مقدمة

739 32 3
                                    

على الكنبة الناعمة المخملية ، كنت أجلس متأملا  بقايا الماضي الأليم  ؛ أحدق في صورة تحضنها يداي  هي كل ما تبقى لدي من ليالي العذاب و السهد ؛ صورة التقطت قبل سنوات مضت ،هي الشاهد الوحيد على التغير الذي أصاب صاحبها .

في صدر الصورة يقف  شاب طويل ، بشرته صفراء ،شاحبة، بلون زهر شجرة اللوز ، أنفه طويل معقوف يزيد من حدة ملامحه و يضفي عليه نوعا من الجاذبية ، شفتاه الممتلئتان تحملان شبح تنهيدة نابعة من أعماق روحه الجريحة ،عيناه اللامعتان مغلفتان بحزن دفين يتكور كالجنين خلف حدقتيه العسليتين ،و  نظراته الساهمة المنكسرة تحمل آثار العذاب و المعاناة و تفوح منها رائحة الأسى و القهر . كان متشحا بالسواد حدادا على السعادة المغتالة و البسمة التي ماتت فتية على الشفاه . ذاك الحداد الذي رافقه طول سنوات بحثه عن السرور و الفرح المختبئ خلف الزهور ، و لم يختف إلا عندما ربتت الحياة على كتفه معيدة الأمل و الحبور إلى قلبه المغلف بالظلام .

كنت أرمق الشاب الذي كنته و ابتسامة دهشة صغيرة  تتراقص على شفتي . من كان يظن أنني سأتغير يوما  ؟ من كان يعتقد أنني قد أشكك في المسلمات التي تمسكت بها طوال حياتي ؟ من كان ليظن أن ذاك الفتى العابس هو نفسه الشخص الباسم  الذي صرته ؟

لكننا لسنا نفس الشخص ، لا احد منا يمت للآخر بصلة ، لا شيء يربط حزنه السرمدي بسعادتي الأبدية. فهو قد مات منذ زمن ، محترقا بذكرياته لأنه لم يستطع التحمل . فظهرت أنا من بين رماده طائر عنقاء حرا ، محلقا في فضاء السعادة ،و الامل .

كم كان محقا عبد الله العروي عندما كتب على لسان أحد شخصياته " الفرد خلق مستمر و تفكك مستمر " فهأنذا ألمس ذاك التفكك و الخلق الذي طرأ علي ، أبصره إبصار الفنان للوحته ،  أتأمله ملخصا في صورة و مرآة و آلاف السنين التي تفصلني عن الفتى .

أرى أنك محتار الآن عزيزي القارئ.  لا تقلق ، فهذا الكتاب الذي تعانقه يداك  كفيل بتوضيح ما غمض على بديهتك ، و ما استعصى فهمه على عقلك . فخذ نفسا عميقا صديقي القارئ و اقلب الصفحة لنغوص معا و نكتشف أسرار روح معذبة ، و لا تهلع فسأرافقك في كل خطوة من خطواتك ،و سأكون قربك في كل حركة من حركاتك .
هيا خذ بيدي صديقي و لنذهب .

حبال واهية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن