الفصل الثاني

439 17 5
                                    

دوى صدى صوت العبارة الاخيرة في كل ارجاء المطبخ ، صوت رهيب جعل ليلى تجن جعلها تقفل أذنيها بسبابة يديها و هي تصرخ كطفل قتل والديه أمامه فجأة . إنه شريط الذاكرة يعود من جديد و لكنه الآن لم ير ليلى طفولتها و إنما أراها اليوم الذي قلب حياتها رأسا على عقب ،  اليوم الذي حجب عنها النور و أسكنها في عتمة حالكة .
   - << كيف تجرأت على فعل هذا لقد ألحقت العار بأسرتنا . انتم البنات لستم سوى وصمة عار . >>
  - << ماذا تقول يا أبتي . كيف لك أن تصدقها ، كيف لك ان تصدقهم . >>
  - << هناك حل وحيد ، سوف تتزوجين من محمد >>
  -<< ماذا ، انا لا أريد الزواج منه حتى هو لا يريدني ، ما بكم أيها القوم >>
  - << لا تناقشي هذا مصير أفعالك >>
  - << أنا لم أفعل شيئا أبي ، انهم كاذبون ، انهم يكذبون >>

- آه ، كم هي مؤلمة الذكريات يا ليلى . همس محمد في أذن زوجته كشيطان خناس . << لست وحدك المتألمة أنا أيضا أتحسر على هذه الثلاث سنوات التي ضيعتها مع مجنونة مثلك >>
لا زالت ليلى غارقة في العبرات و هي في شبه غيبوبة بين الواقع و شريط الذكريات حتى لفظت هذه العبارة دون وعي ، وكأن عقلها لم يرد و لكن قلبها و روحها أرادا : طلقني سراح لي و لك .
ربما آن للاطباق الموضوعة على الطاولة أن تكسر و آن لغضب محمد الجامح أن يتحرر ، هناك ضرب على الطاولة بقوة كبيرة ارتعد لها بدن ليلى و أحست فجأة بموجة من الأندريالين مفرطة تجتاحها .
  - هل تحسبين الامر سهلا ، و كأنني لم أجرب قبلك و كأنني لم أفكر في هذا ، لو كان الامر بيدي لطلقتك في أسبوعك الأول .
ثم بصق في الأرض .
أحست ليلى بطعنات خناجر تخترق صدرها ، أحست باهانة كبيرة ، بذل لا حدود له . ولكنها أجابته ببرود ، بأسف مصطنع و بلطافة متكلفة << انا آسفة ، أعتذر لأني دمرت حياتك ، أعتذر بالنيابة عن أبي . >>
أشاح محمد وجهه بعيدا و كأنه يريد أن يخفي بعض الدموع . << أبوك ، ليس وحده الملام ، الجميع مشترك في هذه المسرحية و رغم أننا البطلان إلا أننا لم نقرأ السيناريو ، هم من كتبوه ، أم كنت على علم به . آه ، لقد كنت الطرف الخاسر الوحيد في هذه اللعبة ، في هذه المسرحية >>
أرادت ليلى أن تبرئ نفسها من كل هذه الاتهامات الموجهة اليها ، إلا أنها لم تنطق ببنت شفة في حين واصل محمد كلامه الغريب .

<< الفتاة تخطئ و أبوها يصلح أفعالها و يحفظها من ألسنة المجتمع ، وذلك بتزويجها ، ولكن لمن ؟ لمن لجأ هذا الأب المسكين ومن غير صديقه المقرب ، ومن غير ابن صديقه كي يتزوج ابنته . >>
الأطباق تقع و تكسر و ليلى ملتصقة على ظهر الحائط تراقب الشتات يتناثر ، الى أن لفظت عبارتها المألوفة << انهم يكذبون ، انهم كاذبون أنا لم أفعل شيئا >> هذه الكلمات هي نفسها التي قيلت قبل ثلاث سنوات و لكن المعني بسماعها اختلف . خرت ليلى على ركبتيها منهارة القوى تبكي بعد أن أخدت تترجى محمد كسجين مظلوم .
  - << أرجوك ، طلقني ، أريد أن أعيش حياتي أنا أعرف أن أباك  قد أقسم باليمين لأبي و لكني أطلب منك ذلك الآن ، أنا أريد الطلاق . لا أولاد ، لا نفقة تقلق من شأنها ، فقط قلها فقد كررها على مسامعي ثلاث مرات ، فقط امضي على شقيفات ورق ، فقط حررني >>
عجز محمد عن الكلام بل إن ليلى لم تترك له شيئا يقوله . ربما هي على حق ، ربما زوجتي المجنونة على حق ، أنا أيضا أريد التحرر من هذه القيود . رغم أن الفكرة قد راقته الى أبعد الحدود ، رغم أنها قد حركت مشاعره ، إلا أنه ترك ليلى تنتحب على الأرض و غادر الغرفة بهدوء .
  -<< مرآتي يا مرآتي لطالما كنت عدوتي و لكنني أطلب الصداقة الآن >>
  - << و أخيرا صحت من غفلتك ، أيتها الحمقاء >> .
  - << نعم ، اخيرا ، لكن صحوتي كانت بلا فائدة ، فها هو قد خرج دون أن يوافق ، لا شك أن هذه القيود الحديدية فرضت علي >>
    لم تجب المرآة بل إن الصوت في مخيلة ليلى لم يجب .
  - مرآتي ، مرآتي أجيبي .
- أستغفر الله ، أنا أكلم مرآة ، لقد جننت حقا .
استلقت ليلى على سريرها و أغمضت عينيها و راحت تفكر كيف كانت ستبدو حياتها دون ذلك اليوم ،كانت تفكر أيضا ، كم أنها أفسدت حياة محمد فهو المسكين أطاع أمر أبيه فقط ، لم يعاملها بسوء ، لم يضربها يوما كان يشيح وجهه عنها فقط . رغم أنها لم تكن فتاة أحلامه إلا أنه صبر و اصطبر جنونها الدائم و لكن ثلاث سنوات كفيلة بالانفجار ، << لماذا لم تهربي يا ليلى >> قال صوت المخيلة من جديد ،تجيبه ليلى << لا أنا بريئة هم يكذبون ، هم كاذبون أنا لم أفعل شيئا >> وظلت تعيد هذه الجملة حتى غطت في أحلامها .
في ذلك الحين كانت سيارة << إيبيزا >> بيضاء تشق طريقها في شارع << الأمير عبد القادر >> و كان السائق شابا في الثلاثين من العمر يرتدي قميصا أبيض و سروال < دجين>
و كان شعره الأسود مسرحا الى الخلف ، أما عيناه البنيتان الداكنتان فقد كانتا مصوبتان نحو الطريق بجحوظ و أسفلهما هالات سوداء توحي على تعب هذا الشاب أو تسرد بعضا من مشكلاته ، إنه يضغط على دواسة البنزين بقوة ، هو يزيد من سرعته ،لا شك أنه في عجلة من أمره . توقفت السيارة أمام بناية من ثلاث طوابق ، ذات ذهان برتقالي فاتح ، بها حديقة صغيرة و باب كبير  بني مزخرف ، لا شك أن الكائن فيها شخص ثري . دق الشاب جرس البناية ثم ابتعد قليلا كي تلتقط كميرات المراقبة وجهه ،فتح الباب بسرعة ، لا شك أن الشاب فرد من هذه العائلة أو صديق يوثق به ، صعد الشاب الدرجات و راح صوب صالة واسعة ، تدهش الضيوف بفخامتها ، فهذه كنبات ذات جلد بني فاتح و تلك طاولات خشبية براقة ، صور خلابة معلقة على الحائط هناك ، فهذه صورة لغابة السنديان و تلك تجسد جمال الطاووس الملون دون أن ننسى المزهريات المنتصبة عند كل ركن من أركان الصالة . جلس ذلك الشاب على احدى الكنبات و راح ينادي بصوت مرتفع ، أبي ، أبي . آه ، انه ابن هذه العائلة الثرية ، لكنه دخل بهيأة ضيف ، لا ابن ، غريب جدا . زاد توتر الشاب و هو ينتظر أباه ، رغم أن زمن انتظاره لم يتعد الخمس دقائق . فجأة وقف الشاب و أخد يسلم على رجل طاعن في السن ، غطى الشيب رأسه ، منحني الظهر ، يستعين بعكازة خشبية .
  - أهلا يا بني ، السلام عليكم .
  - و عليكم السلام با أبي .
  - ما سبب زيارتك المفاجأة يا ترى .
  - إنها تريد الطلاق ...
تغير لون وجه العجوز و ارتسمت عليه ملامح الذعر و الكآبة فصار غير قادر على الكلام بل صار يتتعتع به .
   - لماذا ، هل ارغمتها على ذلك ، تكلم يا محمد ، أنت تعرف جيدا أني عجوز لا يخلف الوعود و قد أقسمت باليمين لأبيها الراحل الذي كان من أعز الناس على قلبي .
  - لماذا تجعلني الملام الدائم في هذه القضية ، لقد قررت ذلك بمحض ارادتها .
  - انا لا اثق بك ، علي أن أسألها .
  - حسنا ، افعل ما شئت فمنذ متى و أنت تثق بي ، بل و منذ متى و أنت تهتم بكلامي حتى .
  - محمد ، لا تفتح سيرة ذاك الموضوع من جديد ، شاء القدر أن تتزوج ليلى و انتهى .
   - و الآن شاء القدر أن نتطلقا .

خرج محمد من بيت والده يفيض غيضا ، فتح باب سيارته و صفعه بقوة ، أدار المفتاح و انطلق بسرعة كبيرة .
❤❤❤❤❤❤❤❤❤
حيااة

 غدر فما بعد...حيث تعيش القصص. اكتشف الآن