شد غابرييل على يدها بالرغم من أنها حاولت الإفلات منه, وبعد أن سكت لبرهة سألها:" ألم تخبريني أنت أين تسكنين؟".
-لا!.
قالت هذا بغضب وأفلتت يدها بقوة. جاهدت كيلا تبتعد عنه وتجلس في زاوية المقعد أو تطلب من السائق أن ينزلها حالا. إذا فعلت هذا, فسيلحق بها غابرييل.
استقامت وصممت على البقاء هادئة والتصرف بعقلانية. هذا صعب, فقلبها يخفق بقوة وقد جف حلقها.
-أنا لا أطلع زبائني على عنوان منزلي أبدا.
لم يتحرك غابرييل, بل كتف يديه, واستقام. استحال عليها أن ترى تعابير وجهه في الظلام, فشعرت بأنه غريب عنها. قال لها بصوت منخفض وسوي:" أملت أن أكون أكثر من مجرد زبون بالنسبة لك".
أخذت ريانون نفسا عميقا:" كيف وجدت عنواني؟"
-من ملفات الشركة, فقد قلت إنك استعنت بخدماتنا يوما.
لم تستطع أن تنقل المعدات الثقيلة من منزلها إلى صالة العرض بمفردها, لذا استعانت بخدمات الشركة.
شعرت بالبرد وسألت بحدة:" هل بحثت عنه؟ أهذه الطريقة التي تنتهجها للتعرف إلى النساء؟".
-لا, كنت أبحث عن شيء آخر ووجدت اسمك.
ردت بعنف:" فحفظت عنوان منزلي! لا يحق لك هذا!".
بعد لحظة قال:" لم أفعل هذا عمدا. سامحيني ريانون, لم أقصد إزعاجك".
كذبت:" أنا لست بمنزعجة بل غاضبة فحسب, كيف تجرؤ على فعل هذا بي؟ هذا تصرف غير محترف".
كان غابرييل يعرف أنها محقة. فعناوين الزبائن سرية, وما كان ليرحم أي موظف يضبطه وهو يستعمل عناوين الزبائن لأغراض شخصية. عندما ظهر اسمها في اللائحة التي كان يطلع عليها, قرأ العنوان من دون أن يتمكن من ردع نفسه, ومنذ تلك اللحظة علق العنوان في ذهنه وحفظه.
شعر بالخزي, فلطالما اعتبر نفسه مثالا للصدق والأمانة. وكان يعتز بصفاته هذه في العمل وفي حياته الخاصة.
طبعا, لم يكن ينوي يوما استخدام هذه المعلومة. لكن ريانون تصرفت كما لو أنها تنتظر منه أن يطلع السائق على وجهتهما, وقد قال له العنوان من دون أن يفكر في العواقب بعد أن نسي كيف حصل عليه. قال:" لم أفعل هذا عمدا, والآن كل ما بوسعي فعله هو الاعتذار, وطلب الغفران منك".
-لا أريد أن تعتذر, فجل ما أبغيه هو المحافظة على بعض الخصوصية.
-أعدك بألا أنتهك خصوصيتك بعد اليوم.
ومن دون أن يفكر مد يده ليمسك يدها, إلا أنه عاد ووضعها على المقعد, على المسافة التي تفصل بينهما, وتابع:" أقسم لك أنني لم أتعمد ما جرى".
شعرت ريانون بانقباض في معدتها, وعاودتها الذكريات القديمة المزعجة, فانطوت على نفسها وجلست في زاوية السيارة".
أرادت أن تفكر بهدوء.
أرادت أن تفكر بعيدا عن غابرييل, فأدارت رأسها وراحت تنظر إلى الشارع والبيوت المظلمة.
بقي غابرييل صامتا بدوره. أتراه احترم حاجتها إلى التفكير؟ أم لم يشأ متابعة الحديث أمام السائق؟.
حين توقفت سيارة الأجرة أمام منزلها قال للسائق:" لا توقف العداد".
ولحق بريانون إلى المدخل. كان الشارع مضاءا تماما وقد تأكدت من هذا الأمر قبل أن تنتقل للعيش فيه.
ومن دون أن تنظر إلى غابرييل, أقحمت المفتاح في القفل. فقال لها:" أظنك لن تدعيني للدخول".
فتحت الباب قليلا, ثم استدارت تواجهه:" كانت أمسية لطيفة, شكرا لك".
قال بندم:" كانت أمسية رائعة إلى أن أفسدت كل شيء, أليس كذلك؟".
نظرت إلى سيارة الأجرة, فلم تر السائق كما لم يتزحزح غابرييل من مكانه.
