الخامس .

36 6 1
                                    

كُنا روحاً واحدة .
كان العالم أجمع يؤمن بأننا روحاً واحدة . كُنا نجري خلف رغيف الخُبز و نتقاسمه كما يتقاسم الإخوة الإسم . كُنا نسعى دوماً لـنفس الحُلم ؛ فكان هو يُحرِز تقدُماً يُمنةً وأنا أحرِز تقدُماً يُسرةً .. كان شيئاً يسَعُ شخصاً واحداً يكفي روحيّنا .

لطالما أقسمَت أمي بأن إيڤان ابنها الذي انجبتهُ روحها ، ولطالما شاركَت أمه بأنها تشعُر بنفسِ الأمر تجاهِي .

عِشنا ما يُقارب الثلاثة عشر عاماً كـشخصٍ واحد . كانت روحهُ تسعنِي بالكامِل ، وجسدي كان يحوِي روحه كامِلةً .

لطالما اعتبرنا التغيير لن يمِّس علاقتنا أبداً ، وظللنَا نؤمن بأننا لن نتغير أبداً .

أهِ يا إيڤان ؛ أتذكُر شجرة الحديقة المُختبئة خلف منزلُنا ؟
أتذكر رسائلُنا التي سلمناها لتِلك التُربة الرطبة تحت ظل أوراق الشجرة العظيمة؟ أنا ما زُلت أذكُر أغنية قلبكَ المُفضلة .. ما زُلت أهوي بنفسي في أعماق تلك الأيام كُلما أستحضرت روحي جُزءًا من تِلك الأغنية .

كُل الأيام التي لعِبنا فيها دور الإخوة انتهت و صارَت ماضٍ .

كُلٍ منا ذهب بطريق ، كُلٍ منا وجد نفساً غير نفسِه ، كُلٍ منا احتوى فِكرهُ بـإهتمَاماتٍ غير ما كانت تستهويه !
غيرتنا الأيام يا صاحِبي !

يالهذه البرودة التي حلَت بِنا آنذاك ! بكُل سُخرية أُلقيّ بنا في أكوانٍ مُتباعِدة . تفرقَت أرواحنا كـتمزق الورق !
وكُل ما يحصُل كُنا مُشاركان فيه .. كِلانا .. أنا وأنتَ !

ليلة أبريل آنذاك ،

إعلان واحِد كان كافياً ليُعلِمُنا بمدى قُربنا .. هذا سخِيف يارجُل ! لقد كُنا بعيدين كُل البُعد .. طوّال هذه السِنين ! كُنا مُتباعدين مُنذ البداية !

كُل شيء انتهى عند تِلك الليلة آنذاك ،

كان علي أن أعي و أفقه جيداً أنه مُنذ تلك النظرة كان يتوجَب علي الرحيل و حذف كُل شيء .. شيء غبي كالذكريات مثلاً !

-

- إيڤان هذا المكان خطِر جداً ، لا ينبغي علينا التواجد هُنا !

- إرحَل إذا أتعبك الأمر ، ستُعيق طريقي بفلسفاتك الغرْبية هذه !

ثُم توقفنا آنذاك في تلك المنطقة التي تكاد تهلع لوهلة حين تتواجد فيهَا ؛ فالظلام كان سيد الموقف آنذاك و بالكاد يُمكنك سماع أي شيءٍ عدا صوت أنفاسنا و خُطوات الأقدام التي نخطوها ! كان الأمر غريباً و مُربكاً .

توقفنا بعد بعض الأمتار أمام منزل رث .. أو مسكَن مهجور إن صح التعبِير ! كان بجانب ذلك المنزل لوحة صغيرة تحمِل عنواناً ولم يكُ واضحاً بتاتاً .

دخلنا بعد ثوانِ قليلة من التفحُص والإستكشَاف وكانت تِلك أسود ثوانٍ حظيتُ بها في حياتي كامِلة !

كان مُحيط المنزل وحده يُعبر عن مدى الرُعب الذي يحملُه جوف هذا المنزل .
دخلنَا !
وكان أمامُنا رجُلان ضخمَان البُنية . واحِداً يحمِل حقيبة سوداء مُغلقة بإحكام ، و الآخر كان يقف حامِلاً قميصاً أسوداً أو رمادِي .. لا أعلم فقد كان الظلام طاغياً آنذاك .

نطق صاحِب الحقيبة بكُل وقاحة : " من هذا ؟ أخالُكَ نسيتَ إتفاقِنا يا هذا ! "

فرد إيڤان بهدوء : " كان يُساعدني بإيجاد الطريق . فكما ترى بالكاد يُمكنني تذكر اسمي ! وكذلك هو يملك ميزات عديدة لو رَغبت بأن أسردها لك لفعَت ! "

استرسل صاحِب القميص بهدوء : " حسناً هذا يكفي . ما هو اسمك يا فتى ؟ "

وهُنا حين عَلمت بأن السؤال كان مُوجهًا لي نطقت بهدوء :" ڤينيك "
بعد أن انتهيت مُباشرة أمر صاحِب القميص أن يتبعه إيڤان و أن أبقى برفقة صاحِب الحقيبة !
و هنا سنَحت لي الفُرصة بأن أسأل بكُل بلاهةٌ عن طبيعة العمل و أن أعرف أكثر عن سبب رغبة إيڤان بالعمل معهم وبعدها نطقت بعد ثوانٍ قليلة : " إذاً . ما هو السبب الذي دفع إيڤان بقبول هذا العمل ؟ فكما تعلم نحنُ لا نحظى بفُرصة كافية للتحدث معاً ! " وكان هذا هو ما أوقعني بمصائب هذه الحياة التافهة !

- أتقول بأنكم لستم مُقربين ؟! وأخبرك ببساطة أن تُرافقه ؟
- هه ! ليس تماماً !
- امهلني وقتاً سأعود حالاً !

و دعكُم مني يا سادة فكما تعلمون بأن الفضول يقتل أصحابه في أحيانِ و يُعذبهُم في أحيانِ أخرى . فكُل ما آل إليه الأمر أنه و بكُل بساطة غادرت بطريقة مأساوية و كما يبدو بأنهم أسروا صديقي لبضعة أيامٍ ، و أعتقد أنه في تلك الأثناء قاموا بغسيلٍ كامِل لعقله التافِه ، فبعد أن اخرجوه لم نتقابل سوى مرتان على حسب ما أُحصيه !

وكان في كُل مرة يراني فيها يقول لي ذات الأعذار : " لم يحدُث شيء ، أنا فقط أرغب بأن ينتهي كُل شيء . نحن كبرنَا ڤينيك ! تغيرت الحياة بالنسبة لي وأصبحت أملك وظيفة و فتاةً تُعجبني . و أما أنت فلا زُلت ذلك البائس الذي أعهدُه ! ولا أرغب بأن أعود كحالِكَ يا رجُل . بصراحة أصبح الأمر ساماً و يأكُلني في كُل ثانية . أنا اتآكل كُلما تذكرتُك ! "

وبعدها لا أذكُر أني رأيتُ إيڤان الذي أعرفه مُجدداً .

وأنا أعيشُ يقيناً بأني أخطأت بشأن عدم محاولة البحث عنه حينذآك ؛ فقد كان الخوف يتملَكني و لم أكُ ذا شجاعة و بنيةٍ قوية قط ؛ لذا فقط إكتفيت بالوقوف كـ مُتفرج و انتظرت .. لكن نظراً لما عِشناه معاً و نظراً لتِلك الأوقات التي كُنا نجري فيهَا سعياً خلف رغيف الخُبز ذاته ؛ فكما أعتقد بأنه عُذرٍ كافياً كي نعود روحاً واحدة !

لقد تغيرت يا إيڤان ! و كما أظُن أني أنا ايضاً تغيرت .

كِـذبةٌ بيّضاء | متوقِفة.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن