كاد القطار أن يفوتنى .. و لحسن الحظ لحقت به بعدما تلقيت كما هائلا من السباب ممن اصطدمت بهم أثناء محاولتى اللحاق بالقطار ... بعدها وجدت مكانا خاليا فأسرعت إليه .. و جلست أجفف عرقى و ألتقط أنفاسى ...
***
حتى أصاب السكون أنفاسى حين فوجئت بحسناء فى اوائل العشرينات من عمرها .. ذات شعر أسود داكن تجلس أمامى .. و دموع عينيها تسيل .. فدار فى خاطرى .. أى شئ يدمع عينى تلك الحسناء ؟ .. فجمالها لا يعرف طريقا للبكاء .. الفرح ينتظر منها نداء , و رقتها للمجروحين دواء ...
....
لا أعلم كيف نطقت شفتاى بتلك الكلمات الرومانسية حين رأيت تلك الفتاة ...
بعدها لم يمنعنى فضولى من سؤالها عن سبب بكائها .. فنظرت إليها و قلت فى دعابة :
- أكيد هو اللى غلطان .. كان لازم تسيبيه من الأول ..
نظرت الىّ لكنها لم ترد .. فأصابنى الحرج و التزمت السكوت .. و فضلت أن اتأمل جمالها دون أن اتحدث ..
***
بعد لحظات فوجئت بها توقف بكاءها .. و تحدثنى :
- أنا أمنيتى أنى أموت ..
فوجدتها فرصة لحديث أضيع به ملل الطريق و قلت :
- تموتى .. حد يتمنى الموت .. و خاصة لو ربنا أداه الجمال ده كله ؟!
هزت رأسها فى إحباط و أكملت :
- أنا ببكى لأنى استعدت ذاكرتى مرة تانية ..
اندهشت ثم أشرت لها أن تكمل ..
أكملت :- أنا للأسف افتكرت كل حاجة حصلت لى فى حياتى .. بعدها ابتسمت ابتسامة خافتة :
- الناس كانوا دايما يقولوا .. أنى جميلة الجميلات .. و فى يوم وقعت فى غرام شاب , و أصبح كل حياتى .. و أصبحت كل حياته .. تخليت عن كل حاجة فى سبيله ...
ابتسمت و قلت :
- جميل ... كمّلى ( فأنا مستمع حتى الآن )
أكملت :- أنت عارف ضعف البنت مهما كانت جميلة .. و فى يوم طلب إنه يقابلنى .. و بعد ما وافقت أصبت بحادث فى طريقى اليه .. و هنا فقدت الذاكرة ..
أكملت :
- بقيت سنة فاقدة للذاكرة .. مش فاكرة أى حاجة .. و لا أى حد يعرفنى .. كانت أيام ربنا العالم بيها .. و مع ذلك كنت صابرة .. و كل ما تعدى الليالى أقول أنها عابرة ..
***
كانت تلك الفتاة على درجة عالية من لباقة الحديث .. حتى أكملت :
- لحد ما جه الوقت و رجعت لى ذاكرتى ..
هنا تنهدت و قلت :- الحمد لله .. عدينا الجزء المحزن ..
أكملت : - استنى .. أنا استعدت الذاكرة .. و افتكرت كل حاجة .. و حبيت أعود لأهلى .. و هنا كانت الصدمة .. فوجئت أن الشاب اللى كنت بحبه اتجوز أختى ...
- وقتها أوحيت لأهلى أنى مش فاكرة أى شئ .. بس حسيت بصدمته لما شافنى .. و كانت نظراته لى نظرات غريبة .. فخفت أن أختى تحس .. و تفتكرنى بخونها ..
قلت :- آه و بعدين ؟.
أكملت :- أصبحت قدام اختيارين .. أنى أكون طول عمرى فاقدة للذاكرة و أحافظ على حياة أختى .. أو أنى أهرب و امتلك ذاكرتى .. و هنا فضلت الهروب .. ثم صمتت مجددا ..
***
وقتها كنت فى حيرة عندما سمعتها .. فكم هى مشكلة معقدة لم أقابلها من قبل .. و تحتاج الى التفكير على مهل ... فأنا لا أرضى لها الهروب .. و لا أريد لها العذاب .. حتى جاءت محطتى التى كنت أقصدها .. لكننى لم أغادر مقعدى .. و بقيت مكانى .. و فضلت أن أبقى معها .. حتى تحرك القطار مرة أخرى ..