الفصل العاشر

4.7K 127 5
                                    


تحدثا طويلا بكل رقة وحب , فأفضيا الواحد إلي الأخر , وإنما هذه المرة ,كانت روني هي التي تحدثت وفتحت صدرها له , حدثته عن والديها اللذين توفيا شابين وذلك بحادث مفجع .
كانا هما الاثنين , من علماء الأحياء البحرية , وكانا يقومان بالغوص عند شاطيء في اوستراليا حيث كانا ضمن فريق أبحاث عندما هاجمتهما أسماك القرش وقتلتهما , ولكن روني لم تعرف بتفاصيل الحادث إلا بعد أن اصبحت في سن المراهقة , ما جعلها فى خوف دائم من البحر .
عندما تيتمت روني كانت في الخامسة من عمرها فقط , وقد استغرق الأمر سنوات قبل ان تدرك ان والديها لم يهجراها , وانهما لم يقوما بتلك الرحلة كعادتهما ثم اخلفا وعدهما لها بالعودة في أقرب وقت .
لقد صبر جورج ولويزا على الكثير من نزوات روني أثناء سني مراهقتها , ولكن حبهما لها تغلب في النهاية عل كل شيء .
وهنا ضحكت روني بخجل لقد تطورت جذريا من طيش المراهقة وهاجس ( مسكينة أنا ) إلى النضج لتصبح شخصا أول ما تفكر فيه هو ( ما الذي يمكنني عمله لأجلك؟ ) .
والذي لم يكن جديدا , بالنسبة الى جيرالد , بطبيعة الحال , حيث انه جرب وما زال , كرم نفس روني وعطاءها الذاتي , وإذ شجعته انفتاح روني النفسي ما كان بمثابة دعوة منها لكي يشاركها الافضاء , زال حذره إلى حد اخذ يتحدث فيه عن ماضيه , عن السجن وعما جعله يدخله .
" لم اقتل أحدا قط في حياتي " قال لها ذلك يريدها أن تصدقه وأن تدرك أنه كان مجنونا أحمق في تلك الأيام ولكنه ليس سيئا حقيقة . " كل ما فعلته في ذلك اليوم هو وجودي في مخزن الأشربة ذاك , لمجرد زيادة العدد للمساندة , هل يمكنك ان تصدقي ذلك ؟ "
فأومأت برأسها إيجابا وقد امتلأت عيناها بمشاعر لم يستطع ان يحتملها كما انه لم يجرؤ على ان يفسرها ويحل رموزها , ولكنه في أعماقه كان يعلم انها صادقة وغير عادية , وبما يتعلق به كانت نادرة مثل الاحجار الكريمة .
حدثها باختصار عن مايك الكبير الذي كان قتل زوجته وأولاده في نوبة سكر عنيفة ولكنه كان بالنسبة إلي جيرالد , كان بمثابة الأب , كان مايك الكبير يشبه كثيرا في صفاته القاضي كينغهام , كما اخبر جيرالد روني , ولو كان بإمكانه ان يحب شخصا لكان مايك الكبير .
ضحك بهدوء وهو يقول ان الحب موجود فقط في الكتب والقصص الخرافية .
تشبثت روني به بذعر واخذت تبكي , لم يبك احد قط لاجل جيرالد من قبل , ليس بهذا الشكل , ولا تشبثوا به كما تتشبث روني به الآن , أو أحبوه كما تحبه , كانت غير عادية هذه الزوجة التي لم يكن يريدها في الحقيقة .
احتقر نفسه كليا عندما استسلمت روني للرقاد ووجد نفسه غير قادر على البقاء بجانبها , وهكذا نهض فنزل من السرير وارتدي ملابسه ثم تسلل خارجا من الغرفة كاللص في ظلمة الليل .
طاف الشوارع متصارعا مع افكاره . كان أدرك بأنها ليست من اللاتي كن موضع خوفه أو عدم ثقته , لا ولا الإلتزام أو المسؤولية أو حتى خسارته لحريته , كلا فالشيء الذي كان يخاف منه حقيقة , كان هو الحب .
كان الحب من المشاعر الغريبة عليه والتي لم يعرفها في حياته سوى مرة واحدة , وذلك في ذلك البيت الذي كان سكنه منذ زمن طويل , لقد كان احب اولئك الناس , وقد انكسر قلبه عندما تدخلت السلطات ونقلته من بينهم .
لم يعرف امه قط , فقد كان عمره لا يبلغ الساعات عندما تركته في موقف سيارات مخفر للشرطة , وهكذا لم تكن أمه في ذهنه سوي مجرد فكرة , وفي تجواله في هذه الشوارع المقفرة تقريبا , وصل في إدراكه إلي أن هذه الفكرة , علمه بقدرها , هي التي جعلته يمضي طوال هذه السنوات في الكراهية . كان هجران أمه له مؤلما نظريا فقط , وإلا فكيف يفتقد شيئا لم يعرفه قط ؟ ولكن ان يفصل جبرا عن والديه بالحضانة اللذين أحباه , كان شيئا حقيقيا تماما , لقد قتلت تلك الحادثة شيئا في نفس جيرالد , قتلت قدرته على الحب , أو هذا ما كان يظنه إلى أن قابل بيتر وروني .
ابتدأت ظلمة الليل تبهت حين أخذ الفجر يصبغ السماء بألوان البرتقال المتدرجة من الليلكي حتى الأحمر , ووقف جيرالد في واجهة فندق كارلتون ثم رفع بصره إلى النافذة التي ظن أنها قد تكون نافذة غرفتهما , وقد أثقل صدره , وخلفه كان الشارع قد دبت فيه الحياة بسبب أولئك الذين لم يكن نهار الأحد يمثل يوم عطلة لهم , فكانوا يسوقون سياراتهم نحو العمل . مرت حافلة ركاب مخلفة رائحة الوقود في أثره , ومن مطعم الفندق صافحت خياشيمه روائح الصبح اللذيذة .. من القهوة الساخنة والخبز الكروي , والبيض واللحم المقلي . 
وتحركت معدة جيرالد تذكره بأن وقتا طويلا مضى منذ تناول عشاء الزفاف الخفيف الليلة الماضية , هذا وما زال واقفا وقد أصعقه أن يكتشف ان قابليته للحب لم تمت في نفسه على الاطلاق وإنما كانت لاتعدو أن تكون هامدة هاجعة .
وان تلك المرأة هناك خلف النافذة التي كان يحدق إليها قد أيقظت ذلك الشعور .
أشاح بوجهه عن المبني , ثم ابتعد يوليه ظهره وكأنه بذلك يولي روني ظهره , والذي كان ما يريده بالضبط , هذا اذا سنحت له فرصة الخروج من ذلك الوضع الذي وضعه الحظ فيه , لم يكن يريد ان يشعر نحو روني بأى شعور عميق , لم يكن بإمكانه احتمال أي نوع من مشاعر الحب , فقد كانت تلك الخسارة الأولي لحبه منذ سنين قد هدت كيانه , وأن يخسر حبه مرة أخري سيحطمه نهائيا .
فلماذا يغامر إذن ؟ ومن يريد المزيد من الآلام النفسية ؟ من المؤكد انه ليس هو من يريد هذا .. فقد حصد من وراء ذلك كل التعاسة التي يمكن ان يحتملها في حياته , وهو جيرالد مارسدن سوف يبقي بعيدا .. سيضع غطاء على مشاعره ويخرج من حياتها ومن كل هذه الورطة , ما دامت الفرصة سانحة لذلك .
*************************
" جيرالد ؟ " وتمطت روني في فراشها شاعرة بالسعادة وهي تستيقظ باسمة , انها متزوجة الآن من رجل رائع .. وهي قد أمضت اكثر ليالي حياتها سعادة وذلك بين ذراعي من تحب .
انقلبت على جبنها وقلبها يخفق في انتظار رؤيته , ولكن تلك الخفقان ما لبث أن تلاشي وهي ترى ملاءات السرير مكشوفة والوسادة خالية .. كان قد رحل .
وتملك روني خيبة الأمل وهي تنهض جالسة .. آه , الحمام . فيا للغباء , لابد انه في الحمام .
تصاعدت ضحكة من بين شفتيها ودفنت وجهها في الوسادة وهي تعنف نفسها بقولها ان عليها أن تهجر هذه المشاهد العاطفية المسرحية , وإلا فستصل بنفسها وبزوجها إلى الجنون .
زوجها .. وابتسمت روني حالمة .. زوجها جيرالد .. عادت تنقلب على ظهرها وهي تنصت إلي صوت تدفق الماء في الحمام , وإذ لم تسمع شيئا أجفلت .. ولكن كلا .. انه سيخرج خلال دقيقة .
وانتبهت فجأة إلى ان منظرها عند الصباح لا يسر , فقفزت من السرير وارتدت معطفها المنزلي ثم اندفعت نحو المرآة .
آه , وتملكها الإشمئزاز وهي تغمض عينيها لحظة وتتساءل لماذا في القصص والافلام العرائس دوما متألقات رائعات الجمال عند الصباح , بينما تبدو هي وكأن هناك من هاجم شعرها بخفاقة البيض ودعك وجهها بمعجون شاحب اللون .
زفرت باستياء وقربت وجهها من المرآة وهي تحرك زاويتي عينيها بأناملها بعنف , ثم تبتلع خديها وتقول بلهجة إغراء : " هذا أحسن كثيرا , يا حبيبي .. " ثم لا تلبث أن تعود إلى طبيعتها وهي تمد يدها لصورتها في المرآة قائلة : " يالك من معتوهة "
أدارت ظهرها إلى المرآة واخذت تفسك بإصبعها خصلات شعرها المتشابكة وذلك في الوقت الذي انفتح فيه الباب ودخل منه جيرالد ..
ما عدا انه لم يكن باب الحمام ذاك الذي دخل منه .
أخرست المفاجأة روني , ولكن ذهنها ما لبث ان اخذ يحدثها دون اكتراث .. حسنا , لقد كان في الخارج .. وماذا في ذلك ؟ وبصرخة سرور , اندفعت لترحب به .
" صباح الخير .. يا جيرالد .. "
كان ثمة شيء غير عادي , تجعد بذلته , قميصه غير المقفل بشكل كامل كما انه دون ربطة عنق , كان جيرالد يبدو منهكا , متعبا وقد عاد وجهه إلي التهجم .
" مرحبا " ولم يكد يلقي نظرة عليها وكان يدرك ما في تصرفه هذا من قسوة , ولكنه لم يجد طريقة أخري يبعدها بها عنه وهو يتجه إلى الحمام مباشرة وهو يقول : " لماذا لا تطلبين لنا بعض القهوة ريثما استحم بسرعة , انني اريد الخروج من هنا في أسرع وقت ممكن "
" ولكن " كان تسليم الغرفة عند الظهر , وكانت ترجو أن ..
" ان علي أن أذهب للعمل "
" العمل ؟ " لم يكن على جيرالد أن يعود إلى عمله في البناء إلى حين إشعار أخر , فقد كان العمال يقومون بإضراب ..وكانت خطته ان يستفيد من هذه الفرصة ويقدم طلبا إلى بعض الشركات الهندسية في المدنية .
" ولكن اليوم هو الأحد و .."
فتمتم يقول : " نعم , حسنا , مازال هناك بعض العمل على ان انجزه فى مخزن العتق "
وغابت بقية كلماته وهو يغلق باب الحمام بنفس العنف والحسم الذي اغلقه به الليلة الماضية , وكما فعلت روني حينذاك وقفت الآن تحدق في بياض الباب الجاف والرعب يزحف في كيانها .
لقد حدث أمر سيء , مرة أخرى , فهو يطردها من حياته .. مرة أخري , ومرة أخرى أخذت تفكر في ما ينقصها .
جمدت مكانها لحظة ما لبثت بعدها أن اخذت تفكر .. كلا , تبا لذلك .. ليس هذه المرة ! ثم دخلت إلى الحمام في أثره .
التفت جيرالد وقد أدهشه أن يسمع الباب خلفه يفتح وروني تدخل قائلة بصوت رنان وقد توهجت عيناها : " والآن .. ما الذي يحدث ؟ "
استمر جيرالد في خلع جوربيه , مبقيا ملامحه جامدة دون أن يبدو عليه اي تاثير عدا عن رفعه حاجبه بخفة , محافظا على هدوء ظاهري زائف .
تقدمت روني شاحبة الوجه , وأمسكت بكتفه , ما جعله يفقد توازنه , ثم أرغمته على إنزال قدمه , وهي تقول بانفعال : " أريد جوابا , إذا لم يكن لديك مانع "
حدثته نفسه أن يمثل دور الغبي , فاجاب : " جوابا لأي شيء ؟ "
أخذت تتأمله مليا , لقد أمضيا معا ليلة رائعة , ولكنه الآن ينظر إليها وكأنه ينظر إلى شخص غريب , إنطفا غضبها بنفس السرعة التي اشتعل بها , وفكرت باكتئاب في أن تصرفه هذا ليس إعادة لتصرفه ذاك الليلة الماضية , إنه الآن اكثر جدا وتصميما وحسما , عصر الحزن قلبها , ولكن رغم انها كانت متلهفة إلى أن تطلب منه أن يمنحها وقتا وفرصة , إلا أنها لم تخرج عن أن همست له بألم : " لماذا ؟ "
كان جيرالد , وهو يقف متجلدا أمامها , ينزف دما في داخله . هو أيضا , فقد كان منظر روني مرتبكة متألمة , يمزق مشاعره , ولكن كل ما كان بإمكانه ان يفعل , أو بالاحرى ما عليه أن يفعل , هو أن يلتزم موقفه هذا , محتفظا بالدرع الواقي له والذي كان صمم عليه خلال طوافه الطويل أثناء الليل , فإذا تركها تمزق هذا الدرع مرة أخري , فهو لن يستطيع أن يعيده بعد ذلك أبدا , وهذا ما سيكون مخاطرة كبري .
قال بهدوء : " اسمعي , يا روني , إنني أعرف انك لا تفهمين سبب تصرفي هذا , حتي انني أنا نفسي لا أفهمه , وآسف إذ اتصرف هنا بهذا الشكل , ولكن الحقيقة هي أنني حاولت ولكنني لا استطيع أن اقوم بمشهد المودة والإلفة "
وإذ لم يستطع احتمال تأملها الكئيب به , أدار ظهره إلى الألم الذي كان يتدفق من عينيها ثم فتح صنابير المياه لتتدفق هذه بكل قوتها .
ثم قال يتحدث خلال خرير المياه : " ان ما لدينا هنا هو زواج قائم على مجرد الاقتناع وهو سينتهي حالما يصبح ذلك ممكنا من الناحية الإنسانية , وقد قررت أن من الأفضل لجميع الأطراف المعنية إذا نحن أبقينا زواجنا بشكل صوري أثناء ذلك "
" فهمت "
كان ما دمر كيانه هي الكرامة الهادئة التي تجلت في جوابها هذا , فتهاوت كتفاه وسقط رأسه على صدره وهو يطلق شتيئمة بذيئة : " تبا لكل ذلك , يا روني .. من تراني اخدع ؟ حقيقة الأمر هي .. " والتفت ينظر إلى وجهها وهو يقول : " اننى وقعت في غرامك وهذا ما جعل الرعب يتملكني حتى الموت " ولكن روني لم تكن في الحمام وهو يقول ذلك .

أب بالصدفة_آن بيتزر_ روايات عبير دار النحاس  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن