- أهبطا منها –
طفل صغير يركض خلف الحمار ويصيح ...
في الخلفية هناك زروع على إمتداد البصر .. الحمار يمشي بخطوات سريعة محملا بالفول السوداني الأخضر والكركدي بلونه الأحمر الدامي الذي صبغ ظهر الحمار الرمادي وعلى سرجه جلس أستاذ حسين المدير العصامي الذي يخرج من مكتبه إلى زرعه ليحصد ما غرسه بيديه .. الطفل يصيح وهو يركض بمزيج من المرح والشقاوة :
- أبوي أقيف دقيقة خليني أنط
كانت المساحة خلف سرج الحمار ضيقة وزلقة ولكن الطفل بمهارة من تعود ، وثب كالقرد ممسكا بجلابية والده ومتشبسا بالسرج الخشبي .. يتأرجح الحمار وهو يصعد الردمية الخرسانية ليصل للطريق السريع .. جرار كبير يظهر مسرعا فيتوقف الحمار والجرار يطلق بوقا عاليا ، ليفسحوا له الطريق .. حجم الجرار وصوت البوق حجبا البوكس القادم من الخلف مندفعا بأقصى سرعة محملا بالبطيخ .. ثم حدث الإرتطام .. وأصحو أنا من نومي لاهثا .. كابوسي المعتاد منذ عامين ... يوم رحيل أبي وإصابتي .. في لحظة أظلمت الدنيا وتغيرت حياتي للأبد .. فتحت عيني لأجد جواري عبد الرحمن شقيقي الأكبر وأمي غير موجودة .. كانت تتلقى العزاء في بيتنا .. عبد الرحمن يناولني كوب ماء وهو صامت ودموعه تغالبه ويسألني :
- إنت كويس ؟ حاسي بشنو ؟
كان رأسي متورما وجسدي ملئ بالرضوض ولكن الشعور الوحيد الرهيب الذي أستحوذ علي هو : إنني لا أشعر بأقدامي .. كان جسد أبي قد حماني من الصدمة المباشرة ولكني – كما قال الشهود – طرت في الهواء أكثر من خمسة أمتار لأسقط على ظهري في الإسفلت .. تضرر النخاع الشوكي وشلل سفلي .. هكذا قال الأطباء .. أسعفوني وعملوا كل ما بوسعهم وفق إماكانياتهم الضئيلة في مستشفى المدينة الصغير وقال أكبرهم إن مثل هذه الإصابات سرعان ما تزول مع الوقت – وهي جملة ليجعلنا نطمئن فقط – وإنني سأمشي وسأجري من جديد .. كان عثمان ويونس يقفان في باب العنبر كالديدبان ولم يفارقاني حتى لحظة خروجي من المستشفى بعد شهر على مقعد متحرك .. من يومها تغير الحال .. بتنسيق غير مكتوب صدرت الأوامر لعثمان ويونس بعدم مفارقتي ليل نهار .. صارا أقدامي التي فقدتها وقوتي التي حبسها المقعد .. منى صارت تلازمني طيلة الوقت وقد إتفقوا جميعا بينهم بعدم ذكر كلمة عن إصابتي .. جعلوني أعيش حياة طبيعية كأنني أمشي على قدمين .. أذهب معهم للميدان وأمارس دور المدرب وأصرخ بكل قوتي :
- يونس .. باصي الكورة يا حيوان وإنت يا إيهاب راجيها ليه ؟ مواعدها ؟
منى تأخذني للسوق معها ومنظرها وهي تدفعني ونحن نتضاحك صار منظر معتادا في الحي لا يعلق عليه أي أحد .. في المدرسة أتفق المعلمون فيما بينهم على معاملتي بنفس الطريقة القديمة حتى لا أشعر إنني مختلف .. والمقصود طبعا إنهم سيضربونني مثل البقية دون تمييز .. الفرق الوحيد إنهم يكسرون عظام يدي بالمسطرة بينما يمزقون مؤخرات الباقيين بالسوط .. تلك كانت قصة إصابتي التي أسترجعها كلما زارني ذلك الكابوس .. أنظر للساعة للنتيجة المعلقة على الحائط لأجدد إننا في سنة 1999 .. أبدا لن تمحى تلك تلك السنة من ذاكرتي ..