الفصل الرابع

6K 143 2
                                    

ساعدت فيرونيكا جيرالد تلك الليلة بطرق لم تكن تعرفها من قبل فقد جهزت مكانا لنوم الصبى واطعمته بيدها وعندما عادت لويزا مع النزلاء الى النزل اخبرتهم بالامر بشكل تمهيدى دون ان تكشف عن اى سر قد لا يريد جيرالد الكشف عنه
كانت قد قالت له " ان لك انت ان تخبرهم عن ماضيك وفى الوقت المناسب الذى يناسبك واذا لم تشا ان تنطق بكلمة فانا احترم قرارك هذا ايضا واعدك بان لا يعلموا بشئ عن طريقى "
كان جيرالد شاكرا لها كل ما قامت به طبعا ولكن الذى جعله مدينا لها مدى الحياة ذلك الوعد منها بحفظ سره فالضعف والخوف اللذان كانا تملكانه جعلاه بحاجة ماسة الى سماع مثل تلك الكلمات رغم انه كان يعلم ان ليس له الحق فى ان يتوقعها فقد كانت كلماتها ووعدها له تنبئ عن ثقة لها به فى مزاياه فى استقامتها ثقة كانت تفترض بل تسلم بانه هو المجرم السابق يمكنه ان يكون موضع ثقة بان يتصرف بشرف وامانة
كيف يمكنه ان يشكر فيرونيكا سايكس على ذلك ؟ كيف يمكنه ان يعبر لها بالكلمات عما فعلت ثقتها به وشهامتها ومساعدتها له فى نفسه ؟
لم يكن يستطيع ذلك لم يكن يملك الكلمات اكثر مما يملك من الشجاعة للغوص فى اعماق نفسه مفتشا عنها ان المرء يصل الى اعماق نفسه مفتشا باحثا ولكن لا احد يعلم ما عسى ان يخرج منها الى ضوء النهار ليراه الاخرون وعند ذلك ما اسهل ان يصاب بجرح فى كرامته
اخذ يحدق الى السقف الذى كان مغطى بنقوش رسمها ضوء القمر بتسلله من خلال الستائر الدانتيل المسدلة على نافذته وهو يستمع الى الاصوات الخافتة غير المالوفة لانفاس الطفل الذى كان راقدا فى سرير صغير فى غرفة جيرالد وكان هو يعلم ان جرح كرامته هو احتمال متوقع تماما ولانه وجد نفسه يتساءل عما اذا كان الصبى دافئا تماما فى ذلك السرير ويفكر فى اشياء يمكنه ان يعلمه اياها ويريها له ويشاركه فيها كل ما كان افتقده هو واشتهاه عندما كان طفلا لانه وجد نفسه يريد ان يمنح هذا الصبى ما لم يستطع هو الحصول عليه فان عليه ان يكون حذرا للغاية لانه اذا زاد من صلته بالصبى واعتاد عليه فكيف سيكون شعوره اذا حان الوقت لكى يعيده الى جدته
ان عليه ان يعيده اذ لم يكن ثمة سبيل يجعله يحتفظ به ليس والده واستدار فى فراشه عابسا مديرا ظهره لسرير بيتر فهو لا يريد ان يكون ابا على كل حال
*************
عندما كانت فيرونيكا مراهقة ثائرة كانت تكره كالوباء تبادل الاحاديث الحميمة مع عمتها لويزا ولكنها الان وقد بلغت السادسة والعشرين لم يعد لديها مثل هذا الشعور بالكراهية وفى الواقع منذ سنوات اخذت هى وعمتها باختزان كل ما لديهما من احاديث واقاويل لتتبادلاها ليلا وكانتا حريصتين على ان لا تفوتهما وكانتا تقومان بشكل عفوى ودون اى تخطيط سابق
قد يحدث شئ ما او ربما لا يوجد فى الافق ما يمكن توقعه ولكن ما ان تحين الساعة الحادية عشرة وكل انسان قد دخل حجرته حتى تفتح رونى باب غرفتها وتتسلل منها على اطراف اصابعها مرتدية منامتها ومعطفها المنزلى مجتازة الردهة الى غرفة لويزا حيث تجلس بارتياح اسفل سرير عمتها القديم الطراز وقد دست قدميها تحت اللحاف ما عدا ان المراتين امضتا لحظة طويلة تتاملان بعضهما البعض بصمت
واخيرا قالت لويزا " انا فخورة بك يا عزيزتى فقد تعاملت مع ذلك الصبى المذعور وكانك مربية محترفة "
" حسنا فانا معلمة "
" وكذلك ديد هاريسون ولكن هذا لم يجعله محبا دافئ المشاعر مثلك ام تراه اصبح كذلك الان "
" كلا " قالت رونى ذلك ضاحكة فقد كان هاريسون صديقا وكان يعلم الرياضيات ولعبة كرة السلة وكان له تصرفات وخشونة العسكرى
وتابعت لويزا تقول " وكذلك عالجت امر جيرالد ايضا انه يبدو لى شابا بالغ الكدر والانزعاج "
لم تجب رونى وماذا عسى ان تقول ؟ فقد كانت لويزا على حق عضت رونى شفتيها وخفضت بصرها تمنت لو تستطيع ان تفضى الى عمتها بما تعرفه عن ماضى جيرالد وتسالها المشورة كان هذا هو سبب قدومها الليلة كما ادركت الان ولكنها عندما وصلت الى هنا انتبهت الى انها لن تستطيع التفوه بكلمة فهى قد وعدت جيرالد ولكن الانزعاج كان يتملكها وكذلك عدم الاطمئنان
اتراها قامت بالعمل الصائب عندما اخبرته ان بامكانه البقاء هنا فى هذا النزل دون ان تناقش الامر اولا مغ لويزا والاخرين ؟ ذلك ان حياتهم ستتاثر سلبا كحياتها اذا ما اخفق جيرالد فى العيش تبعا للثقة العمياء التى وضعتها فيه
وبالعودة الى بيتر الصغير اما كان عليها ان تستشير سكان النزل الاخرين قبل ان تسمح له هو الصبى الصغير بان يصبح شخصا منهم هو ايضا والسيدة هنكز العجوز لم تنجب اولادا قط ودوما كانت تظهر نفورها منهم فكيف سيكون شعورها عندما تجد صبيا صغيرا يلعب امامهم لمدة لا يعرف مداها احد ؟
نظرت رونى الى عمتها وهى تتنهد " لا ادرى يا عمتى ... اترانى فعلت الشئ الصواب "
" باى شان ؟"
" ان تركتهما يعيشان معنا ؟"
" طبعا يا حبيبتى والى اين كانا سيذهبان اذن بالمناسبة لقد وافق الاخرون على ذلك "
" حسنا هذا مبعث راحة على كل حال " وسكت لحظة ثم عادت تقول عابسة " وحتى مع ذلك لا استطيع الا ان تتساءل لم تكن الام هى التى احضرت بيتر الينا بل الجدة لقد كان جيرالد اخبرنى ان والدة بيتر من كاليفورنيا فهل سبق وسمعت عن مدينة هناك تدعى بيستو يا عمتى ؟"
فقطبت العمة حاجبيها " بيستو ؟ لا اظنك تعنين مدينة فريستو "
" كلا بالطبع فالاسمان غير متماثلين لفظا وعلى كل حال فقط قال بيتر انه يعيش مع جدته فى بيستو " قلبت رونى شفتيها وهى تتابع قائلة " حسنا يمكن ان يكون هذا الاسم فى اى مكان اخر " وسكتت وهى تختار كلماتها بعناية كيلا تفضح اى سر " لقد اخبرنى جيرالد ايضا ان صداقته لمارسى والدة بيتر كانت شريفة وانها كانت تحبه وتحترمه لهذا السبب "
فلوت لويزا شفتيها ساخرة " يا لها من طريقة تثبت بها امراة لرجل حبها واحترامها وهو ان تلصق به ولدا ليس من دمه "
فنظرت رونى الى عمتها مفكرة " انا اعلم ان هذا يبدو غريبا ولكننى اظن ان هذا بالضبط ما كانت مارسى تريد ان تفعل وذلك بجعل جيرالد مارسدن والد طفلها فى شهادة الميلاد ... ان تريه انها تحبه وتحترمه "
فقالت لويزا وكانها تحدث نفسها " لا ادرى اذا كان جيرالد يعتبر هذا الامر بهذا الشكل "
سكتت المراتان لحظة طويلة تفكران ثم قالت لويزا " هل ما زلت غاضبة منى لاننى اجرت الغرفة لجيرالد يا عزيزتى 
نظرت رونى الى عمتها بحيرة فقد كانت افكارها بعيدة عن هذا الموضوع اذ كانت تبحث عن طريقة تريح بها الرجل والطفل فى علاقة مشتركة جيدة للطرفين وقالت " ماذا تعنين ؟"
" لقد كنت تكرهين وجوده تماما "
فبدا الضيق على وجه رونى " اه كان ذلك لاننى ادركت قصدك "
سالتها لويزا ببراءة " قصدى ؟ وماذا كان ذلك ؟"
" لم يكن قصدا حسنا وهذا ما يعنيه لى التوسط فى الزواج فانت تعلمين كم اكره ذلك يا عمتى اعنى لو اننى اريد التعرف الى الرجال اما كان بامكانى ان اخرج واتعرف اليهم بنفسى ؟ فالرجل لا يدور حول المنزل لكى تاتى انت وجماعتك لكى تقتنصوه من الشارع "
فقالت لويزا بدهاء " ولكن الامر نجح معنا اليس كذلك ؟ فانت تجلسين هنا قلقة بشانه بينما منذ اسبوعين فقط قلت انك تريدين التخلص منه "
" انك حقا محدودة الذهن يا عمتى كيف احاول التخلص من رجل واقع فى مثل هذا المازق الواقع فيه جيرالد حاليا ان تصرفي معه الان مجرد تصرف انسانى لا غير "
" وفيما بعد ستقولين ان جيرالد هو فقط احد اهدافك "
فهزت رونى كتفيها متظاهرة بعدم الاكتراث " حسنا انه فقط احد اهدافى "
" اذا كان هذا قولك فذلك يعود اليك " ما لهذه المراة تثير فيها كل هذا السخط ؟
وتملكها السام فانفجرت غاضبة " نعم هذا هو قولى وحيث اننى كنت ضد وجوده هنا منذ البداية فليس هو الذى اغضبنى وانما انت وكذلك الاخرون كلكم كنتم تعلمون جيدا اننى لا اطيق ان يتحايل على احد بهذا الشكل وكنت اظننى اوضحت تماما ان حياتى تعجبنى تماما كما هى "
مدت لويزا يدها تمسك بيد رونى " ولكنها غير طبيعية يا حبيبتى اننى اتذكرك وانت طفلة تلعبين لعبة البيوت مع الدمى فتضعين ستارة بيضاء قديمة على راسك ما يمثل نقاب العروس جاره معك رالفى برمان المسكين دوما كنت تريدين ان تتزوجى يا رونى وينبغى لك ذلك انك مغرمة بالاطفال وهذا ما جعلك تصبحين معلمة مدرسة "
فقالت رونى " ولكننى لم اعد اعلم يوميا كالسابق ان الناس يتغيرون وكذلك الامانى "
" ولكن امانيك لم تتغير الا بعد ان اتخذنا نزلاء "
" هذا صحيح " قالت رونى ذلك بلهجة حسمت فيها الامر وهى تعلم انها اذا لم تضع نهاية لهذا الحديث العبثى فستستمر لويزا فى الكلام حول هذا الموضوع الذى هو المفضل لديها فتابعت تقول " وما حاجتى الى زوج واولاد يبعثون الجنون فى عقلى بينما عندى انت والاخرون يقومون بهذه المهمة بدلا منهم " ثم جذبت يدها من قبضة عمتها المتراخية وهى تضيف " هذا هو الصواب "
" بل هذا خطا "
" عمتى "
فقطاعتها لويزا " كلا بل اسمعينى لقد خطر لى خاطر مفاجئ الان وهو " ثم حملقت فى ابنة اخيها " هل انت لا تريدين الزواج لاجلنا ؟"