مرر إصبعه على خدها نزولا إلى ذقنها وضغط قليلا على وجهها كي تستدير نحوه. كانت عيناه داكنتان تراقبان:
-لا تدعي غبائي يفسد هذه الأمسية.
مرر إبهامه على خدها بنعومة, فارتجف جسمها كله ثم اقترب منها وهمس:
-عمت مساء ريانون.
وفي اللحظة التالية اتجه بعيدا نحو سيارة الأجرة.
في اليوم التالي, وفيما كانت ريانون ترتب بعض الأواني الزجاجية سمعت أحدهم يناديها:"آنسة ريانون لويس؟".
استدارت وفي يدها إناء زهور جميل لترى رجلا يرتدي سترة جلدية ويحمل في يده باقة من الأزهار الملونة. انزلق الإناء من يدها وتحطم.
قال الرجل مجفلا:" تبا! آسف, لم أقصد إخافتك!".
أكدت له ريانون ما إن تمكنت من الكلام وتوقف قلبها عن الوثب:" لا بأس, لا تقلق, أنت لم تخطئ بشيء".
قال وهو يقدم لها الباقة:" هذه الأزهار لك".
حدقت إلى الباقة. وقد جعلتها رائحة الأزهار العطرة تشعر بالغثيان. وصل بيري إلى جانبها, وراح يتفحص الأضرار ثم قال:" أعطني هذه الباقة, شكرا".
ودخل زبون راح ينظر باستغراب إلى ريانون و بيري, ثم سأل:" هل من خطب؟".
قال بيري:" حذار أين تدوس, سننظف المكان في لحظات".
وعاد فاستدار إلى ريانون وسألها:" هل أنت بخير؟".
-نعم, خذ هذه الأزهار وأحضر مكنسة من فضلك.
ومرت بين القطع المتناثرة وتوجهت إلى الصندوق. عندما غادر الزبون, كان بيري قد أزال الزجاج عن الأرض.
سلمها مغلفا صغيرا:" وجدت هذا مع الأزهار".
ترددت قبل أن تفتح المغلف, ورفعته قليلا. فوجدت حرف((غ)) مطبوعا بالخط العريض أعلى البطاقة.
-أظن أن مرسل الزهور هو ملاكك غابرييل.
انتظر قليلا وحين لم تجب سألها:" ماذا أفعل بالأزهار؟".
أول ما خطر لها هو أن تطلب منه أن يرميها, إلا أنها عادت فقالت:" يمكنك الحصول عليها".
نظر إليها بيري باستغراب:" هل أنت واثقة؟".
فتحت فمها لتقول نعم, إلا أنها ترددت حين رأت امرأتين تدخلان صالة العرض وقالت:
-لا, جد إناء, وضعها في مكان ما, فقد تعجب زبائننا.
وضب بيري الأزهار في إناء صيني ووضعها في الواجهة.
حوالي الساعة الخامسة, وبعد أن انتهت ريانون من تلبية طلب أحد الزبائن, نظرت إلى الخارج فرأت غابرييل واقفا يتأمل الأزهار. رآها تنظر إليه فحياها ودخل من الباب, وبعد أن غادر الزبون, اقترب من الصندوق وقال:" منحت أزهاري مكانا مميزا".
-وضعها بيري هناك.
وضعها بعيدا عن الصندوق.
اتسعت عيناه واقترب منها وقال بهدوء:" هل فكرت بما حدث؟ آمل ألا تكوني غاضبة مني".
ابتلعت ريانون ريقها, وقد تسارعت دقات قلبها:
-أنا لست غاضبة منك ولكن....
أخذت نفسا عميقا وتابعت:" يستحسن أن نحصر علاقتنا بالعمل وحسب".
لقد فكرت في الأمر ليلة أمس, وعند ساعات الصباح الأولى توصلت إلى هذا القرار.
عبس غابرييل وسألها:" لماذا؟".
بدا الأمر منطقيا في فكرها إلا أن صوتها راح يرتجف حين ردت:
-أنا واثقة من أنك لا تخرج برفقة موظفيك.
-لست موظفة عندي, أنت فنانة تعملين لحسابك الخاص وقد أبرمنا عقدا.
-لم نوقع خطيا على أي عقد.
-الاتفاقات الشفهية ملزمة قانونا.
-الخرج برفقتك ليس جزءا من العقد.
قال:" سأضيف هذا البند إلى العقد إذا!".
وعندما لاحظ رد فعلها, أضاف بصبر:" أنت تعلمين أنني لا أعني ما أقول, ولكنك تختبئين وراء إصبعك".
-أنت واثق جدا من نفسك!.
