اذا إتخذت جيردا قرارها لم يعد للكبرياء والعناد أي تاثير معاكس ,وسدّ حاجزغريب في لا وعي جيردا كل شيء عدا اللحظات التي أستدعت إتخاذها القرار ,ولم تستطع إضفاء واجهة معقولة على قرارها الحاسم , وإذ قررت أخيرا مغادرة غرفة نومها ,كانت الغرفة ساحة لمعركة خاضتها مع نفسها لإختيار ما ستلبسه ونوع الماكياج والوشاح...
ومع ذلك غادرت الغرفة دون أن تدرك ما فعلته او كيف بدت في النهاية ,كما لم تعلم إلى اين ستتبعه أو إذا كانت ستعثر على جوردان بلاك هناك ,كانت لديها فكرة غامضة عن شقته في المدينة ..... وعثرت على العنوان في دليل الهاتف ,من الفضل لو انها إستأجرت سيارة إذ لم تستطع العثور على المكان وحدها و كما أنها لن تجرؤ على الأتصال به هاتفيا ... وما الذي ستقوله ؟ ورغم وصولها وتوقف سيارة الجرة أمام الطريق الضيق المؤدي إلى مدخل البناية ,لم تستطع إعداد ما ستقوله ,أشرقت الشمس المتأخرة على زجاج الابنية العالية المشرفة على المبنى الذي يدل بوضوح على قدم المنطقة ومحافظتها على بعض ملامحها الأصيلة , كانت هناك مصابيح قديمة تنير خارج المنزل ,كذلك صناديق النباتات والزهور الجميلة وتساءلت جيردا فيما لو كانت مخطئة في فكرتها عن شخصية جوردان بلاك و إذ لا بد أنه يعيش في شقة تقع أعلى بناية شاهقة , وليس في ذلك المنزل المواجه لها في نهاية الطريق , كان هناك لوحة صغيرة تحمل إسمه وجرس مما مما دفعها للتردد من جديد , لن يكون هناك, اليوم هو الجمعة , لا بد أنه توجه إلى غرين ريغ لقضاء العطلة.
سارت ببطء حول زاوية المنزل ولمحت السيارة الخضراء في الجانب الاخر , وقفت هناك ممزقة الرغبات ثم سمعت فجأة صوت جوردان بلاك .
" الباب مفتوح".
دهشت لرؤيته ينظر اليها من خلال النافذة , وقال :
" إفترضي أنك كنت تتجولين في المنطقة باحثة عني".
ودون أن تجيبه توجهت نحو الباب ,فتحته كما قال بدفعة صغيرة ,ووجدت نفسها في صالة صغيرة ذات سقف منخفض , وباب مسدود يواجهها وسلّم ضيق في الجهة اليمنى , ترددت وبدأت صعود السلم .
كانت هناك مطبوعات يابانية قديمة بأرتفاع كتفيها لكنها لم تستطع رؤيتها , وأدّى بها السلم إلى غرفة جلوس فسيحة,كما كان واقفا قرب النافذة .
" تعالي إذن , ما لم تقرري الجلوس عل السلم والتحدث إليّ من هناك".
تحركت نحو الطرف البعيد من الغرفة وجلست على كرسي جلدي , ثم قالت :
" أغلقت الباب ".
" يا له من أمر خطير ".
وتحرك اخيرا من مكانه :
" ماذا تريدين ان تشربي؟".
"لا شيء , شكرا".
"إجلسي , هل تريدين سيجارة ؟".
" كلا , شكرا ,هل كنت على وشك الخروج؟".
"كلا , إذ أبقى احيانا في المنزل".
جلس على احد المقاعد ولم يبد عليه الأستغراب لرؤيتها تبحث عنه , ثم نظر إليها فترة طويلة قبل ان يبتسم قائلا:
" حسنا ,إنها زيارة غير متوقعة".
