سمع صوت صينية توضع جانبه، ثم صوت زينة يسأله، يقطع عليه تركيزه للحظة: وش قاعد تسوي عندك؟
أجابها غير رافع عينيه عن رقعة الشطرنج أمامه: أفكر..
جلست هي عندها، لينظر إليها ويرى حاجبها مرفوع باستغراب: تفكر وإنت قاعد تلعب شطرنج لحالك؟
ابتسم، مدركا أن عادته هذه بدت غريبة وتحتاج إلى تفسير: لما أكون عالق بزيادة في تفاصيل رواية، ألعب شطرنج مع نفسي.. يساعدني إني أركز.
بدا على ملامحها التفهم، لكنها قالت: مو ممتعة اللعبة لما تلعبها لحالك..
تنهد: أدري، بس مافي أحد يعرف يلعب قريب. مرة حاولت أعلم جود عشان تكون خصمي بس طفشت على طول وتركتني في النص..
ضحكت زينة بخفة لسماع تلك الذكرى: مو الكل بيكون مهتم، أخمن../ أردفت بتحدي: ومين قال ما تعرف أحد يلعب الشطرنج قريب منك؟
قطب حاجبيه بعجب منها، غير مستوعب للحظة ما تقصد، إلى أن أدرك: إنتي؟
كانت ابتسامتها متسلية: ليه متفاجئ..؟ صح إني ما لعبت من دهر، بس لسى أتذكر قواعد اللعبة. كل اللي يبغالي هو إنعاش ذاكرة.
أكانت تهدف زينة أن تكون مختلفة كل الاختلاف عن ما عهده في زواجاته السابقة في كل التفاصيل؟ ابتسم هو، يعيد ترتيب رقعة الشطرنج للعبة جديدة: السيدات أولا، اختاري لونك..
لم تأخذ زينة لحظة حتى تختار: الأسود.
أتراها كانت تلعب الأسود في الماضي؟: لعلمك يا الزين، ما بتساهل معاك.
برقت لمعة التحدي في عيونها أكثر: ومين قالك تساهل؟
اكتشف ليث بعدها أن زينة كانت صادقة في كلامها، وكل ما كان عليها إنعاش ذاكرتها بلعبة تحمية فاز هو فيها.
في لعبتهم الثانية أعطاها حرية الإختيار، ومجددا اختارت الأسود.
سألها قبل حركته الأولى: من وين تعلمتي اللعب..؟
مهما كان المصدر، كان متمرسا بحق.
أجابته: أبوي كان يحب ذي اللعبة وعلمني.. ما قدرت أفوز عليه مرة الله يرحمه.
كرر: الله يرحمه..
ود لو عرف والد زينة يعقوب في حياته، فمن كلامها عنه بدا رجلا مثيرا للاهتمام. مترجم ناطق لست لغات بطلاقة غير العربية والإنجليزية، مستخدما خبراته في عدة أماكن حول العالم قبل أن يتقاعد. أخبرته زينة أن حلمها في الماضي كان أن تدرس الترجمة مثله قبل أن تستبدله بالتدريس.
كانت هذه اللعبة أكثر تحديا بكثير من سابقتها، فزينة قد تكمنت من تذكر إيقاع لعبها، مثبتة له أنها كانت خصما لا يُستهان به.
أصبحا تارة يصبان كل تركيزهما على الرقعة بينهما، وتارة أخرى ينخرطان في الحديث بينما يفكران في تحركاتهما القادمة. صينية الحلا والقهوة التي أحضرتها زينة معها بقيت منسية بينهما.
التفكير في تفاصيل روايته كان آخر ما يفكر به حاليا، وكان يجب أن يتوقع ذلك، فحتى لو جلست جنبه صامتة، فإن زينة كانت لتشتت انتباهه، ذلك التأثير الخاص بها الذي يجعله يصب كل اهتمامه عليها حال دخولها لمجال نظره.
فاز مرة أخرى، لكن بصعوبة.
لعبا مرة أخرى بعد.. وابتسمت زينة بانتصار وهي تعلن: كش مات..
ربما لم يكن من الحكمة، لعب لعبة مع خصم كزينة، لأن بدلا من الشعور بغيظ الهزيمة، كان جل تفكيره مسح ابتسامة نصرها بقبلة.
تناول يدها الممدودة بقطعتها التي قادتها للنصر، يرفعها ليقبل كفها ويقول بعمق مفتون: ما عمري شفت أحد يلبس النصر أحلى..
رأى الحمرة تعتليها، ليكون دوره في الابتسام بانتصار..
"كش مات.."
/
/
كانا يتحدثان عندما فجأة اقترب ياسر أكثر وطبع قبلة على خدها ثم أكمل كلامه. لكن بيان استوقفته: وش قصدك من ذا..؟
قالها كأنه قانون: لازم../ أردف بابتسامة: يعني تتوقعين أشوفك مبتسمة ومطلعة الغمازة وأقعد بدون ما أسوي شي؟
أحيانا، بعد التطورات التي طرأت في علاقتها بياسر، شعرت بيان كأنها تختلس شيء، لكنها سرعان ما تذكرت أن ياسر كان على دراية بما تأسست عليه علاقتهما من اليوم الأول، وكان خياره في أن يحبها ويظهر ذلك.
ربما، على رأي لجين، يمكنها بحق أخذ هذه البداية الجديدة.
وإذا استعاد ياسر ذكرياته، عندها..
(ما أصدق إني ما كنت أحبك..
كنت أحبك يا بيان. الله يقدر لي بس أثبت لك..)
لكل حدث حديث..
:
رأته غارقا في التفكير، وتوقعت أنه كان يفكر بهاجسه الحديث. سألته، لا زالت غير مقتنعة، غير مستوعبة، لما يريد ياسر تحقيقه وكيف: ليه مصر تثبت لي إنك كنت تحبني قبل الحادثة؟
أجابها: قريت مرة إن فيه حالات فقدان الذاكرة ينسى فيه المريض الفترة اللي كان فاقد ذاكرته لما يستعيد ذكرياته الأصلية.
لم تفكر في ذلك. فكرة أن ينسى ياسر كل ما حدث في الأيام الأخيرة بينهما مقابل استعادة ذكرياته..؟
أتراها كانت أنانية إذا أخافتها تلك الفكرة؟
أكمل، يجعل انتباهها يعود إليه: عشان كذا، إذا نسيت، أبغى يكون عندك شي تحجريني وتلوي ذراعي فيه.
لم تستطع إلا أن تسأل: بتسوي كذا في نفسك؟
أومأ لها بنعم: وزود.
ربما لم تكن مقتنعة بوجود مشاعر حب سابقة لها في قلب ياسر، لكنها لم تستطع منع نفسها من التمني، تمني أن ياسر كان محقا.
/
/
لطالما أحبت لمى أن تعوض إخفاق الآخرين، ظاهرة بمنظر المنقذة، بينما الشخص التعيس الحظ الذي سبقها سيكون بين طيات الفاشلين. حل مسألة أخفقت فيها كثيرات من زميلاتها، المساعدة في الضيافة بينما قريباتها جلسن، السلام على الكل بينما باقي الضيفات اكتفين بمعارفهن..
تطورت تلك النزعة معها، وعندما بدأت زوجة عمها عبير تشتكي من زوجة ابنها، ميساء، لم تستطع لمى منع نفسها من التفكير..
"لو كنت مكانها، كنت بسوي أحسن.."
أخذت تستمع لشكوى العمة عبير بإنصات، تستفسر وتسأل وتساند، حتى انتهى الأمر بها بزرع شكاوي أخرى، بإقتراحات أخرى، تحث وتشكك وتدل، حتى أصبحت مكان ميساء.
لكن.. لم يشعرها زواجها بجواد بذاك الانتصار، لم تشعر أبدا أنها أحدثت فرقا معه، لكنها كانت تعزي نفسها بأن ذاك كان طبع ابن عمها، هذا البرود واللامبالاة، وإذا كانت هذه معاملته لها، فلابد أن معاملته لميساء كانت أسوأ.
لم تتزحزح عن اعتقادها هذا إلا عندما فاجأها جواد بإعلانه الأمس.
لأول مرة فكرت بميساء كضرة، لأول مرة فكرت بها كمنافسة لها.
:
صراحة، هي لا تكره ابنة أخي زوجها ميساء. لم تكن عبير تنتمي إلى عائلة السيف لتكترث بعدواتهم القديمة مع أهل أمها، ولم تكن ميساء بتلك الطفلة المشاغبة ثقيلة الحضور. لم تمانع قط زياراتها لهم.
مشكلتها معها بدأت عندما توفي بكرها سعد وتركت أرملته أمل مسؤولية ابنتها يارا لهم، متحججة بأنها لن تسمح لها بإفساد حياتها التي ستبدأها من جديد، لم تحترم حتى واقع موت سعد لأيام فقط قبل إعلانها!
رأت في ميساء عندما تزوجها جواد نموذجا مشابها لأمل، بعدم معرفتها لأمور البيت، بحبها للتسوق، بالاعتزاز بالجمال والغرور، بترك جواد لها تفعل ما تشاء.. ربما كانت قواسم مشتركة سطحية، لكنها لن تخاطر بتكرار التجربة.
أخذت تنتقد، أخذت تطالب بالأحفاد، أخذت ترمي النغزات واللمزات حتى تجادل ابنها وميساء أمامها، حتى قالت ميساء أنها لم ترغب بالأطفال وأنها كانت تأخذ موانع..
شكت عبير في ذلك، لا تدري لم.. لكنها فعلت، وهكذا أخذت تفتش مدعومة بدعم لمى لشكوكها عن دليل يثبت صحتها حتى عثرت على ملف يحتوي تقارير طبية، كلها تخبر عن عدم قدرة ميساء على الإنجاب.
لا تدري ما سيرها حتى قدمت دليلها إلى جواد، حتى ضغطت عليه وعلى ميساء، حتى أودت بطلاقه منها وزواجه بمن اعتبرتها عبير مكافئة له.
كانت لا ترى سوى عيوب ميساء إلى أن رحلت وصفا بالها، حتى أدركت أنها كانت تفضلها بكثير على لمى.
لم تكن ميساء بالمتدخلة، بالتي تحشر أنفها فيما لا يخصها. لم تحاول ميساء قط التدخل في علاقتها مع جواد، بأن تقلبه عليها.. على عكس لمى تماما.
تدخلت لمى عندما كان يتعلق الأمر بيارا، ببشاير، نقاط ضعف جواد الأبرز، محدثة في الخفاء جدالات بينها وبين ابنها. انقلبت ضدها بعد أن كانت في صفها، ربما محاولة كبح شرها قبل أن تودي بها إلى مصير مشابه لميساء. على عكس ميساء، لم تكن لمى بالقريبة لبشاير، بل كانت تغار من قوة علاقتها بأخيها، بتغير حال جواد من الجمود إلى الحنان معها.
شعرت عبير بفداحة ما فعلته بعد فوات الأوان، بعد أن أصبحت ميساء ضحية الألسن والمعايرة، معتزلة تجمعاتهم بالكلية. لم تكن كأمل قط، أدركت عندما قالت لها بشاير بسرور أن ميساء حضرت عرسها رغم وجود كل الحجج لرفضها ذلك الطلب، كان معدنها أصيلا طيبا..
بدأت لمى تتقرب لها حديثا بعد أن بدأ جواد يبيت عند ميساء مجددا، تسألها عن تعامله السابق مع ضرتها، عن الحياة التي كانت بينهما.
أبقت إجاباتها كلها متماثلة، كلها خاطئة: كان يعاملها زيك، وعيشتها زي عيشتك..
"عدو عدوي.. صديقي.. صح؟"
مخطئة لمى إن كانت تظن أنها ستمد إليها يد المساعدة، مخطئة أكثر في ظنها أنها كانت المنتصرة أصلا.
تذكرت تلك اللحظة التي أصبحت دلالتها عن مشاعر ابنها تجاه ميساء..
كانت بعد ولادتها لبشاير بأسبوع، عندما زار أخو زوجها سند برفقة ابنته بيتهم.
بدا على ملامح ميساء الانبهار الشديد ببشاير عندما التقتها للمرة الأولى، تارة تهتف بحلوها، وتارة تتعجب من صغر حجمها. نظرت لها بكل الأمل الذي يمكن لطفلة في الثامنة أن تحس به، تسأل: عمة يمكن أحصل على وحدة زيها؟
ابتسمت عبير عندها، تومئ لها بنعم: إيه، إيه، لما تكبري وتتزوجين..
لتهتف ميساء بحماس: أجل لما أصير كبيرة وأتزوج جواد بسمي بنتي سالي!
تذكر كيف انخرطت هي وسعد بالضحك من شدة احمرار وجه جواد حينها، الذي بدل الاستخفاف الهادئ بكلام ابنة عمه، هتف آخذا كلامها على محمل الجدية: ما بتسميها على اسم شخصية كرتون، اختاري اسم ثاني!
ليدرك بعدها ما تفوه به ويحمر أكثر ويخرج من الغرفة وسط ضحكات سعد، عدم استيعاب ميساء، وعجبها هي.
ربما منذ البداية، لم يرى غير ميساء زوجة له.