تأرجحت مشاعر جيردا خلال عطلة نهاية الأسبوع ,بين الكراهية اللامعقولة لكل الرجال وجوردان بلاك بشكل خاص بين إحتقار ذاتي بالقدر نفسه ,وفقدت القدرة على تذكر السباب الأولية التي دعتها للذهاب لرؤية جوردان وبقيت مكتئبة نتيجة ما حدث ,وفكرت بأنها لم تفشل في إقناعه بتغيير قراره بصدد العقد فحسب بل خسرت بقية إحترامه لها ، هذا إذا تجاهلت فقدانها إحترامها لنفسها.
كانت مكتئبة وتعيسة حين ذهبت الى المستشفى يوم الأحد ، ولولا وعدها بزيارة هوارد ومعرفتها بنقله الى المصح في اليوم التالي , لما وجدت الجرأة الكافية لرؤية أحد , لكنه بدا بصحة جيدة ومتمتعا بمعنويات عالية , ووجدته جالسا خارج الردهة في قاعة الزوار , الأمر الذي أفرحها لوهلة , تلا ذلك إحساسها بأنه لم يعرف بعد ما جرى لجيرنغوردز.
إبتسم لها ومد يديه ليمسك بيديها حين رآها تتقدم نحوه وقال :
" إنه يوم جميل..... أليس كذلك؟".
وإنتبهت جيردا الى جمال النهار وحاولت الأبتسام والموافقة.
" إذا بقي الجو حسنا سأتمتع بفترة نقاهتي , سأتمشى وأتمتع بالشمس وربما سأمارس لعبة الغولف و حينئذ سأدرك أنني اصبحت رجلا عجوزا".
" أنك لست عجوزا ,وليس لعب الغولف دليل ذلك , لأنها لعبة يمارسها الشباب".
" صحيح؟".
إبتسم هوارد بغموض ثم قال:
" ماذا جرى ؟يبدو عليك التعب".
" لا شيء , إنني بصحة جيدة".
وأجبرت نفسها على الإبتسام من جديد.
" لا يبدو عليك ذلك , هل أستطيع مساعدتك؟".
"كلا ,لا شيء هناك ، بإستثناء..........".
وتوقفت برغم علمها بوجوب إخباره، إلا أنها كانت تحاول وبقدر الأمكان تأجيل التحدث ,وأرادت إخباره بلطف دون أن تثيره أو تزيد من آلامه.
" بإستثناء ماذا ؟". وقطب جبينه : " جيردا , هل أنت قلقة بشأني وشان الشركة ؟ وذلك العقد ؟ لأنني.......".
"نعم ,ولم أرد أقلاقك ,إذ املت بنقل أخبار.......".
وبدأت فجأة إعترافها بجمل متكسرة وبطريقة تختلف عن أسلوبها الهادىء معه عادة.
" كانت رسالته باردة ,اعرف أنها رسالة رجل أعمال لكنني اردت تغيير رايه وأملت ان انجح بذلك , قبل نقل الأخبار السيئة اليك ,فطلبت من ميرك تاجيل حديثه معك علني أبحث مع جوردان بلاك ثم ألتقيت به ,إلا أن اللقاء كان فاشلا ولم يغير رأيه وكنت حمقاء في سلوكي إذ إنني زدت الأمور سوءا".
"وهل هذا ما يقلقك الى هذا الحد؟".
قاطعها هوارد.
فأومأت برأسها إيجابا خائفة من إشعاره بأنها خذلته في تنفيذ المهمة , فقال ببطء:
" بدات أتساءل عما إذا صدقت دعابتي حين اقترحت عليك إستخدام سحرك في إغواء جوردان ....... آمل أنك لم تصدقي ما قلته ولم تقومي بتوريط نفسك في علاقة شخصية مع بلاك؟".
وبذلت اقصى جهدها للسطرة على مشاعرها:
" لا أدري إذا كنت اخبرتك من قبل...... إلا أنني كنت على معرفة وطيدة بأخيه ستيوارت وهكذا كان هناك عنصر شخصي في المسألة ......إلا أنه لم يؤثر على الموضوع".
"كلا لا اظن ان لذلك تاثيرا ,إذ من الخطأ السماح بخلط العلاقات الشخصية بالعمل ,واعتقد أن النتيجة ستكون زيادة عدد الأعداء وفقدان الأصدقاء".
وصمت ثم اضاف متأملا:
" تعجبت لنك تبدين مختلفة ,لا داعي لقلاق نفسك ,أنا واثق من إخلاصك في عملك ,ولا داعي لتكرار ذلك , إلا أنني إذا ما سمحت لمشاكلي باقلاقك ".
وحرك يده إشارة الى إغلاق الموضوع.
"حسنا ,والان إليك أخباري ,انا لست منفصلا تماما عن العالم ,وإذ انك لم تأتي لزيارتي يوم الجمعة , فلمتعلمي بأن ميرك جاء وأخبرني كل شيء بما في ذلك محاولتك الصغيرة للتأثير على جوردان , لم أرد إخبارك أولا ,ولكن بما انك ذكرت كل شيء , فأجد من الأفضل ان تعرفي , تحدثت فترة طويلة مع ميرك وأبلغته قراري ,المر الذي لم يرغب فيه هو ,لكنه ادرك أنه الحل الوحيد الموجود أمامنا".