إنتظر صامتا دون أن يحاول تسهيل الأمر عليها فنظرت حولها بإعجاب إلى الأثاث الأنيق كأنها تبحث عن ملهم يساعدها لبدء الحديث , راقبها بكسل ضاغطا بأصبعه على شفته ثم متتبعا تفحصها للغرفة , ونهض واقفا:
" ولكن بالطبع إنك تودين مرافقتي في جولة سريعة داخل المنزل , تعالي , سأريك التفاصيل , سنذهب الى الطابق ألارضي أولا , في الحقيقة لم أشرف على تجديد البناء بنفسي وإلا لضحّيت بالحديقة الصغيرة .... وإذ
أكره إستخدام المطبخ لتناول الطعام , حوّلت هذه الغرفة إلى غرفة للسفرة ,سأقوم ذات يوم بتغيير أخشاب المطبخ , إنه فسيح وجميل إلا أن ديكوره يضفي صيغة كاذبة على حقيقة المكان".
وقفت إلى جانب الثلاجة و بينما القت هي نظرة سريعة على محتويات المطبخ المشابهة لصورة أخذت من ( كتالوغ ) حديث , ثم قادها عبر غرفة الطعام الصغيرة على الطابق العلوي مع تعليقه االدائم على كل مكان وعن رغبته في خلط القديم بالحديث , إلى أن توقف فجأة قرب الحمام مواجها إياها :
" إنك تعلمين جيدا بانك لم تصغي لأي شيء ذكرته , لماذا جئت؟".
جذبت نفسا عميقا:
" جئت لأسألك النظر ثانية في قرارك".
" أي قرار؟".
" انت تعلم أي قرار , إستلمنا رسالتك اليوم".
" آه , إنها زيارة عمل".
" كلا , ليست زيارة عمل ,كانت رسالتك أقسى........".
وكبحت جماح غضبها وأمسكت عن نطق الكلمات العاطفية محاولة المحافظة على هدوئها.
" جئت لأسالك عن الأسباب المنطقية ضد تجديد العقد وماذا تعني بالضبط حين ذكرت التحقيقات والمباحثات".
" أظن أنك تعرفين ما عنيت".
" لو كنت أعلم لما سألتك".
" حسنا جدا و أفكر بشراء جيرنغفوردز ".
" ماذا تفكر؟".
" ولم لا ؟ ستكون ملحقا جيدا".
" لكن جيرنغفوردز غير معروضة للبيع , لا اعتقد أن هوارد سيسمح بذلك , كما أنه يملك الجزء الأكبر من السهم وليس من المعقول......".
" أعتقد أنه معقول ,اعرف ما قرّره للمدير تيلور , كما أعرف أشياء أخرى تؤكد الأحتمال وأظن أن دوريل نفسه لن يمانع بعد أن يشفى".
سألت بحدة :
" نعم سيمانع , متى بدأت التفكير بالشراء؟".
" منذ فترة, منذ عدة أسابيع".
وجلس على الكنبة القريبة محدّقا في وجهها .
" كل ذلك الوقت ؟ ولم تخبرني بذلك؟".
" لم يكن الوقت ملائما".
" لا استطيع تصديق الأمر".
شعرت بإهتزاز موقفها وبالبرودة ولم تعد قادرة على فهم ما يجري حولها , فجأة تفجّرت عواطفها ولم يعد لزمام العقل أي تحكّم عليها :
" هل تفعل هذا بسببي وبسبب ستيوارت وسوزان؟".
" انا رجل أعمال وسلوكي يتطابق مع مصلحتي التجارية".
ثم اضاف موضحا :
" أن جيرنغفوردز على وشك الأنهيار ,وبمعدل سريع ,وفي إستطاعتي أسناد الشركة ماديا ودعمها كملحق مفيد لوينتفورد".
" هل هذا هو كل ما تفكر به؟ تجارة وربح , ولا تفكر بالناس ولا مشاعرهم".
هز كتفيه إستهانة فأحست بالفشل يلحق بها , صمتت لحظات طويلة ثم تنهدت ونهضت من مكانها , كانت حمقاء لمجرد التفكير أنها تستطيع تغيير رأيه بزيارتها المفاجئة , مجنونة لأنها ظنت أنها قد تؤثر عليه لتلينه قليلا , كان قاسيا ومتصلبا في موقفه وكانت هي آخر شخص يمكنه التأثير عليه.
وبتأدبه البارد حمل سترتها القطنية وإذ كانت على وشك مد ذراعها ترددت و ألتقت عيناها بعينيه , وسقطت ذراعاها الى جانبيها :
" جوردان ,قل لي رجاء , كن صادقا معي , هل لهذا كله علاقة بي ؟ لأنني اعمل لجيرنغفوردز ولصداقتي الشخصية مع دوريل ؟ أعرف طبيعة مشاعرك نحوي ونحو ستيوارت وكل شيء , لكن ارج وان تخبرني , هل تسمح لمشاعرك الشخصية بالتاثير على قراراتك التجارية؟".
" لنفترض أن جوابي نعم , فماذا تقولين؟".
" حاولت إقناع نفسي بخطأ أفكاري, إلا انني لم أستطع".
وهزّت رأسها بيأس:
"لا أعرف ماذا أقول بإستثناء ان قرارك سيحطم دوريل وسيؤثر على حياة العديدين , كل ذلك لأنني...".
وأرتجف فمها وتخلت عن تصميمها في مواجهة نظراته , تناولت السترة بهدوء دون أن تسمح له برؤية إنهمار دموعها.
" يجب ان أذهب الان .....أنا ... أنا".
" جيردا".
وأدهشها التغيير في صوته إلا أنها لم تلتفت , وخطا نحوها ثم توقف :
" إنني لا أفهمك يا جيردا ,هذا الولاء العميق لدوريل والشركة وإنه شيء غير طبيعي بالنسبة إليك".
" غير طبيعي لأمراة ... أتعني ذلك؟".
" امرأة أكتشفت أنها بلا أخلاص شخصي , وحتى الآن ...... إنسي ذلك , وبحق السماء لا تنظري أليّ بهذه الطريقة مثل شهيدة كما لو كنت أنا الملام".
" الست الملام؟".
تساءلت بمرارة.
" انت توجهين الأتهام ؟ يا له من سلوك نموذجي لأمراة ".
وأستعاد وجهه صلابته قبل أن يكمل جملته:
" في إمكان المرأة فقط إتخاذ موقف يستند الى كذبة وتتبنى الدفاع عنه حتى النهاية".
" الدفاع ؟كيف استطيع الدفاع؟ إذ تحمل أنت كافة الأسلحة بين يديك ,كيف استطيع المحاربة إذ ترفض أنت الأصغاء إلى الحقيقة؟ منذ البداية وأنت تتبنى اسوأ فكرة عني ,لمتني في حادث اخيك , ثم حاولت إبتزازي لأنهار علاقته بفتاة تحبه فعلا ويحبها لمجرد كراهيتك لها , أتهمتني بعدم الأخلاص حكمت عليّ وأدنتني دون معرفة الحقائق ,وأحتقرتني لذلك , آه ,نعم ".صرخت إذ رأته يحاول الأنكار : " لم أنس بعد كيف حاولت إغوائي منذ ثلاث سنوات لترى بنفسك إن كنت صالحة لأخيك العزيز , واخبرني بذلك بنفسه ,وظننا الأمر مضحكا حينئذ لكنني لن اسامحك ابدا ,حسنا : إكرهني وعاقبني إذا اردت ولكن لا تدع رجلا آخر يعاني , رجلا يستحق أفضل حياة ممكنة".
" هل يهمّك الى هذا الحد؟".
" نعم يهمني".
وإرتجفت محاولة التمسك بشيء يعيد إليها هدوءها وسيطرتها على نفسها:
" لا تفعل هذا بسببي ولأن سلوكك قاس وغير عادل ,ولا أستطيع تحمله اكثر , أنا........".
" ها توجّهين إليّ إتهامك الآن و إنك .... آه , لا تبكي رجاء : لماذا تلجأ النساء دائما.....".
هزت رأسها ومدت يدها تمسك حقيبتها محاولة تحاشي نظراته.
وحاولت في الوقت نفسه , إرتداء سترتها فلم تستطع الرؤية بسبب دموعها , أعاق سيرها ووقف أمامها.
" لا تستطيعين المغادرة بهذا الشكل".
" غير مهم , عرفت بانك لن تسمح وغنني......".
" جيردا , لا تذهبي.....".
" لا يهمني ما سيحدث ,دعني اذهب".
" كلا".
وبقي واقفا في طريقها.
"جيردا , لا استطيع..........".
وامسك بكتفيها بقوة كما لو أنه سيساعدها على إستعادة هدوئها.
"ووقعت سترتها على الأرض فإنحنت لألتقاطها فكانت النتيجة اصطدامها به , وحاول أن يساعدها على إرتداء السترة وتعديل ياقتها إلا أنه توقف فجأة وأحاطها بذراعيه من جديد.
" إهداي ,إنك مهتاجة الأعصاب".
تنهدت فقال:
" من الأفضل لك الجلوس قليلا ".
" كلا".
استدارت برأسها بشكل لا إرادي:
" لا أريد".
" لا تتكلمي".
كانت يداه قاسيتين وضغط رأسها على كتفه:
" قلت ما فيه الكفاية".
ارتجفت كتفاها :
" كلا , لم..........".
" أصمتي".
كان صوته لطيفا وحاسما في الوقت نفسه وواصل الأمساك بها ,رغم محاولتها اليائسة للتخلص منه والأبتعاد بأي وسيلة عنه ,قال بعد لحظات :
" أظن أن هوارد أرسلك".
"كلا , إنه لا يعلم بمجيئي ولا أريده أن يعرف".
بقي صامتا ومسّد شعرها بيديه ,مهدئا إياها مثل طفل يبكي ويلجأ الى صدر من هو أكبر منه للحماية ,إلا أن حنانه وعطفه عليها دفعاها الى بكاء أشد خاصة بعد إدراكها لضعفها حياله.
تحركت فإستجاب وترك لها حرية الإبتعاد عنه:
" هل تشعرين بالتحسن؟".
أومأت برأسها إيجابا ,دون النظر اليه ,وقال بصوت غريب , متقطع :
" جيردا , حتى لو أنني لبّيت ما تريدين : منح العقد لدوريل ونسيان خطتي بشان جيرنغفوردز , هل تعتقدين أن ذلك سيحل كل شيء؟".
" يحلّ ؟ بالطبع".
همست بصوت مبحوح .
" هل أنت متأكدة ؟".
" نعم...... ولكن ماذا تعني؟".
" أظن انك تعرفين , جيردا انظري غليّ.....".
وشكّت بقدرتها على النظر اليه دون أن تفضح نفسها , فنفذ صبره :
" لماذا لا تواجهين الحقيقة؟ لماذا تحاربين المحتوم؟".
" لكنه ليس محتوما غذ لست مجبرا على شراء جيرنغفوردز ".
" لست أتحدث عن ذلك".
ووضع أصبعه تحت حنكها مجبرا إياها على النظر اليه ,وتقلّص وجهه إذ رأى وجهها المغطى بالدموع , أغلقت عينيها فقال :
"لا يغيّر ذلك شيئا كما تعلمين".
" ماذا؟".
" ماكياجك يسيل على خدّيك , ذلك لا يعني شيئا إطلاقا".
سكتت فإنحنى نحوها ,وزادت حركة يديه عنفا لتدل على رغبته فيها , وأحست جيردا بالتحذير ينطلق من داخلها , ينبّهها الى خطورة موقفها
وكأنه أحس بضعفها فبدا يمسّد شعرها بحنان أكبر حتى دفعها للأحساس بان لا مفر امامها من ذراعيه غير اللجوء اليه.
" اردت أن افعل هذا منذ سنوات".
همس في أذنيها بصوت مرتعش , وإستجاب قلبها لدقات قلبه ولم ترغب بالتحرك من مكانها وتحركت شفتاها لتلفظ إسمه مرّات عديدة كأنها تحاول إخباره عن شوقها اليه.
وإذ تحرّك أخيرا قال:
" جيردا إبقي معي الليلة".
