ثم ارتخى جسدها، و توقفت دموعها، و لم يعد يحس بنفسها، ولا بنبض قلبها، افلتها بهدوء على السرير وانتبه لان فريقا من الاطباء كان حوله، يبكون و يعزونه، اما هو فنظرة المفاجأة لم تفارق وجهه، وهو يشاهدهم يغطون وجهها، و ينقلونها الى براد الموتى...
روحها لم تعد في تلك الغرفة. تلك الروح النقية التي عشقها، تلك التي اراد ان يحس بحبها لما تبقى من حياته، لم يكن يسعه ان يقول شيئا.
تذكر رغبته الجامحة بالانتحار، و تذكر دعائه، و تذكر ان قلبه بين يدي ربه، فاختفى القلق و الغضب، و كاد يحسده الموجودون على برود اعصابه فقال
- كنت اعلم ان الله هو الاخذ و المانح... و لعلها الان شهيدة في سبيل العلم و ستنقذ بسببها حياة الاخرين.
و لكن احدهم لم يكن هناك، رئيس الاطباء، ابن خالتها، سأل عنه وقيل له انه لم خرج صباحا بعدما التقى بعامل البريد الذي وضع الطرد في مكتبه.
لم يكترث ابراهيم على كل حال، وطلب تشييع جنازة زوجته باسرع ما يمكن، بعد صلاة العصر لذلك اليوم. توجه الى بيته، و جلس يتأمل كل زاوية فيه.
كان يتخيل ان له اطفالا يجولون بذلك البيت، شابة تشبه ملك تماما تقرأ الكتب في المكتبة، و فتى يشاهد التلفاز، و ولد و بنت اصغر يركضان في كل ارجاء البيت.
كان يتخبط بين الواقع و الخيال، يحلم بحياته مع ملك، ثم تتخطفه الدنيا و يعود الى حيث كان، الى عالم اختفت منه حبيبته، زوجته. تمنى لو انه اخبر الشرطة عن التهديدات التي كانت تتعرض لها، لما كان ساء الامر، و لما اصيبت بالمرض، ولعلها الى جانبه الان تنصت له وهو يقرأ لها كل ما تشتهي سماعه، يكتبان لبعضهما اشعارا تطيب لسماعها الآذان، و تطرب لها الالحان...
- ملك لم تعد موجودة! ملك ماتت! ألا تفهم؟!
قالها وهو يصرخ بنفسه راميا الكوب الذي كان امامه عرض الحائط جاعلا منه شظايا كريستال تعبر عن مزيج الغضب و الانهيار الذي بداخله، و الذي استعان بالله ليخفيه امام محبوبته في اخر لحظاتها، ثم القى بنفسه على الاريكة ورفع رأسه متأملا سقف الغرفة و الدموع تشق طريقها عبر وجهه المنهك الشاحب، لم يعد ينفعه ثراؤه، و لا مهنته، ولا اي شيء اخر في الحياة، فقد فقد روحا عشقته و انارت دربه، فقد الفتاة التي كانت تمثل له الام و الاخت و الصديقة و الزوجة الحبيبة، فقد ملكا كان يحمله الى سماء العشق الطاهر.
كان يحس بالتعب، كما لو وقع من ارتفاع شاهق، كان الالم يسري في كل عظم من عظام جسده، و لكن الم روحه التي كانت تحترق اسوأ، كان قتيلا على قيد الحياة. و انشأ يكلم نفسه
- نعم، لم يخطئ من سماها قيدا، فهذا الجسد يأسر روحي و عقلي...
- لا تحزن، انت تعلم انها لا تريد هذا.
- اجل ولكن ما بيدي حيلة، تمنيت لو لحقتها...
- تمسك بعقيدتك يا رجل! ليس الوقت مناسبا للضعف.
و على وقع هذه الكلمات بدا يستعيد قوته و تماسكه. وقف يناجي ربه بصوت يكاد يكون مسموعا
- الهي و خلاقي، امنحني القوة لاتقبل ما لحق بي من بلاء...
و انتبه لأذان العصر و ذهب ليتوضأ. احس بشعور غريب لما لامس الماء يديه ووجهه، احس انه بحاجة لما يقوم به، بحاجة لان يصلي لله بضع ركعات يدعوه فيها ليهبه القوة اللازمة لتحمل اعباء وفاة ملك، فقط ليتحمل غيابها عنه، فتوجه الى المسجد، و صلى العصر، وصلاة الجنازة، ثم انطلق مع حشد من الناس خلف السيارة التي تحمل جثتها يمشون و هم يذكرون الله و يدعون لفقيدتهم
وصلوا الى المقبرة، آخر محطة لملك، حفر قبرها، و دفنت جثتها، و استقبلت عائلتها التعازي، و الكل يحسد ابراهيم على برود اعصابه، و لكن ما كان احد يدري فيم كان يفكر...
بينما هم عائدون الى بيوتهم، دخلت عليهم جنازة اخرى. ام تكن هادئة كجنازة ملك، بل مليئة بالفوضى.
كان البكاء و النواح و حتى الصراخ يملأ المكان، و اذ بالميت رئيس الاطباء، ابن خالة ملك. شارك ابراهيم في جنازته ايضا، حفر قبره بيديه، و رد التراب بيديه ايضا. ثم وقف الى جانب زوجته و هي تبكي و تتألم، و لم يتمالك نفسه فسألها:
- كيف مات؟
- لقد انتحر، و قد اوصاني ان اطلب منك ان تسامحه يا سيد ابراهيم. انتحر بعدما فقد كل امل في الانتقام منك، و كانت اخر كلمة قالها لي
"اخبريه ان الذنب ذنبي، و انا سبب كل آلامه. ولكن الله يمهل و لايهمل، الحق تعالى كان معه، مع الخير. و انا الان سأخلص الدنيا من شري. وداعا"
فهل تسامحه؟
اختلج ابراهيم للحظة شعور بالانتصار، لكنه تمالك نفسه و ادرك ان كل هذا بيد الله و ليس عليه ان يشمت باحد، و القوي الحق هو من يعفو ويصفح و يغفر، فقال
- اجل اسامحه، و اتمنى ان زوجتي تسامحه ايضا... فالذنب ليس ذنبه...
- ماذا تعني؟
- كنت اعلم...
خاتمة
من تراب على تراب الى تراب، هذه حياة الانسان، يخلق ضعيفا ويموت ضعيفا، ترقى روحه ويدفن جسده، يبكونه يوما ثم ينسونه، حتى اقرب الناس اليه ينساه يوما، ويرتاح من عذابه. انه الانسان، يعيش ويشعر ويحب ويحقد، فطوبى لمن كان عمله خيرا. انها الحياة، تعذب وتختبر وتمتع، فطوبى لمن اذا ما متع شكر، وان عذب صبر. انه الله الفرد الصمد، القوي المتين، ادرى من يكون بشؤون خلقه وارحم من يكون بعباده، الا هو الرحمن الرحيم، فطوبى لمن رضي عنه ورحمه في الدنيا و الاخرة.تحياتي
هبة الله سني
أنت تقرأ
انا المذنب
Romanceهذه القصة، هي النسخة الاولية لروايتي "كنت اعلم" التي صدر كتابها بعد التعديل والتغيير... *** باغتتها فجأة نوبة الم رهيبة، فصارت تصرخ بكل ما أوتيت من قوة، كسرت كل ذلك السكون الذي كان يسود المكان. توتر الشاب ابراهيم للحظة، ثم هب و نادى الممرضة لتعطيها...