إنكمشت في مكانها وأحست بأنه على وشك إطلاعها على خبر سيء ,وبدا على هوارد محاولة إختيار كلماته بدقة وإذ تحدّث ,أدركت صحة احساسها:
" فكرت كثيرا ,خلال اليام الماضية ,وواجهت شيئا لم استطع مواجهته من قبل وهو االمرض , لذلك قررت الأنسحاب ,نعم , سأنسحب من جيرنغفوردز وسأتقاعد , سابيع بيتي في المدينة وأجعل من منزلي في ديفون محل إقامتي الدائم ,وفي إمكانك المجيء لقضاء عطلتك معي ومشاركتي حياتي البسيطة".
كان ذلك آخر شيء توقعت سماعه وهوارد يتخلى عن صراعه!
" لا اصدق ذلك ,اعرف باننا جميعا حاولنا إقناعك بالتخلي عن بعض مسؤولياتك ومراعاة صحتك ولكن أن تتقاعد ,ما الذي ستفعله طوال يومك إذن؟".
" اتمشى ,أصطاد السمك وأرعى الحديقة , وربما سأكتب كتابا حلمت دائما بكتابته , سأتخلص اخيرا من الِشركة وسأكون سعيدا لذلك".
"نعم ,إنك تستحق السعادة وسأساعدك على تنفيذ ما تريده".
" ىمل أن تفعلي ذلك لنني مدرك لمدى ارتباطي بالعمل ,وقد احس أحيانا بالقلق والندم لقراري ,لكن ذلك سيقل بمرور الوقت وسأتوصل الى الأقتناع بأن قراري كان لصالح الشركة وزملائي ونفسي".
" لا أعرف ماذا ستكون عليه الأمور بعد ذلك".
" انك إنسانة رقيقة وعاطفية ,اؤكد لكك بأنني سأنسى خلال شهرين وتعود الأمور الى مجراها الطبيعي بالنسبة اليك إذ ستبقين مساعدة شخصية لميرك".
"نعم ".
وتنهدت محاولة تغطية شكوكها:
" ليس الأمر كذلك..........".
ءلت نفسها فجأة ,عن شخصية الرئيس الجديد المؤهل لأحتلال محل هوارد , ثم تذكرت شيئا آخر ,فرفعت رأسها بحذر ,ماذا أخبرها جوردان ؟كان يفكر بشراء جيرنغفوردز !
وألتقت عيناها بعيني هوارد وكتمت أنفاسها لئلا تلفط السر الآخر , لكن كل ما قاله جوردان هو انه يفكر بشراء الشركة وقد يغيّر رايه ,وجوردان ليس من النوع الذي يكذب عادة ,فهل من الحكمة ترداد كلماته لهوارد؟
وإذ واصلت صمتها قال هوارد أخيرا :
" في أي حال , سنعرف مصيرنا في لقاء يوم الغد سأكون حاضرا في العاشرة والنصف ,وسأغادر المكان الى المصح بعد فترة الغداء".
وقف في مكانه وكان متمتعا بهدوئه:
" ارج وان تحجزي لي مائدتي المعتادة في المطعم , في الثانية عشرة والنصف ".
" نعم بالطبع ,هل تحتاج شيئا آخر؟".
" لا أعتقد ذلك , بإستثناء رجائي ان تتخلصي من دلائل القلق على وجهك".
ربّت على كتفها وبدا السير ببطء عائدا الى مدخل الردهة مكررا :
" سيكون كل شيء على ما يرام , إطمئني".
ولكن هل جرت المور وفق ما تمناه؟
كان الجو العام في المكتب , صبيحة اليوم التالي ,مشحونا بهدوء العاصفة ,بدا القلق واضحا على العاملين وسادهم الصمت ,ورغم أشعة الشمس الساطعة ,كان مكتب الأجتماع باردا ،ولم تؤثر حتى الزهور التي وضعتها أليزابيث على عجل قرب النافذة ,على الجو الصارم المحيط بكل شيء.
وكان هوارد آخر القادمين ، لذلك لم تجد جيردا فرصة للحديث معه ، بإستثناء مبادلته تحية الصباح واعدت دفترها إستعدادا في حالة رغبته بإملاء أي ملاحظة عليها.
كان الإجتماع هادئا بشكل غير معتاد وساد الحاضرين إحساس بالأكتئاب غطّى حتى على ضجة حركات ميرك المالوفة ، بل شعرت جيردا بحزن الموجودين وتساءلت عما إذا كان خبر ترك هوارد للشركة قد تسرّب لديهم وتأكدت من حقيقة ذلك إذ لم تلحظ الدهشة عند إعتلائه اياه.