وجمدت في مكانها مستعيدة برودتها:
" ابقى ؟ هل تعني؟".
" نعم , اريدك ان تبقي معي , أردتك دائما أن تفعلي هذا".
" كلا ,لا استطيع , لا تطلب مني ذلك".
" لم لا ؟ انك تريدينني بمقدار ما اريدك".
" كلا".
وتحررت من ذراعيه وإبتعدت عنه:
" ليس ذلك صحيحا ........ إنك...........".
" لم قمت بذلك إذن؟".
" لم أرد منك .....".
وضمّت قبضتيها يأسا.
" لم أعن تلك الطريقة......".
" هل حدث صدفة إذن ؟". قال بغضب شديد : " حدث ذلك صدفة والخطأ هو خطأ الرجل دائما".
"كلا وليس ذلك عدلا ". وواجهت الأحتقار في عينيه : " لم اقل ذلك , كما لم آت الى هنا لأغويك".
" كلا؟". وعاود سخريته المعتادة : " ولكن وجودك ذاته إغواء لي , قد لا تعرفين ذلك وسيتطلب الأمر جهدا كبيرا لقناعي بخطأ رأيي".
نظرت بعيدا لتتحاشى نظراته المصممة على إهانتها وفضح ضعفها , وواصل التحديق فيها كانه أحسّ بضعفها وأراد إستغلال تلك النقطة لصالحه فخطا إلى الأمام مقتربا منها من جديد , ثم قال بنعومة:
" تكادين تقنعينني احيانا بتغيّر مشاعرك ,ثم أكتشفت بعد ذلك عدم تغيير أي شيء و فيدفعني إحساس جديد إلى محاولة تحطيم قناع البراءة الذي تواصلين إرتداءه ".
وواصل الأقتراب منها فأشعرها ذلك بالقشعريرة تسري في جسمها وخشيت إقترابه منها إلى اقصى حد.
" منذ فترة طويلة وانت تتحدين مشاعري وسأضع نهاية لهذا التحدي".
ولم تستطع غير الهمس بصوت لم تعرف إن كان مسموعا أم لا :
" كلا يا جوردان و لم ارغب بذلك ابدا".
++++++++++++++++++++++++++++++++++++
إلتقت جيردا بجوردان بلاك لأول مرة , في حفلة أقيمت قرب ويندسور وكانت قد إلتقت أخاه ستيوارت , لم يعرها أي إهتمام في البداية , كما لم يرحّب بها عندما عرّفها ستيوارت به لأول مرة واحست بعد ذلك بمشاعر غريبة نحوه , لم تحاول تحليل طبيعتها الى ان إلتقت به بعد عدة أشهر إثناء عطلتها في غرين ريغ فأدركت حقيقة مشاعرها وبدا لها كل شيء مختلفا لحظة إقترابه منها.
إلا ان ستيوارت كان متعلقا بها , ولم تتح لها فرصة اللقاء بجوردان إلا نادرا وإعترفت لنفسها أن سبب مواصلتها للقاء ستيوارت هو رغبتها في رؤية جوردان.
وعذّبتها معرفتها بالحقيقة فأحست بالذنب , حاولت ان تعترف لستيوارت بحقيقة مشاعرها وبحبها لأخيه , إلا أنها لم تملك الجرأة للقيام بذلك , وكان الأمر كله مخالفا لطبيعتها وفضّلت الموت على فضح سرّها ,وتحوّلت مشاعرها إلى عذاب دائم لها إلى أن حلّت الليلة التي عرض فيها ستيوارت الزواج منها ,وجاء عرضه متوافقا مع طبيعته الطائشة وموقفه من الحياة , إذ إعتبر من الطبيعي أن يعرض عليها الزواج ما دامت رفضت الأستسلام له قبل ذلك , وحين رفضت بألطف طريقة ممكنة , دهش في البداية ,غير مصدّق ثم إنتابه الغضب حين أدرك إصرارها ,ودفعته كبرياؤه المجروحة إلى النطق بكلمات ما كان ليتلفّظ بها لولا ذلك , غلا أن ذلك جرحها برغم فهمها لأسبابه الدافعة , ثم إتهمها في النهاية بعلاقتها مع بليز مانستون, هذا إتهام انكرته بقوة و خاصة ان بليز كان صديقا رعاها وإهتم بها وكما كان دوريل بالنسبة لأمها و لم تفكر ببليز بإعتباره حبيبا لها أطلاقا ,كما لم يخطر في ذهنها التساؤل عما إذا كان بليز فكر بها بما هوأكثر من مجرد فتاة في الثامنة عشرة ,خجلة , غير مدركة لطبيعة جمالها ,ومخلصة , إخلاصا لا حد له للناس الذين تحبهم.