" حسنا "
" ما معنى حسنا هذه نعم ام لا "
فهزت رونى كتفيها عابسة " نعم ولكن نوعا ما اعنى اذا تزوجت فمن الذى سيرعاكم جميعا "
فهتفت لويزا " ومن يهمه هذه ؟"
" يهمنى انا " واخذت رونى تفرك جبينها شاعرة ببوادر صداع لم تكن تريد ان تبحث فى شوؤن كهذه الليلة او فى اى وقت فقد كانت قررت امرها فى هذا الشان منذ ثلاث سنوات عندما
سالتها عمتها بحدة " هل ذلك يتعلق بخطيبك السابق سكوت ميلر "
" انا لا..... "
" لا تعبثى بى يا رونى " ومالت الى الامام تحدق فى ابنة اخيها " والان اريد الحقيقة هل كنا سبب فصم خطبتك لسكوت ؟"
فتنهدت رونى " جزئيا "
" هل لك ان تتكلمى بالتفصيل ؟"
كان واضحا ان العمة لويزا قد جنت وكانت رونى اكثر حكمة من ان تحاول التملص او المراوغة عندما تكون عمتها فى هذه الحال ومع ذلك فقد حاولت ذلك بقولها " كل ذلك اصبح شيئا من التاريخ القديم يا عمتى اما ما ..."
" فيرونيكا سايكس ..."
فقالت رونى باستياء " اه لا باس لقد كان عمل سكوت خارج الولاية فاخبرته باننى لا يمكن ان اترك هذا النزل الذى اديره وهكذا انتهت قصتنا " وحملقت فى عمتها " هل انت سعيدة الان "
لكن لويزا لم تبد سعيدة وانما العكس تماما فقد بدت مسحوقة وبقيت خرساء لا تستطيع النطق لحظة طويلة واخبرا اغمضت عينيها وقد توترت شفتاها ثم اخذ تهز راسها ببطء وعندما عادت ففتحت عينيها ناظرة الى رونى كانتا تتالقان بالدموع
" اة يا فيرونيكا " كان هذا كل ما نطقت به ولكن باسى جعل الدموع تنبثق من عينى رونى ايضا وبصرخة ذعر اندفعت نحو عمتها تعانقها " ارجوك يا عمتى لا تبكى فهو امر لا اهمية له "
" بل له كل الاهمية " وغطت لويزا عينيها بيدها
" كلا ابدا اسمعينى " وجذبت رونى يد عمتها عن عينيها لكى تستطيع الرؤية جيدا " ما حدث هو الافضل صدقينى فقد ادركت منذ مدة طويلة اننى لم اكن احب سكوت حقا اعنى بعد فصم الخطبة هل رايتنى ابكى واو مرة واحدة بسبب ذلك 
" كلا ولكن "
فاسكتت رونى عمتها عن الكلان باصبعها " ثم الم يتزوج هو بعد اربعة اشهر فقط من افتراقنا ؟" وعندما اومات لويزا موافقة قالت رونى " ترين اذن انه هو ايضا لم يكن يحبنى حقا والان "
استقامت رونى فى جلستها قائلة " ساقول هذا مرة واحدة فقط ثم نلغى هذا الموضع من بيننا الى الابد اتفقنا "
فاومات لويزا براسها وقد بان الشك فى عينيها " هيا قولى "
" انت والاخرون تؤلفون اسرتى وانا احب كل فرد منكم ولا اريد ان افترق عنكم قط "
" ولكن يا رونى "
" كلا يا عمتى فانا اعرف ما تريدين قوله وهو انكم جميعا ستتركوننى يوما ما ولكن لن يحدث هذا مرة واحدة فكلما خرج من عندى احد سيحل مكانه شخص اخر ارعاه واعتنى به قد اكون فتاة غريبة الطباع ولكننى حقا احب الناس المسنين "
فقالت عمتها وقد بدت المحبة فى عينيها " نعم انت تحبينهم جدا "
" وانا حقا احب عملى معهم واريد الاستمرار فيه والزواج الوحيد الذى اقبل به هو اذا كان الرجل يقبل الانتقال للعيش معنا جميعا هنا فبالنسبة الى انا اعتبر اننا جميعا كتلة واحدة يا عمتى الكل او لا شئ "
وقبلت رونى عمتها وهى تبتسم لها بمحبة وهى تقول متفلسفة " وما دام لا يوجد كثير من الرجال يقبلون بهذه الشروط " وهزت كتفيها " ان حياتى هى هذه وانا لا احتاجهم على اى حال "
نزلت من السرير وتثاءبت وهى تقول " لشد ما انا متعبة "
ما ان استسلمت فيرونيكا الى الرقاد حتى سمعت طرقا خفيفا على بابها فاستقامت جالسة على الفور لا بد ان احد النزلاء مريض
" ادخل " وامسكت بمعطفها المنزلى تضعه فوق قميص نومها وما زال النوم فى عينيها ثم اندفعت تفتح الباب ولكن لتجد نفسها وجها لوجه امام جيرالد مارسدن على العتبة
همس يقول " اسف لايقاظك ولكن ..." ولم يكن من الاسف بحيث يفوته منظرها بشعرها الاشعث القاتم اللون المتناثر حول ملامحها الناعسة سواقيها الطويلتين المتناسبتى التكوين والباديتين من تحت منامتها القصيرة
وكانت تقاطعه قائلة " ماذا هناك ؟"
كانت اخر بقايا النعاس تتبدد مع خفقان قلبها المتسارع وهى ترى جيرالد مارسدن واقفا عارى القسم الاعلى من جسمه وقد بدت عضلاته القوية التى صبغتها الشمس وعادت تساله " ماذا حدث ؟"
فاجاب وهو يرى انه ما كان له ان ياتى الى هنا " انه الصبى وهو يحدث جلبة " وتراجع خطوة وهو يرى شعورا غير مستحب بالرغبة يثور فى نفسه نحو رونى وهو يراها بهذا المنظر
" انا ... انا اسف " وعاد يتراجع خطوة اخرى " اظن الامر غير ضرورى تصبحين على خير يا انسة سايكس "
تصبحين على خير يا انسة سايكس ؟ وخرجت الى الردهة تناديه " انتظر لحظة هل قلت ان بيتر يبكى "
" ليس تماما وانما يشنج بصوت خافت "
" انا قادمة لاراه " واسرعت تهبط السلم 
" كلا لا تفعلى " ولكنها فى لحظة كانت قد اصبحت فى غرفته بجانب سريره ومع انها كانت تدخل غرفته كل اسبوع لكى تنظفها وتغير ملاءات السرير الا انها شعرت الان فجاة بالخجل من وجودها هناك بجانبه وكان هو يقول " لا باس يمكننى ان ...."
واذ راها لا تستمع اليه اطلق شتيمة خافتة تبا لهذا الصبى الذى وضعه فى هذه الورطة ما الذى يبكيه على كل حال ؟ انه ليس الذى يمكنه ان يتحمل هذه المسئولية التى لم يكن يريدها ولا يعرف كيف يسير بها
كلا ولكنه الصبى وجد نفسه ملقى فى هذا المنزل الغريب مع اناس غرباء ورجل غريب مفروض فيه ان يكون والده فلو كان هو مكانه الا يبكى هو ايضا ؟
وهكذا وقف يحك رقبته بينما انحنت رونى على سرير الصبى وهى تتمتم " هس يا بيت " ثم اخذت تمر بيدها على جبين الطفل وشعره بحنان وهى تدندن بصوت منخفض باشياء غير مفهومة بدا انها بعثت فيه الهدوء والاطمئنان
اخذ ينظر اليها مفكرا فى كل ما افتقده فى طفولته ... وما زال يفتقده حتى الان ... وخنقته المشاعر المؤلمة الحب الكره الحنين الرفض الغضب ... الغضب الرهيب على الدوام ... كل ذلك المزيج من المشاعر كان يشكل فى حلقه غصة لم تكن تنتهى ... غصة كبيرة لم يكن يستطيع لا ابتلاعها ولا لفظها
امه ... كم كان يتمنى لو انها كانت الان تهلك فى تعذيب الضمير