تراجعت ريانون إلى الوراء وقد تفاجأت من وقاحتها, إلا أنها شعرت بشيء من الانتصار المرير حين احمرت وجنتاه غضبا.
تلاشى الشعور بالنصر حين بسط يديه على المنضدة بينهما, وقال:" وقد استحالت ملامح وجهه قاسية:" كنت تقضين وقتا ممتعا للغاية مساء أمس, إلى أن أفسدت كل شيء".
وقف يحدق إليها بسيطرة وهيمنة, فخافت أكثر. وتنبه غابرييل لما يجري, فاستقام وابتعد قليلا عنها, ثم قال:" استدعين هفوة واحدة تفسد شيئا قد يستحيل رائعا إذا أعطينا نفسينا فرصة؟".
هل تبالغ في رد فعلها؟ كانت تعلم أنها حساسة للغاية حيال بعض الأمور, فترددت.
خرج بيري من الغرفة الخلفية حاملا بيده ورقة صغيرة. حيا غابرييل ثم قال:
-عذرا راي! أنا عاجز عن قراءة هذا العنوان.
قرأت له العنوان. وتراجع غابرييل إلى الوراء, عندما دخل شخصان إلى صالة العرض.
تقدمت ريانون من الزبونين تعطيهما معلومات عن القطع التي ينظران إليها.
كانت ريانون عادة تحيي الزبائن وتدعوهم إلى إلقاء نظرة على المعروضات وطرح أسئلة عليها إذا احتاجوا إلى أي معلومات. فهي لا تحبذ دفع الناس إلى الشراء بالقوة, إلا أنها تحتاج اليوم إلى فسحة للتنفس بعيدا عن غابرييل.
أخذ غابرييل يتجول في الأنحاء كما لو أنه غير مرئي. حبذا لو أن هذا صحيح ولو يصبح غير مرئي! ظهر بيري من جديد, فالتقط غابرييل منحوتة من الزجاج الملون وصلت اليوم, وراح يتسامر مع بيري بصوت منخفض.
كان لا يزال واقفا مكانه عندما غادر الزبونان من دون أن يشتريا شيئا. وضع المنحوتة مكانها واتجه نحوها, فيما شغل بيري نفسه بترتيب بعض الكتب الموضوعة على الرف.
عادت ريانون إلى مكانها وراء المنضدة. فوقف غابرييل أمامها واضعا يديه في جيبيه, وحدق إليها وقال:" تناولي العشاء معي الليلة وسنتحدث عما يزعجك!".
-آسفة, لدي بعض الأعمال الليلة.
كانت قد خططت للبقاء في صالة العرض وتنظيم حساباتها لأن مصلحة الضرائب لا ترحم ولا تنتظر, وقد ساعدها هذا على البقاء على موقفها. ارتاحت حين دخل المزيد من الزبائن, فوعدته:
-سأحاول أن أطلعك على كلفة اللوحة بعد أسبوع أو اثنين.
تراجع غابرييل إلى الوراء وقال من عند الباب:" حسنا, أراك لاحقا".
رددت ريانون في سرها أن قوله هذا ليس تهديدا.
شتم غابرييل بصمت وهو يخرج من صالة العرض مدركا أنه أخفق تماما. فآخر ما تحتاجه ريانون هو الشعور بأنها مهددة, إلا أنا استفزته واتهمته بالغرور والثقة الزائدة بالنفس.
قطب جبينه, لعلة معتد بنفسه أكثر من اللزوم, ولعله مغرور أيضا, لكنه لم يبذل يوما مثل هذا الجهد ليتقرب من امرأة. وهو لم يعتد الرفض, لذا لم يعرف كيف يتعامل مع هذه المشكلة.
إلا أن الاستسلام والشعور باليأس والغضب ليسا بالطريقة الملائمة للفوز بثقة ريانون.
لقد حاول أن يدفع بيري إلى إخباره الحقيقة إلا أنه فشل في ذلك. من الواضح أن بيري و ريانون متفقان تماما, فقد قال بيري:"إنها ربة عمل رائعة وامرأة فاتنة".
وخيل لغابرييل أن بيري مستعد لضرب أي شخص يقترب من ريانون أو حتى يخالفه رأيه فيها. بعدئذ, قال بيري ومن دون مقدمات:"إذا أردت نصيحتي, فلا ترسل لها المزيد من الأزهار".
ضاقت عينا غابرييل وقد تفاجأ سأل:" هل لك أن تطلعني على السبب".
حول بيري نظره إلى ريانون التي بدت منهمكة مع الزبائن, ثم عاد ونظر إلى غابرييل بطريقة غامضة وأردف:" ثق بكلامي وحسب, يا صاح!".
وضع غابرييل المنحوتة من يده. عندما جاء ليصحبها إلى العرض الراقص, كانت تقف قرب بيري وتضحك لشيء قاله. كانت ابتسامتها دافئة, فشعر غابرييل بالغيرة, إذ لم تبتسم له يوما بهذه الطريقة.
قال بيري:" اسمع, ريانون مختلفة عن بتقي النساء. إنها...".
ونظر إليها مجددا, ثم حول نظره إلى غابرييل الذي كان يستشيط غيظا, وتابع:
-كل ما أعنيه, هو أن عليك أن تلزم الحذر يا صاح.
بعدئذ, غادر الزبائن واقترب غابرييل منه, إلا أنها عادت ووقفت وراء المنضدة, كما لو أنها تحتاج لحاجز بينهما كي تشعر بالأمان والحماية.
فكر غابرييل في أنه كان عليه أن ينتظر ساعة الإقفال ليحضر إليها, إلا أنه لم يكن قادرا على الانتظار. أراد المجيء لرؤيتها عله يصحح الخطأ الذي تسبب به الليلة الفائتة. كان يقف عند باب صالة العرض منذ الصباح الباكر لو لم يجبر نفسه على التروي. ظن أن الأزهار ستكون بمثابة تسوية أو أشبه باعتذار صامت, فلطالما كانت فعالة مع غيرها من النساء.
ريانون مختلفة عن باقي النساء! وتردد صدى كلمات بيري في رأسه. كان يمشي على غير هدى وأوشك أن يوقع امرأة عجوز. فأمسك بها واعتذر منها.
نظرت إلية المرأة بعينيها الزرقاوين الباهتتين:" لا بأس, فنظري لم يعد جيدا كما كان في الماضي".
-هل أنت واثقة من أنك لم تتأذي؟.
-لقد أفرحتني في الواقع. مر وقت طويل لم أقترب فيه إلى هذا الحد من رجل وسيم.
-شكرا لك, ولكنك قلت لتوك إن نظرك لم يعد جيدا.
ضحكت:" نظري جيد عن قرب. حبذا لو كنت أصغر بأربعين عاما".
-لابد أنك كنت ساحرة, فأنت ما زلت كذلك.
-أنت فاتن وتجيد الكلام أراهن أن صديقتك رائعة, يالحظها!.
نظر إليها تبتعد وتمنى لو تشاطرها ريانون الرأي. لما لا تكون النساء كلهن متسامحات عندما يقدم لهن أحدهم اعتذارا؟
وأقر بأنه يدين لريانون بأكثر من اعتذار وتساء إن كانت حقا مشغولة هذا المساء, أو أنها تعاقبه على تصرفه؟!.
صرف هذه الفكرة من رأسه بسرعة, فهو متأكد من أن ريانون لا تجيد ألاعيب النساء.
كان ينوي أن يعانقها البارحة قبل أن يفترقا, عناقا يقلب كيانها ويجعلها تحلم به طيلة الليل, لكن الضرر وقع في سيارة الأجرة, وتغير مزاجها تماما. لقد تحول غضبها إلى خوف, وهو واثق من هذا.
ترى من أخافها إلى هذا الحد؟ ماذا فعل بها؟ ومتى؟.
قطب مفكرا, وهو يبحث عن مفاتيح سيارته في جيبه. ليته يستطيع اقناع ريانون بإخباره بسرها... لعلها تستطيع تخطي هذه المأساة!
جلس في سيارته, يحدق إلى حائط من الاسمنت, وقد تشبث بالمقود.
قالت إنه يعجبها, إلا أنه يطمح لأكثر من الإعجاب. أرادها أن تحبه بشغف وجنون. فبالرغم من مظهرها القاسي ورفضها الارتباط بأحد, ثمة ما ينبئه بأنها ما إن تتخطى الحواجز التي تقيدها, حتى تصبح العلاقة معها أروع ما حصل معه في حياته.
أدار سيارته ورجع إلى الوراء, فلاحظ لوحة كتب عليها:" تقدم بحذر" فتمتم غابرييل:" نصيحة جيدة".
أنت تقرأ
روايات عبير / دقات على باب القدر
Romanceالملخص: تلك الفتاة تحد ينبغي أن ينتصر عليه. كيف لا وهو غابرييل هادسون رجل الأعمال لأنجح في نيوزيلندا. أيعقل أن ترفضه!! ومن هي التي تجرؤ على ذلك! سيحاول بكل ما أوتي من نفوذ و سحر أن يخضعها حتى لو اقتضى ذلك أن يعرض عليها العمل في شركته... إحساسه الداخ...