عندما يلتحف الغياب شخص كان يمثل الكثير في حياتنا، نبدأ في صياغة آلاف سيناريوهات رحيله غير المبرر، وغالبا كل تلك الفرضيات التي يقنعنا بها العقل تكون خاطئة لكن عقلنا لا يتوقف عن صياغة فرضيات جديدة كل مرة تقنعنا أننا لم نخطئ..
وهو كان مقتنعا أنه ما فعل شيئا يستحق الرحيل دون كلمة وداع تطفي جمر تلك الأسئلة التي تكويه كل ليلة،
كان في المساء يتعهد أنه سيسافر بحثا عنها ليعيدها فهو غير قادر على خسرانها، وأنها صديقته الوحيدة فكيف يتنازل عنها هكذا..
لكن ما إن يحل الصباح ويغرق في الأوراق داخل مكتبه، وتسرقه الاجتماعات من نفسه، حتى يعدل عن الفكرة مبررا لنفسه أنها اختارت الرحيل غير مجبرة عليه فلما يتعب نفسه بالبحث عمن تركته بإرادتها..
كان كل يوم العمل يتراكم أكثر فمع افتتاح القناة الفضائية، وفرع جديد لشركته بفرنسا لم يكن قادرا حتى على التنفس وكان يقضي معظم وقته في الطائرة يتنقل من هنا إلى هناك، وكانت كلما خطرت على باله قال أن رحيلها في ظروفه السيئة تلك كان أفضل من بقائها دون القدرة على رؤيتها، وكأنه كان يحاول إقناع نفسه أن رحيلها كان أفضل لكليهما، مرت الأسابيع طويلا دون أن يشعر بها لكنه كان مرهقا من العمل الذي لا يتوقف..
منذ أن سمع عن رحيلها لم يقترب من مكانهما قرب التايمز حتى تلك الليلة التي استطاع أن يسرق فيها بعض الساعات ليرتاح لكنه وجد نفسه يجلس عند الحافة ينتظر قدومها ليتشاجرا كالعادة لكنها لن تأتي لو انتظر ظهرا..
شعر ليلتها بأنه يفتقدها جدا، بأنها لم تكن مجرد صديقة بل كانت شيئا أكبر على مرور سنتين لم يتمكن من الاستغناء عن تواجدها في حياته فكان يغيب عنها لكنه يعود راكضا بحجة أنها لن تتحمل غيابه أما الآن فهو مدرك تماما أنه هو من كان غير قادر على البقاء بعيدا عنها..
هل خان عهد الصداقة وأحبها، أكان يعاقبها بجفاء تلك الأيام لأنه يحبها، هل أخفى نفسه تحت رداء القسوة كي لا يكشف أمره،
تقاذفته الأفكار هنا وهناك فحاول جاهدا إقناع نفسه أنه من المستحيل أن يكون خان وعده لها وسقط سهوا من نفسه،،
تبادر إلى ذهنه ذلك اليوم الربيعي من السنة الماضية حيث كانا يجلسان في الحديقة، تحدثا عن الأحلام فسألها:
- أي حلم تتمنين تحقيقه وإن تحقق كأنك حققت كلما تمنيت في الحياة..
أجابته:
- أن أتمكن من جر الإنسان الذي أحب ورائي نحو الأمازون أن يترك عمله، أوراقه، ماله، ويرافقني في رحلة نحو الطبيعة تدوم طويلا، أن يشاركني حلمي في العيش هناك لأنه يحبني.. ثم بعدها ننتقل بين غابات إفريقيا الاستوائية.. أن يتفهم عشقي ويحترمه..
- لما تحبين الغابات الاستوائية لهذا الحد..!
- عندما كنت في العاشرة من عمري كنت متعلقة بمعلمتي جدا فكنت لا أفترق عنها، كنت أرى فيها أمي كنت أحبها بشكل مرضي هذا ما قالوه لي لكني لم أدرك معناه ساعتها، فقط كنت لا أريد الابتعاد عنها، وأتى يوم كانت مضطرة للانتقال بعيدا، عندما علمت بالأمر أصبت باكتئاب حاد ولم أعد أغادر المنزل، فعلمت معلمتي أن بحنوها علي ومعاملتها لي بلطف تسببت لي بأزمة نفسية اضطررت معها لعلاج نفسي، قبل رحيلها زارتني وهي تحمل كتابا عن الغابات الاستوائية، أخبرتني بأني عندما أتعلق بالأشخاص سأفقدهم وعلي التعلق بشيء لن يتخلى عني مهما مر الوقت..
معلمتي لم تدرك أنها عالجتني من مرض بمرض آخر، فمنذ ذلك الحين أصبت بهوس النباتات وبدأت بدراستها وظلت الغابات الاستوائية أقصى أحلامي..
غريبة الأطوار أنا أليس كذلك..!!
- ومتى كنت غير ذلك منذ أن التقيتك بآسيا عرفت أن حظي تعثر بمجنونة وعندما عدت لأراك بلندن تأكدت من الأمر..
- يا الهي يقـول عنـي مجنونـة وكأنـه لـم يكن يتبعني في كل مكان
وماذا عن حلمك أنت..!!
- سأخبرك في الربيع القادم إن بقينا أصدقاء..!!
- سنبقى كذلك لا تخف، فأنت أصبحت مرضي الآن ولا أستطيع الابتعاد عنك..
- أيمكن أن تتخلي عن الغابات الاستوائية من أجلي..!
- مستحيل
- أعرف ذلك ولم أستغرب ردك السريع حتى أنك لم تأخذي وقتا للتفكير.. دعينا الربيع القادم نسافر في رحلة نحو الغابات الاستوائية..
أنا لست الشخص الذي تحبين لكن يمكنك التنازل والقبول بي..!!
- لا أريد ذلك.. الربيع القادم بإذن الله سأكون في اليابان، لم يحن بعد موعد ذهابي إلى الغابات الاستوائية..
- غبية، ترفضين عرضي المغري..!!
- بل لا أصدق وعودك الكاذبة،سأحرص على ألا أحب شخصا يشبهك فأنت لن تتخلى عن عملك لتذهب في رحلة معي.. أنت لا تستطيع فعل ذلك حتى لو وعدتني، وها أنا أحلك من وعد لن تتمكن من الوفاء به..!!
كانت دائما تخبره بأنه غير قادر على ترك أعماله خلفه، فشخص يحب عمله بذلك التفاني لن يتخلى عنه ليركض وراء مهووسة بالعالم الأخضر ولا يهمها شيء..
ربما كانت صادقة في إخبارها له بذلك، فها قد مر شهر ولم يكن قادرا على ترك كل الأشياء وراءه والركض باتجاهها..
هو عكسها لا يملك الشجاعة ليدير ظهره لعائلته، فعائلته تعتمد عليه لإدارة أعمالها إن كان الابن الوحيد لـهـم كيف يفعل ذلـك..
لم يكن قادرا على فعل ما يحب بل كان مجبرا على فعل ما يطلب منه فقط.. لذلك خلال سنوات حياته تعلم كل تلك الأشياء وقام بكل تلك الأعمال ليثبت لنفسه أنه يملك بعض السلطة على حياته..
أما هي فلم تهتم لنبذ عائلتها لها بعيدا واكتفت بمطاردة ما تحب كي لا تندم يوما..
غادر المكان مقتنعا بأن رحيلها كان إثباتا لتخليها عن صداقتهما، فهي لم تكن تخفي عنه شيئا قبلا لكنها رحلت دون أي كلمة فلما عليه الحزن الآن بل عليه أن يدفعها بعيدا عن حياته كما فعلت هي..
توقف أمام المقهى الذي تعود أن يشتري لها فيه الآيس كريم، جلس لاحتساء فنجان قهوة..
تذكر ذلك اليوم في الميتم حينما عزفت للأطفال وهو غنى لهم،
أخرج هاتفه من جيبه وكان يشاهد الصور التي التقطها لها تلك الليلة وهي تتناول الآيس كريم، ابتسم وهو يشاهد تلك الطفلة تحدث للطبق أمامها..
قطع عليه حبل أفكاره صوت نسائي يسأله: أنت السيد آدم.. ألا تتذكرني..؟
تمعن في ملامحها: أنت طالبة بالجامعة، أنت زميلة...
- أجل لديك ذاكرة قوية.. أيمكنني الجلوس..؟
- تفضلي..
- لم نعد نراك ترافقها إلى الجامعة منذ فترة.. قالت أنها ستدعوك لمرافقتها إلى غينيا، لم تستطع الذهاب..؟
- هي قالت ذلك..؟!
- أجل، قالت أنها تتمنى لو ترى معها الغابات الاستوائية هناك، أخبرتني أنها تتمنى لو تقضي معها أياما فقط من مدة تواجدها هناك قبل عودتها..
- هل أخبرتك أنها ستعود متى ذلك..؟!
- أنت لا تعرف.. لقد ذهبت مع منظمة حماية البيئة لقد قطعت الأشجار هناك بشكل مجحف وقد ذهبوا ليعيدوا زرع الأشجار.. ستعود بعد شهر، لقد مر شهر منذ أن غادرت..
- ألم تكن تعرف ذلك هل افترقتما..؟!
- لقد كنت أظن أن لحزنها سببا، حتى أنك لم تكن بجانبها عندما جرحت أصابعها ولم تتمكن من العزف...
- جرحت أصابعها..؟ !!
- أنت لا تعرف عنها كل ذلك كيف؟ أنتما لم تكونا تفترقين، كيف لا تعلم أنها ألغت عرضها بسبب أصابعها المجروحة لقد كان الجميع يتطلع لذلك الحفل لكنها ألغته مجبرة وقد أحزنها ذلك كثيرا..
لم يفت الأوان بعد يمكنك الذهاب خلفها ستكون سعيدة بذلك..
سأغادر الآن أمسية سعيدة..
غادرت تلك الفتاة لتتركه غارقا في الحيرة وكأن زلزالا قد أصابه فكيف له ألا يعرف عنها كل ذلك، هل ابتعد عنها واهتم بأعماله وتركها تعاني وحيدة، كيف لم يفكر بأنها ذهبت إلى هناك لهذا السبب بل ظن بها السوء فقط وقال أنها تركته ورحلت لكنه من فعل ذلك قبلا ليتسبب برحيلها عنه..
لم يستطع أن يغادر مكانه بل كان الألم يعتصر بداخله فقد سبب لها الأدى أكثر مما تصور ولم يكن الصديق الذي تمنت،
لقد كانت صادقة عندما علمت أنه غير قادر على التخلي عن أعماله فهو حتى لم يفكر بانتظارها تلك الليلة ببيتها، في تلك اللحظة أثبت لها أن لا تتوقع منه مرافقتها بل عليها المغادرة فقط..
لكنه فكر أن الأوان لم يفت ومازال قادرا على السعي خلفها وإعادتها، قرر السفر إليها ليثبت لها أنه مع كل ذلك قادر على الوفاء بوعده لها بأن يرافقها إلى هناك..
عاد لمنزله سعيدا، فكل تلك الأفكار السلبية عنها اختفت وكلما فكر أنه سيراها فرِح،
حجز تذكرة سفر إليها وجمع حاجياته وذهب قاصدا وجهة واحدة إلـى حيث توجـد..
يتـــــــــبع
أنت تقرأ
زهرة الزنبق..Lily (مكتملة)
Romanceفقدتها في اليوم الذي اطمأنيت إلى أنها ملكي، أنها ستظل قربي، فهي كانت شمس حياتي مهما غربت عني لابد أن تعود لتشرق من جديد وتنير حياتي المظلمة دونها،، لكن اطمئناني لوجودها أنساني أنه في حياتنا أيام غائمة لا تشرق لها شمس ولم أحسب لقدومها حسابا، فأتت دون...