اين كانت امه تلك عندما كان يبكى كل ليلة تقريبا الى ان ينام اين كانت عندما كاد يموت مرة لاصابته بالتهاب السحايا وكان يبكى طوال الوقت يناديها ؟
اين كانت عندما كان يطوف الشوارع تاكله الوحدة والجوع والبرد بينما لم يكن يكبر هذا الصبى بكثير وهو يحاول الابقاء على حياته قدر إمكانه ؟
اين كانت ؟ ولماذا لم ترغب به ؟ لماذا لم تحبه كما تحب كل ام طفلها ؟ لماذا لم يحبه احد على الاطلاق ؟ وراته رونى يحدق اليها بشكل غريب غاضب
" جيرالد "
" ماذا ؟"
حتى صوته بدا غاضبا كذلك
تركت سرير الطفل واتجهت اليه ثم وقفت امامه ولكن ما راته الان فى نظراته لم يكن غضبا كما كانت ظنت ولكنه كان الما حقيقيا ما جعلها تشهق وتوشك ان تمد يدها تلاطفه وترفه عنه كما فعلت مع بيتر الصغير هذا لا يمكنه سوى ان يحلم بذلك ويبكى لاجله
هو وبيتر الصغير
وهزه هذا ؟ هو وبيتر من نوع واحد ليس فى الدم بالطبع ولكن رغم هذا هما متماثلان فى اشياء كثيرة هو وبيتر وهذه الليلة فى هذه الغرفة لم يكن هو الشخص الغريب من الثلاثة بل فيرونيكا 
قال لها بجمود " اشكرك لمجيئك للاطمئنان على الصبى واسف لازعاجك "
" لا تكن سخيفا " واحكمت معطفها حول جسمها وقد جرحها تغير موقف جيرالد ولكنها ما لبثت ان اخذت تخفف الامر عن نفسها وذلك بتذكيرها بان لدى جيرالد الكثير من المشاكل حاليا ولا يدرى احد اى امر من الماضى يشغله الان واخر ما هو بحاجة اليه هو ان تمثل امامه دور جريحه الكرامة
قالت وهى تتجه الى الباب بينما تحول هو جانبا لتمر " اظنه احسن حالا الان والا فارجوك ان لا تتردد فى العودة لابلاغى "
" بل ساتدبر انا الامر "
فقالت باسمة " انا واثقة من ذلك تصبح على خير "
" تصبحين على خير "
**************
كان افطار صباح كل سبت فى النزل ادسم من المعتاد لم يكن يحتوى ايا من الخبز المحمص او مغلى الحبوب او البيض المقلى فهذه الاشياء يتناولونها يوم الاحد او فى ايام الاسبوع كان افطار يوم السبت يتالف من الكعك المقلى المنقوع بالقطر او السجق وكعكة ثمار الفراولة او انواع العجة المختلفة كان افطار هذا الصباح يتضمن الكعل المقلى مع القطر 
كان كل شخص جالسا حول مائدة المطبخ يشرب العصير والقهوة بينما يتحدثون عن هدوء الصبى وعدم سماعهم اى حركة منه طوال الليل
قالت العمة لويزا وملامحها تتحدى السيدة هنكز ان تقول العكس " انه صبى غير مزعج "
فقالت السيدة هنكز " ما زال الوقت باكرا للحكم عليه فقد رايت الكثير ممن هم فى السادسة اثناء عملى فى المكتبة "
" لكن الصبى فى الخامسة "
" ودعينى اخبرك انهم اوغاد صغار "
فقال ليو " الاولاد هو الاولاد على الدوام " فقال القاضى كانينغهام " ولكن طبعا ليس كل الاولاد متماثلين فقد واجهت حالات " فقاطعته رونى " تعال وخذ كعكتك يا سيدى القاضى وانت بعده يا سيدة هنكز "
كانت رونى تضع على الموقد مقلاتين للكعك وكانت مشغولة بسكب مزيج الدقيق والبيض والحليب عندما قالت "لماذا لا تذهبين يا عمتى لكى ترى ما الذى اعاق ..."
" صباح الخير "
وكان هذا جيرالد داخلا المطبخ وقد زاد الاستحمام من حسن مظهره ما شتت افكار رونى لحظة قالت بعدها وهى تتمالك نفسها " اه مرحبا ها أنت ذا اخيرا تناول شيئا من العصير والقهوة ريثما اسكب مزيدا من المزيج فى المقلاة "
" لم يقبل الصبى الخروج من الحمام "
" ماذا ؟"
" لم يقبل الخروج من ...؟
" ما الذى حدث "
كان الجميع يتحدثون فى نفس الوقت بينما كانت السيدة هنكز تقول بغرور " ارايتم ؟ ها قد ابتدا الازعاج الم اقل لكم ؟"
بينما العمة لويزا تتمتم بعطف " يا للصغير المسكين انه خائف "
فقال جيرالد لرونى بصوت علا على الصخب الذى اخذ يدور " لقد قلت له ان يذهب الى هناك ويغسل يديه ووجهه ولكنه الان لا يريد الخروج "
واذ اخذت تحدق اليه شمت حريق فاخذت تشتم واسرعت تقلب لكعك وهى تقول " ما الذى فعلته له ؟"
فقطب جبينه ورفع راسه " ما الذى تعنينه ؟"
كومت رونى الكعك فى طبقى القاضى والسيدة هنكز وهى تعض شفتها مذكرة نفسها بان تتلطف فى الحديث " كنت اعنى فقط انك اذا كنت وقفت بقربه تحملق فيه بالطريقة التى تحملق فيها الان فى وجهى فلا عجب اذا هو اختبا منك"
وكان هذا كل ما امكنها التلطف به
فقال عابسا " انا لم اقل انه اختبا منى كما اننى لم احملق فيه كل ما قلته هو ان من الافضل له ان يخرج من الحمام نشيطا مرحا الا فلن يحصل على فطور "
" هذا جميل " والقت عليه نظرة ذات معنى وهى تقدم الكعك الى عمتها والسيد ليو ثم تسكب مزيدا من المزيج فى المقلاة ثم قالت وهى تناول جيرالد الشوكة " خذ هذه وانتبه الى الكعك بينما اذهب انا لاتحدث الى بيتر اياك ان تحرقه فهو لك "
قابلت الصبى فى منتصف السلم فجمد الاثنان دون حراك لا تفصل بينهما سوى عدة درجات فقالت فى بشاشة " حسنا مرحبا يا بيتر " كانت ادنى منه بدرجتين ما جعلهما فى مستوى واحد من الطول تقريبا وكان واضحا تماما انه مهما كان نوع عمل بيتر فى الحمام فالغسل والتمشيط لم يكونا جزءا من ذلك العمل وعلى كل حال فقد كانت اثار الدموع واضحة على وجهه الصغير فقالت له برقة بالغة " كنت قادمة لارى ان كنت تريد مساعدة ما فى الحمام "
فتوترت شفتا بيتر ثم نظر اليها مترددا
فمدت يدها اليه وهى تقول " اظن ولدا كبيرا مثلك يستطيع ان يغسل وجهه ويديه بنفسه هل فعلت ذلك ؟"
وعندما عاد بيتر ينظر اليها صامتا ابتسمت له مشجعة عند ذلك هز راسه وهو يهمس " لم استطيع "
فكرت رونى فى ذلك اللحظة ثم مطت وجهها وضربت جبهتها بكفها " اه انك طبعا لا تستطيع ذلك ماذا جرى لى ؟ فانت بحاجة الى كرسى صغير تقف عليه اليس كذلك ؟ فتلك الصنابير عاليه بالنسبة الى صبى صغير "
وصعدت السلم ممسكة بيد بيتر عائدة الى الحمام وهى تتابع قائلة " عندما جئت الى هنا كنت صغيرة مثلك وقد واجهتنى نفس العقبة فوضع لى العم جورج كرسيا صغيرا " وسكتت لحظة وهى تنظر اليه متسعة العينين " هل رايت مخزنا للاشياء العتيقة ؟"
فهز بيتر راسه مترددا وما زال الخجل مسيطرا عليه ولكن السرور تملكها وهى ترى الكابة قد حل مكانها اشراقة الاهتمام
فقالت وهى تجره الى نهاية الردهة " لا اظن ذلك " وفتحت بابا صغيرا
" حسنا احمل من هذا ما تريد يا بنى " وجذبت حبلا متصلا بلمبة ثم وقفت جانبا وقد سرها ان ترق الفضول قد تغلب الان على خجل بيتر بشكل كامل فقالت وهى تبحث عن الكرسى الصغير الذى كان زوج عمتها قد صنعه لها منذ عشرين عاما قالت له " كل هذه هى العابى القديمة من حسن حظك اننى كنت احب الشاحنات والسيارات بقدر ما كنت احب الدمى فاذا كنت تريد يمكنك ان تاتى الى هنا مع .." وسكتت لا تدرى ان كان يمكنها ان تقول " مع والدك او مع بابا او جيرالد "
وجاءهما فجاة صوت رجل من خلفهما " هاى ماذا تفعلان "
اجفلت رونى ثم استدارت فرأت جسم جيرالد العريض يسد الباب بينما ترك بيتر من يده غطاء الة موسيقية لامعا كان ينظر اليه معجبا وقد بدت فى عينيه نظرة مذنبة ثم خبا يديه خلف ظهره وكانه يتوقع ان يضربه عليهما
ثم قال متمتما وعيناه على الارض " قالت لى ان بامكانى ان اتفرج "
فهفا قلب رونى اليه وتبادلت النظرات مع جيرالد ثم انحنت بجانب الصبى واحاطت كتفيه بذراعيها تعانقه مشجعة " اتراهم ارسلوا فريقا للبحث عنا ؟" قالت ذلك ببشاشة ... اى  فقط لتذهب من ذهنه ان فظاظة جيرالد لا تدعو الى الرهبة ثم نهضت واقفة فحملت الكرسى ثم امسكت بيد بيتر تدفعه الى الباب برفق وهى تقول لجيرالد " اننا بحاجة الى شئ يقف عليه عند المغسلة ليتمكن من غسل يديه ووجهه اليس كذلك يا بيتر"
وتعلقت عيناها بعينى جيرالد مرة اخرى وكانها تقول له تحدث مع الصبى برفق " وكنت ارى بيتر مكان الالعاب لكى يلعب بها فيما بعد "
فخرج جيرالد الى الردهة فتبعاه وهى تتابع قائلة " مخزن العتق هذا كان هو المكان المحبب الى فى الايام الممطرة " قالت ذلك وهى تجر بيتر الى الحمام حيث وضعت له الكرسى وفتحت الصنبور
قال بيتر " هذا النهار ممطر "
" نعم هذا صحيح " وناولته الصابونة وهى ترمق جيرالد الذى كان يتسكع في الردهة بنظرة انتصار فقد تكلم بيتر لاول مرة بجملة كاملة ومدت يدها الى المنشفة لتنشف وجهه وهى تتابع قائلة " هذا لحسن حظك اين مشطك يا جيرالد"
" مشط "
" نريد ان نمشط شعر هذا الولد المتلبد " ثم خاطبت بيتر قائلة " يمكنك ان تذهب فيما بعد وتشترى مشطا لنفسك فتنتقى الذى يعجبك "
ونظرت الى جيرالد الذى بدا عليه التردد كما كان بيتر من قبل بينما كان يفتح الدرج ويناولها المشط
وقالت تخاطب الصبى " ما رايك فى مشط ...."
وارادت ان تقول (بابا) ولكنها لم تر فى ملامح جيرالد ما يشجعها على ذلك وهكذا تركت السؤال عند هذا الحد 
واكتسحتها موجة مشاعر جعلت عينيها تغرورقان بالدموع عندما اندفع الاثنان الرجل والصبى يفصحان عن قلقهما بسؤال واحد وفى نفس الوقت " هل ستذهبين معنا الى البحر ؟"

أب بالصدفة_آن بيتزر_ روايات عبير دار النحاس  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن