, وكما أستحق أن أحب, كامرأة قوية, حرة, امرأة لا تحتاج إلى وصي أو ملاك حارس. وهذا ما منحني الشجاعة للتوجه إلى الشرطة والإبلاغ عن جيرالد دود. أعلم أن قلبي سينفطر إن هجرتني وأن الحياة لن تبقى مثالية, لكنني سأحيا بالرغم من فراقك".
قال وهو يسند خده إلى شعرها:" أنا لن أتركك أبدا, لن أتركك طوعا ما حييت. وحتى لو مت, سأكون بجوارك دائما, أقسم لك".
سوى طريقة جلوسه وعانقها بحنان وشغف, ثم ذكرها:" لم تقولي نعم, هل تقبلين الزواج بي؟".
-نعم, ما إن نخرج من هذا المصعد اللعين!.
كانت ريانون تتأبط ذراع غابرييل عندما بدأ المصعد بالتحرك, ثم توقف وكأن شيئا لم يحدث. وفتح الباب ليكشف عن ميك الذي بدا قلقا.
-هل أنتما بخير؟ انقطعت الكهرباء جراء المطر.
قال غابرييل:" لم أكن يوما أفضل حالا من اليوم".
تأمل ميك غابرييل ومن ثم ريانون وقال:" آه, هذا جيد".
سأله غابرييل:" لا أظنك تملك رخصة لعقد الزيجات, أليس كذلك؟".
-لا أظن هذا سيدي. هل ستتزوج؟.
-وعدتني بالزواج ما إن نخرج من هذا المصعد اللعين, ولكني أظن أن علينا الانتظار لبعض الوقت.
لكن ليس لفترة طويلة. بقي غابرييل على أعصابه إلى أن تعهدت ريانون بأن تحبه وتحترمه في السراء والضراء طيلة أيام حياتها, وتعهد بدوره بالمثل. قاد ميك ريانون بفخر إلى المذبح, ومنذ أن أمسك غابرييل بيدها ليضع الخاتم في إصبعها لم يفلتها أبدا.
غادرا حفل الزفاف في سيارة أجرة متجهين إلى واحد من فنادق أوكلاند الفخمة لقضاء شهر العسل. وكان غابرييل يحمل علبة بيضاء صغيرة. وأمام مدخل مبنى آنجل إير طلب من السائق التوقف وانتظارهما.
قال وهو يقود ريانون نحو السلالم:" أريد أن أتقدم بالشكر من شفيعي".
توقفا أمام لوحة الموزاييك وقال وهو ينظر إلى الأعلى:" هذه الوردة؟ هل أزعجك رسمها؟".
-كان نوعا من التعبير عن المشاعر. لم أشأ رسمها, ولكني علمت أنه يتوجب علي هذا. وما إن رسمتها, حتى أيقنت أنها مجرد وردة, وهي رمز لكل ما أنجزته, وتغلبت عليه.
-إذا آمل ألا تمانعي.
وفتح العلبة وأخرج منها وردة حمراء ووضعها باحترام عند أقدام اللوحة, ثم تراجع إلى الخلف وأمسك بيدها.
-لا أمانع. هذه بادرة لطيفة منك.
-آمل أن أتمكن يوما من تقديم الأزهار لك.
ففي زفافهما, حملت مسبحة من لؤلؤ كانت لجدتها عوضا عن باقة الأزهار.
-ذات يوم, سيسرني تلقي الأزهار لأنها منك.
انحنى وعانقها طويلا. ثم قال:" سيارة الأجرة بانتظارنا, وجناح شهر العسل أيضا".
استدار نحو اللوحة وحياها:" عمت مساء أيها الملاك. عذرا لكنك لست مدعوا فهذه أمور لا تعني الملائكة".
ثم حمل ريانون بين ذراعيه وهي تضحك ونزل السلالم متجها إلى سيارة الأجرة, سأل السائق فيما غابرييل يقفل باب المبنى:" إلى أين؟".
نظر غابرييل إليها وأمسك بيدها وشد عليها, ثم قال:" إلى الجنة!!".
النهايه
أنت تقرأ
روايات عبير / دقات على باب القدر
Romanceالملخص: تلك الفتاة تحد ينبغي أن ينتصر عليه. كيف لا وهو غابرييل هادسون رجل الأعمال لأنجح في نيوزيلندا. أيعقل أن ترفضه!! ومن هي التي تجرؤ على ذلك! سيحاول بكل ما أوتي من نفوذ و سحر أن يخضعها حتى لو اقتضى ذلك أن يعرض عليها العمل في شركته... إحساسه الداخ...