ولم يمت حبها لجوردان بلاك بل بقي مترسبا في أعماقها ,تثيره أحيانا بعض الذكريات السريعة , لكنها قاومت الذكرى بعنف لئلا تسيء إلى بليز , إلى ان تزوجت شقيقته الصغرى , وحين عادت مع زوجها بعد قضاء شهر العسل في كابري , تمّ لقاء العائلة باكملها في بيت والدته في ديفون , كان الجو رائعا فتوجهوا جميعا إلى ساحل البحر ,وإكتشفت جيردا هناك معنى العلاقة بين حبيبين حين راقبت تبادل الحب بين الزوجين الشابين ,وبقيت صامتة طول طريق الرحلة إلى البيت مع بليز وإذ عادت إلى سريرها وحدها كالعادة , بقيت مستيقظة تحلم بما رأته.
++++++++++++++++++++++++++
أرتجفت وإبتعدت عنه.
" لم لم تخبريني؟".
" هل كنت ستصدقني؟".
وكان صوتها مليئا بالمرارة.
" بالطبع ,آه كيف كنت سأتوقع هذا؟".
نظرت إلى كتفيه ,وشعرت بحذر غريب:
" هل سيؤثر ذلك على أي شيء؟".
" طبعا..........".
ونهض سائرا الى الجهة الأخرى من الغرفة.
" لم أتظاهر ابدا بأنني قديس , لكنني لم اكن مستعدا أيضا لأغواء فتاة بريئة".
ولم تستطع الرد ,فمرّر يده في شعره قائلا:
" لم أحلم بأنك فتاة لم تمس من قبل ,ولكنك كنت متزوجة من بليز".
" لم كن زواجا حقيقيا , هل يصدمك إعترافي؟".
" كلا ,لكن......لكنني لا عرف ما الذي افكر فيه حاليا".
" لم يعرف احد بالأمر إطلاقا".
" لست بحاجة الى التوضيح..... إنني........".
وسحبت يدها بسرعة :
" كلا ,اظن أنني اريد إخبار شخص ما ,كان عليّ إخبارك منذ البداية , بدلا من محاولة خداعك"
" كلا يا جيردا".
ومد يده الى علبة سجائره فسحب واحدة بدأ تدخينها وأحست بالرغبة في إخباره كل شيء , رغم إخفائها الحقيقة عن الجميع لسنوات طويلة .
" أخبرتك ذات مرة أنني تزوجت بليز بدافع الشفقة ,حسنا إنها الحقيقة ,قد يبدو الترتيب مستحيلا لكنه لم يكن بسبب ما فكرت به ،إذ لم اتزوجه هربا من مسؤوليتي اتجاه ستيوارت والحادث......".
" جيردا , لا حاجة بك لإعادة الحديث......".
" بل يعود الأمر الى زمن بعيد ,حين مرضت والدتي أوصى الطبيب بوجوب مغادرتها انكلترا اثناء الشتاء وقضائها الفترة في عيادة سويسرية ورتّب الحجز لنا , وذهبت معها لقضاء العطلة سويا ,وكان بليز مريضا في العيادة نفسها , بعد ان أزيلت إحدى رئتيه ، غلا أن المرض تسلل الى قلبه بعد ذلك ,ولأنه كان النكليزي الوحيد فكان من الطبيعي لقاؤنا وتبادل الأحاديث ,كان عطوفا ومثيرا للأطمئنان ومنح والدتي كل مساعدة ممكنة للأستقرار وهكذا شعرت بالأمان لتركها هناك والعودة الى أنكلترا دون خوف عليها ,بعد ستة اشهر إستلمت رسالة منها قالت فيها بأنها أفضل من السابق ،وأنها ستنتقل في الأسبوع المقبل الى مصح آخر ,لا أستطيع لفظ أسمه بطريقة صحيحة لكنه قد يكون تاميتا جورجي ,هناك ألتقت بالبروفسور هيرتز ,تزوجا بعد عدة اشهر وإستقرت هناك بشكل دائم , إنه مختص بالكتب النادرة ويعمل قرب جامعة غراز ,وهما سعيدان جدا".
توقفت عن الكلام مدركة بأنها إبتعدت عن الموضوع الأصلي , ثم تابعت:
" أخبرتني في رسالتها أن بليز في طريق عودته الى أنكلترا وإنه سيأتي لزيارتي ,وعندما جاء دعاني للعشاء فتحدثنا عن والدتي وسويسرا وعمله ,كان أكبر مني سنا , وتوفيت زوجته قبل سنوات ,وحين تزوجت والدتي كان عليّ أن أقرر هل اذهب لأعيش معها أم لا واعرف أنهما ارادا مني العيش معهما ,خاصة ان زوج والدتي رجل عطوف ورائع ,لكنني لم أكن واثقة من رغبتي بترك انكلترا وحياتي فيها ,وإذ حثني المحيطون على الذهاب الى سويسرا ,نصحني بليز بعدم الذهاب ما لم اكن واثقة تماما من اختاري وأن اترك الفرصة لوالدتي للأستقرار في حياتها الجديدة , بعدئذ ,حين ذهبت لقضاء عطلة طويلة معهما , أدركت صحة رأيه , إذ كان الأثنين منغلقين في علاقتهما تماما , هو يقوم بترجمة بعض نصوص القرون الوسطى ,تساعده والدتي في ذلك خاصة بعد ان أتقنت اللغة في فترة قصيرة ,وأحست بعدم الحاجة أليّ , كانت في صحة جيدة وتتمتع بحياتها الخاصة , وحين عدت الى انكلترا وإلتقيت بستيوارت وتوقفت عن لقاء بليز ,حينئذ كنت متعودة على الأخذ دون العطاء ,وعلمت اثناء ذلك أن رئة بليز الأخرى معطوبة وان الاطباء اخبروه أنه لن يعيش أكثر من عام آخر".
تحركت جيردا , فتناول جوردان السيجارة من يدها خاصة وأنها لم تدخنها إطلاقا.
" انت تعرف البقية و ادركت أنني لا احب ستيوارت ,وبعد الحادثة لم أعرف ما الذي أفعله وكنت تعيسة جدا ,وذات ليلة عرض عليّ بليز الزواج وأخبرني بانه لا يملك الكثير ليقدّمه اليّ وأنه لن يستغرب إذا ما رفضته بعنف ,ولكنه اضاف بأنني إذا لم أقرر الذهاب للعيش مع والدتي فيجب أن افكر بإقتراحه ,وكنت أعلم بأنه سيمنحني السعادة , وأدركت فجأة بأنني أريده وانني أحبه وأريد العيش معه والأهتمام به".
وتنفست بعمق:
"كنا سعداء جدا ,ورغم خوفي الدائم مما سيحدث كنا قادرين على الضحك والفرح ,ومرّت بنا ايام كان فيها بليز مريضا جدا لكنه كان شجاعا فاجبرني على مشاركته أحاسيسه , وإذ مرّ العام وبدا عليه بعض التحسن تجرانا على التفكير بخطأ إفتراض الأطباء , أو حدوث معجزة ...... إلا أن كل شيء إنتهى في العام الماضي ...." وإرتعش صوتها :" وكنا على وشك الذهاب الى ديفون , إلا أنه أحس بالضعف الشديد ثم توفي المستشفى في ليلة عيد الميلاد".
وساد بينهما صمت طويل بعد ان أنهت حديثها , وأخيرا تحرك جوردان ووضع يديه على ركبتيه للحظة قبل أن يقف ثم يتمشى في الغرفة ,وقال :
" وماذا ترك لك ؟ بعض المال والذكريات؟".
بقي مديرا ظهره لها ولم تستطع فهم حقيقة سؤاله ,إلا أنها اجابته بهدوء:
" كلا, لكنني تعرفت من خلال الزواج على شخص طيب ,لم يكن هناك أي خداع في زواجنا ,بل منحته الحب والتضحية وارجو أن أكون قد ساعدته في تسهيل آلام السنة الأخيرة ,ومنحني هو السلام والفهم اللذين كنت في حاجة اليهما ,ليس لدي ما آسف عليه بصدد زواجي من بليز وكنت فخورة بكوني زوجته".
إستدار جوردان وكان فمه متقلصا كأنه كان على وشك قول شيء ثم غيّر رايه في اللحظة الأخيرة :
" كان من الممكن بقاء بليزحيّا عدة سنوات ,هل كنت ستحافظين على مشاعرك ذاتها نحو الزواج ؟".
" نعم ".
همست مؤكدة قبل ان ينتابها أحساس مفاجىء بوجوب هربها ,لكنه لم يفهم قلقها ورغبتها في الأختلاء بنفسها , فعاد ليجلس الى جانبها ولأول مرة رات في وجهه القلق والندم وشيئا آخر لم تفهمه ، قال :
"هذا يجعل الأمور مختلفة هل تفهمين ؟ما كنت سأتصرف بهذه الطريقة ,لو أنني عرفت من قبل ما قلته لتوك".
وبحركة مفاجئة حاول معانقتها معتذرا عن سلوكه :
" لا احاول إختلاق الأعذار لسلوكي ,لكن يجب ان تصدقي ما قلته".
إلا أن جوردان نسي كبرياء المرأة وقوتها على إخفاء باقي المشاعر ,وحتى فضيلة الغفران ,وكانت ,في تلك اللحظة ,لمسة جوردان آخر شيء ارادته فإنكمشت في مكانها ,مبتعدة عنه :
" نعم قلت لك لا اهمية للأمر ".
كانت حركتها مندفعة ,فوقف جوردان بسرعة ونظر اليها بمرارة.
"نعم , أظن أنني المخطىء تماما".
حاولت ترتيب شعرها وإرتدت حذاءها ثم قالت بتعب:
" رجاء....... كل ما اريده هو نسيان ما حدث , ولست الومك".
وواصلت ترتيب شعرها كأنها لم تسمع فعلّق بصوت عال:
" حسنا , أنت محقة ,كنت مخطئا في حكمي عليك , ثم أكتشفت هذه الحقيقة المثيرة الأمر الذي يجب أن تشكريني عليه , لكنه لا وجود لمرأة ذات منطق وتتعرّف على الحقائق ,لوانني اغويتك فعلا لحوّلت الموقف الى مأساة ,أما لأنني لم افعل فإنك تسمين الأمر إحتقارا ...... أليس كذلك؟".
وتملّك جيردا غضب أعماها ,وكانت مرتبكة الى حد لم تفهم فيه أن جوردان نطق كلماته الأخيرة ليحمي نفسه وتزعزع ثقته بنفسه ,و وتجاهلت كل محاولاته للحديث معها وإقناعها باخذها الى البيت بواسطة سيارته , فهرعت مغادرة المنزل باقصى سرعة لتجد في الظلمة ملجأ لها.
أنت تقرأ
"لحظات الجمر "
Romanceمنقول/ مكتملة للكاتبة : مارجي غيلتون الحقيقة عندما لاتقال تخلق في الضمير حالة كابوس تنمو وتنمو كالأخطبوط الشرس, وتروح تعبث بالحالة النفسية وتؤثر على التصرفات, حتى تصل لحظات الجمر, لحظات قول الحقيقة ...فكيف اذا كان الحب مختبئا وراءها , ينتظر بفارغ...