واحست جيردا بالحزن العميق ينتابها اثناء فترة الصمت التالية وغالبت كآبتها محاولة عدم التفكير بانها آخر مرة يرأس فيها هوارد إجتماعا في هذه الغرفة ، وسيجلس في مكانه شخص آخر شخص يختلف عن هوارد الصديق الحميم ,ومال هوارد الى الأمام وسعل كعادته كلّما أراد ذكر شيء مهم ، كلا لن تعود المور الى مجاريها القديمة ........... بهدوء وبصمت خال من العواطف اعلن هوارد مقترحاته وعرض جوردان بلاك لدمج الشركة تحت إدارة شركته الحالية.
وعند التصويت وافق الحاضرون على مقترحات هوارد بإستثناء اثنين ، وكانت الخطوة بداية النهاية لجيرنغفوردز ، غذ يعني قبول عرض جوردان بلاك أن إدارة الشركة ستكون تحت أمرة وينتفورد وسياستها موجهة من قبلها ، اما بالنسبة الى جيردا فالتغيير عنى ما يلي:
أولا انج وردان بلاك سيحل محل هوارد ، وأن ايامها الخيرة في الشركة قاربت الإنتهاء ,لأنها لن تتحمل رؤية جوردان بلاك كمدير لها يسيطر على الشركة.
ولكن ، لماذا لم يخبرها هوارد ؟ لا بد أنه أتصل بجوردان , وعرف بعرضه ، وكتبت بشكل آلي ما أملاه عليها ، ولم تكن مصغية للنقاش الدائر ، بل سمعت فجأة انفتاح الباب.
اغلقت دفترها ورفعت رأسها فرأت جوردان بلاك داخلا الغرفة.
أنتهى الإجتماع ، لكنها بقيت جامدة في مكانها ، ورأت هوارد ينهض عن كرسيه للقاء جوردان وغذ مدّ الأخير يده للمصافحة فتقبّلها هوارد مبتسما ، وإنتهى الصمت الطارىء حين بدأ هوارد يعرّف الأعضاء بجوردان ، وتحرّك الرجال مبتعدين عن الطاولة التي بدت فجأة مهجورة مغطاة بالأوراق والأقلام ، وبعض بقايا السجائر.....
وقفت جيردا ممسكة الدفتر بإحكام إذ رأت نظرات جوردان تستقر عليها ، ثم إسترعى إنتباهه شيء تفوّه بهم يرك فإستدار للإنصات اليه ، دخلت أليزابيث الغرفة وهمست في اذنها لكنها لم تسمعها بل كانت مشغولة بمراقبة هوارد يلتقط حقيبته ثم يصافح الأعضاء مودعا ، إبتسم لجوردان بلاك وخرج الرجلان سوية دون النظر الى الوراء.
وأحست بالبرودة كأنها تعرضت للخيانة ، فكم كانت عاطفية حمقاء ، وكم من المتاعب واجهت وعرّضت سمعتها للتشويه....
كانت بقية اليوم عذابا مبرحا لها ، وجدت من الصعب جدا التركيز على طباعة وإعداد الرسائل المطلوبة ،وأخيرا فقد ميرك صبره وسيطرته على أعصابه فوبّخها غير مرة.
وحدّق ميرك في وجهها مدهوشا.
" عليك القيام بعملك بطريقة افضل يا عزيزتي ، خاصة عند وصول الحاكم الجديد".
لمتكن لهجته قاسية إلا انها تألمت لمجرد الملاحظة.
" لا اعتقد أنني سأبقى مع العهد الجديد".
"هذا هو السبب إذن ، كان عليّ إدراك المر ، لكن كل شيء سيبقى كما هو الآن دون تغيير".
صمتت لتفكر بحالها ، وعنى التغيير بالنسبة اليها ترك المدينة والعمل وغيجاد مكان آخر للعيش ، وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة للتغيير الحقيقي".
" أذا كنت قلقة لوجود جوردان بلاك فلا داعي لذلك ، صحيح أنه سيشن هجومه من حين لآخر ، إلا انني سأستغرب إذا رايناه اكثر من عشر مرات في السنة".
وإنكمشت لملاحظة ميرك المقللة من شأن جوردان وكفاءته وتذكرت بأنه قادر على توجيه التهمة ذاتها اليها.
نظرت الى أرجاء الشقة ، ذلك المساء ، بعينين باكيتين ، هل تستطيع بيع البيت الذي جهّزته مع بليز ؟ خاصة بعد ان تقبّلت وحدتها وعزلتها إثر وفاته ,ماذا سيكون الوضع في مدينة جديدة لا تعرف فيها أحدا؟
![](https://img.wattpad.com/cover/104016837-288-k87098.jpg)
أنت تقرأ
"لحظات الجمر "
Romanceمنقول/ مكتملة للكاتبة : مارجي غيلتون الحقيقة عندما لاتقال تخلق في الضمير حالة كابوس تنمو وتنمو كالأخطبوط الشرس, وتروح تعبث بالحالة النفسية وتؤثر على التصرفات, حتى تصل لحظات الجمر, لحظات قول الحقيقة ...فكيف اذا كان الحب مختبئا وراءها , ينتظر بفارغ...