رغم أن الأيام القليلة التي تلت كانت حافلة بالعمل , إلا أن قلب روني وعقلها كانا فقط على جيرالد , وكانا في صراع بالغ .
لقد قامت بشيء غبي .. فقد وقعت في غرام الرجل الذي سيتزوجها فقط لأجل المصلحة .
أخذ عقلها يحدثها بأن هذا ليس أمرا تافها وإنما هو غاية في الغباء ولا يقوم به إلا قلب اعتاد النزف كقلبها .
حدثها عقلها ساخرا أن ليس عليها فقط أن تساعد الرجل في الخروج من محنته .. ليس عليها أن تمنحه شهرا أو سنة أو اثنتين أو ثلاث من حياتها , بل أن تمنحه قلبها , ولماذا لا ؟
قلبها الحنون على الدوام , كان يحثها على حبه , فهو يستحق الحب ويحتاج إلى أن يكون محبوبا , وفي الوقت المناسب , همس لها , قلبها ذاك , بشوق حلو مر , بأن ذلك الرجل ربما , ربما فقط , سيتعلم كيف يبادلها الحب .. إنما مع مرور الوقت .
حدثها قلبها بالمنطق قائلا إنه رجل عاش مهجورا غير محبوب طوال حياته .. أولا , هجره والده , وبعد ذلك أمه وذلك لأسباب لا يعرفها ولكنها لا بد أن تكون باعثة على اليأس , وبعد ذلك دفعه المجتمع , بعد أن أعاقه الروتين الحكومى , إلي أن يصبح فردا من اولئك الذين عثرت بهم التقدم بعد أن أرغمهم على الخروج على القانون , فعاشوا في المجتمع بصفة أفراد دون انتماء إلى أسرة .
لقد حان الوقت لكي يعلم أنه ليس فردا وحيدا في الحياة . هكذا حدثها قلبها . إنه أنا . إن جيرالد مارسدن محسوب علي .
ثم , وهي تنظر إليه يقذف الكرة لبيتر , أو يقص العشب في فناء المنزل , أو يلعب مع العمة لويزا والسيدة هنكز بينما يعمل في غرفة المخزن بالمطرقة و المسمار , عند ذلك تعدل روني من قولها هذا فتضمنه كل اولئك الأشخاص .
وتقول لنفسها انه محسوب معنا . معى ومع بيتر وكل الآخرين . إننا جميعا نسانده .
وعندما سخر عقلها منها , قائلا .. نعم , ولكن إلي متي سيهتم بك ؟ أجابت بكلمة جيرالد لإسكاته , والتي كانت ( طالما دام هذا الأمر ).
والذي قد يكون ... من الممكن أن يكون زمنا طويلا جدا . وفي نفس الوقت لن تدع القلق يتملكها , ولن تنزعج , بل ستبذل كل ما في مقدورها لكي تكون زوجة ومعينة له وأم لبيتر , وربما , ربما فقط يمكنها ان تجعل جيرالد يبادلها الحب .
******************************
أول شهر أغسطس .. يوم زفافه .
كانت مشاعره تتأرجح بين الذعر والتوقع المتوتر , وذلك كل ساعة على الأقل منذ تقدم إلى روني طالبا الزواج ... وكان جيرالد عقد ربطة عنقه ثلاث مرات خلال عشر دقائق وهو يسب أصابعه التي كانت تعوزها الخفة بسبب التوتر .
حملق في صورته في المرآة , وازداد سبابه إلى أن أسكته صورة وجه ظهر بجانب وجهه .
سألته روني والتي كانت مصممة على أن تكون سعيدة متفائلة في هذا اليوم الهام . سألته قائلة : " أية مشكلة بالنسبة إلي ربطة العنق هذه ؟ "
لكن الخوف والتوتر لم يسمحا لجيرالد بأن يماثلها شعور , فرد عليها بحدة : " أخرجي من هذا الحمام "
" اسمع , إن من حقي أن أكون في الحمام متي شئت . فأنا التي أنظفه "
قالت ذلك مستجمعة كل ما أمكنها من شجاعة وبشاشة , بينما تكافح في نفس الوقت مشاعرها الهامدة بمركب النقص ازاء مظهر جيرالد الرائع الوسامة بجانبها في المرآة . كان شكله الجميل قد جعل وجهها يبدو لها عاديا أكثر من أي وقت مضي .
فقال ضاحكا : " إنك نسيت أن تشتمى بقولك تبا لهذا , أليس كذلك ؟ " كان مزاجه الغاضب سرعان ما يتحسن عند حضور روني , هذه الأيام . وكان هذا يذكره بأن ما هو مقدم عليه كان شيئا حسنا تماما .
كانت رائحتها تشابه رائحة مرج الزهور الذي كانا يتمشيان فيه في الرابع من تموز وضحكتها هذه جعلتها تبدو جميلة حقا .
وكانت تقول مجيبة : " نعم , حسنا هذا لأنك قد أصبحت تشتم كثير هذه الأيام عني وعنك " ثم أضافت بلهجة حادة : " لم يفت الوقت بعد على تغيير رأيك في الزواج , كما تعلم "
" وهذا أيضا بالنسبة إليك , يا روني "
فهزت رأسها : " أنا لست كذلك "
فتأوه من أعماقه : " حسنا .. ولا أنا اريد أن أكون كذلك "
وعاد يحاول عقد ربطة عنقه وقد قطب جبينه .
فسألته : " هل تريدني أن أقوم بذلك لأجلك ؟ "
" كلا , فقد تمكنت منها " واستدار من أمام المرآة : " ما الذي تعرفينه عن عقد ربطات العنق , على كل حال ؟ "
" الكثير " وعلقت روني قرب المغسلة المنشفة التي كان جيرالد استعملها , مستمتعة بما تتضمنه هذه المهمة الصغيرة من معنى العلاقة الحميمة بينها وبينه , بعد ساعات قليلة فقط , سيكون عليها رسميا أن تقوم بمهمات زوجية صغيرة مثل هذه , وذلك طوال الوقت . وقفز قلبها لهذه الفكرة . وقال تجيبه : " إن زوج عمتي كان يطلب مني أن أعقد له ربطة عنقه كل يوم أحد "
" لابد أن زوج عمتك كان شخصية لامعة " وتناول سترة بذلته الجديدة المعلقة خلف الباب فارتداها وهو يقول : " أنت وعمتك تتحدثان عنه على الدوام "
" كان رجلا محترما "
" وبناء محترما أيضا , أذا نحن حكمنا عليه من طريقة بنائه هذا المنزل ومن أدواته التى ما زالت العمة لويزا تخبئها "
" الأدوات التي استعملتها , يا حضرة المهندس في بناء الغرفة لبيتر في غرفة العتق تلك "
ثم مدت يدها تمر بها على ياقة سترته وقد بدا في عينيها فيض من الحب والزهو بهذا الرجل , ثم قالت : " ماهي الأسرار الأخرى التي تخفيها ؟ "
وإذ تعلقت نظراته بنظراتها , ورأي فيها مشاعر لم يمكنه سبر غورها , توترت أعصابه وشعر بجاذبية قوية نحوها .
ثم قال بصوت ينضح بالمشاعر : " أظن أن رغبتي فيك لم تعد سرا "
فاغمضت عينيها وهي تقول : " كلا , لم تعد كذلك "
" الليلة .. الليلة لن يكون ثمة أي ممانعة أو تحفظ , أليس كذلك ؟
فقالت بصوت مرتجف : " نعم , لن يكون ذلك "
**************************
وبعد ذلك بأكثر قليلا من الساعة كان جيرالد قد أنهي عقد ربطة العنق بشكل أنيق جعل جيرالد يدهش لأنه لم يبد بشكل الأنشوطة كما كان يخاف .
قال القاضي لبيتر الصغير والذي كان يبدو نسخة مصغرة عن جيرالد في بذلته المخططة , قال له : " تستطيع الآن أن تقبل أمك ووالدك "
فابستم الصبي بخجل , وهي المرة الأولي التي يظهر فيها الخجل منذ أسابيع , ثم تحول إلي روني التى انحنت أمامه وضمته إلي صدرها , وقد تملكها شعور رائع وهي تضم هذا الجسد الصغير إلي صدرها . ثم نظرت إلي جيرالد الذي كان واقفا ينظر إليها بهدوء . وخلفه كانت العمة لويزا والسيدة هنكز تمسحان دموعهما بينما القاضي وليو يخرجان منديليهما .
نهضت روني واقفة وما زال بيتر بين ذراعيها , ثم تقدمت به نحو جيرالد . مدت يدها إليه وعندما أمسك هو بها جذبته ليقترب منها . عندئذ التفت بيتر ومد ذراعه يطوق بها عنق جيرالد . وهكذا وقف الثلاثة متعانقين .
إنها أسرته .
وانفجرت هذه الكلمة في ذهن جيرالد كالقنبلة . طالما بقيت أسرته هذه , فشعور الوحدة لن يعاوده .
كانا قد تناولا عشاء الزفاف في فندق كارلتون وعدا عن المقيمين في النزل , كان معهم عدد من الأصدقاء شاركوا معهم المناسبة السعيدة . وكانت سارة صديقة روني الحميمة , والتي لم تكن مرتبطة بأي رجل .. كانت هناك تلقي الأرز على العروسين السعيدين , كما فعل ذلك أيضا مراقب العمال الفظ القوي البنية الذي يعمل في البناء مع جيرالد وكذلك مايك الكبير أرسل برقية تهنئة من سجن قصر الجزيرة فيها : ( ولدي جيرالد . أخرج الآن وكن رجلا واحصل على وظيفة حقيقية ) .
بعد عشاء الزفاف , صعد بيتر والرجال كبار السن إلى سيارة الفان وعادوا إلى المنزل .
أما سارة ومراقب العمال , واللذان كان انسجامهما معا واضحا , فقد غادرا المكان معا .
ومن ناحية أخري , صعد جيرالد وروني إلى جناح العرائس في الفندق ليمضيا ليلة الزفاف التي قدمتها العمة لويزا لهما هدية العرس .
دخلا إلى الغرفة المترفة حيث كان في وسطها أكبر سرير ممكن أن تسعه غرفة . كانا ما يزالان متوترين مرتبطي اللسان تجاه بعضهما البعض بشكل لم يسبق له مثيل منذ تعارفا . لقد تظاهر جيرالد وروني بأنهما لم يلحظا السرير هذا وهما يتقدمان في الغرفة . وكان كل منهما يحمل حقيبة صغيرة تحتوي على ما يحتاجه لليلة واحدة , ثم وضعاها بجانب الأريكة المواجعة للمدفأة القائمة في آخر الغرفة الفسيحة .
أخذ يجولان في أنحاء الغرفة معجبين بهذا وذاك , متظاهرين بأن اهتمامهما مركز على التحف والديكور بينما الحقيقة أنهما لم يكونا يلحظان سوى بعضهما البعض .
هتف جيرالد وقد بدا الارتياح في صوته وهو يرى ما بدا على وجه روني وهي تبتعد عن النافذة التي كانت تتظاهر بأنها تنظر منها , هتف يقول : " آه , الشراب " ومد يده إلى البطاقة المعلقة في عنق الزجاجة الموضوعة على المنضدة بجانب السرير , فقرأ فيها : " أجمل التهاني والتمنيات من مدير وموظفي الفندق إلي السيد والسيدة .." وهنا سكت جيرالد وقد خشن صوته , ما جعله يتنحنح لكي يستمر في القراءة . " السيد والسيدة جيرالد مارسدن " .
ألقي نظرة على روني ثم قال بإبتسامة مغتصبة : " هذا لطف منهم , أليس كذلك ؟ "
شعرت روني وكأن لسانها التصق بحلقها . ووجدت من الصعب أن تبتسم وهي تجيب : " بكل تأكيد "
" طبعا ما دمنا ندفع لهم ذلك المبلغ أجرا لليلة " وضحك بصوت خافت بينما كان يفكر متسائلا بحيرة , عما يجعلهما يقومان بهذه المحادثة التافهة ؟
" هذا صحيح " وتظاهرت بالضحك هي أيضا , وهي تعبث بعقدة حزام ثوبها الحريري الوردي اللون والرائع الجمال .
أمسك جيرالد بالزجاجة وقد تاهت عيناه بعيني روني , وسألها : " هل يمكنك شرب كوب آخر ؟ "
كان يريد بالشراب , أن يساعده على تجاوز هذا الوضع الغريب . تبا لذلك , ما الذي حدث له ؟ إنها ليست المرة الأولي التي يرى فيها امرأة ولكن لم يحدث له قط مثل هذا التوتر من قبل .
" بالتاكيد " أجابته روني بذلك وقد انقبض قلبها وهي تتساءل عما إذا كان كل العرسان بهذا الشكل الغريب من الارتباك وعدم الارتياح , أم أنهما هما فقط كذلك ؟ فالطريقة التي كان جيرالد ينظر بها إليها بهذا النهم , وبهذا ...
وشعرت بجفاف في حلقها , بينما ملأ هو الكوبين بشراب الورد , ثم جاء بهما إليها وهو يقول : " إننا نتصرف كمعتوهين , اتعلمين ذلك "
جعلتها لهجته الجافة تبتسم قائلة : " نعم , أعلم ذلك "
" أري أن نتوقف عن ذلك حالا "
" و أنا أري ذلك أيضا "
فازداد اقترابا منها وهو يقول : " أريد أن أشرب نخبا , يا روني .."
أخذ قلب روني يخفق بجنون , متوقعة منه أن يشرب نخب المناسبة , ولكنها دهشت ولم تشعر بأي نوع من الارتباك أو القلق وهي تسمعه يقول بوقار : " إليك , يا فيرونيكا سايكس , يا أكرم امرأة عرفتها "
تملكها التأثر وكذلك الحرج , فهزت رأسها وهي تقول : " وكذلك أشرب نخبك , يا جيرالد مارسدن . يا رجل الشجاعة والحنان والذي يستحق كل خير في هذه الحياة "
رجل الشجاعة والحنان ؟ هو ؟ لقد كان يخاف حتى الموت من كل ما كان يحدث , ويدعو نفسه يوميا بالأحمق لأنه لم يخرج الطفل من حياته حتى الآن .
شعر جيرالد إزاء نظرات روني الدافئة الجادة , بعدم ارتياح . شاعرا بأنه رجل مخادع محتال . وإذ حاول أن يدخل شيئا من البهجة بينها , ابتسم لها وهو يستدير إلى الراديو : " فلنستمع إلي شيء من الموسيقى "
وإذ امتلأ جو الغرفة بالأنغام الشاعرية ابتسمت روني وأغمضت عينيها تاركة مشاعرها تسبح مع الموسيقى .
سألها بعد فترة : " إنها رائعة هذه الموسيقى . ألا تظنين ذلك ؟ "
" هممم .. هل تسمع نفس الموسيقى التي أسمعها ؟ "
" لابد أنني كذلك "
مضت فترة أخري قبل أن يعود فيقول : وكانت هي تشعر بذلك حتى دون أن يقوله بالكلمات .. لقد كان رجلا وسيما يحتوى على كل ما ترغب فيه المرأة .
قال فجأة وهو ينظر في عينيها : " إننا متزوجان الآن .."
وسكت قليلا ثم تابع يقول هامسا : " وأريد أن أحقق زواجنا بكل معنى الكلمة " وهذا ما كان ..
**********************
ابتعدت روني قليلا ومضت تتأمل وجه زوجها السابح في سكون النوم والذي بدت تقاطيع وجهه الوسيمة أقرب إلي الطفولة .
إنه زوجها ... حبها .. ومدت يدها تلامس شعره المشعث ولكن إذا بملامح جيرالد تتقلص ألما وهو يتمتم بخشونة , بشيء ما غير مفهوم , ثم يقفز من السرير متوجها إلى الحمام .
أغلق الباب خلفه بعنف أوضح لروني انها طردت من تلك البقعة الخاصة في نفس جيرالد التي كان سمح لها بدخولها لفترة قصيرة . وإذ أخذت تحدق في الباب المغلق أخذت ترتجف وقد تملكها شعور بالبرد لم يكن ناتجا عن درجة حرارة الجو وإنما عن الخوف .
الخوف من أن يتحطم قلبها بوقت أقصر كثيرا مما كانت تتوقع .. أو ترجو .. الخوف من أن تتحطم أحلامها فى المستقبل حتى قبل أن تسنح لها الفرصة لكي تري جيرالد مبلغ جمال الحياة مع زوجة وطفل .
أخذت تستمع إلي صوت الدوش في الحمام وقد تملكتها التعاسة , وهي تتساءل كيف سيكون بإمكانها مواجهته عندما يخرج .
عند ذلك أخذ صوت عمتها لويزا يتجاوب في أذنيها ( إياك أن تكوني جبانة ..)
وبسرعة بالغة , اندفعت إلى الأريكة حيث كانت حقيبتها الصغيرة , ففتحتها وأخرجت منها المعطف المنزلي , فارتدته ثم أسرعت إلى المرآة , وما زالت مرهفة السمع نحو الحمام , ثم أخذت تسوي من شعرها المشعت لتتأمل بعد ذلك , نفسها في قميصها الحريري ذي اللون العاجي المتألق . لا يمكن أن تكون هذه صورتها .. وتراجعت خطوة إلى الوراء وهي تتمايل من جهة إلى أخري , فتبتلع بطنها , وتنفخ صدرها ثم تعيد جسدها إلى وضعه الصحيح وهي تضحك مسرورة ... نعم ... نعم ... هذه صورتي أنا ...
وحدثت نفسها بأنها , إذا كان جيرالد قد وجدها تفتقر إلى الجاذبية هذه المرة فستبذل جهدها لكيلا يحدث ذلك في المرة القادمة .
توقف صوت تدفق المياه في الحمام , فأسرعت روني عائدة إلي السرير , وسوت من الوسائد خلفها بحيث اتكأت عليها ثم أسدلت شعرها على كتفيها واضعة خصلة منه على صدرها , وذلك قبل أن ينفتح باب الحمام ويخرج منه جيرالد وقد التف بمنشفة كبيرة ليتوجه رأسا إلي الأريكة حيث ترك معطفه المنزلي . وإذ وقعت عيناه على روني في جلوسها المتكاسل ذاك جمد في مكانه عند باب الحمام وقد ثارت مشاعره من جديد .
وإذا به يبعد نظراته عنها بعنف , كما سبق وقفز من السرير من قبل , ثم سار متجها إلى الأريكة أشبه بجندي يسير إلى ساحة المعركة .. عابس الوجه رافع الرأس مسدد نظراته إلى الأمام .
أخذت روني تراقبه وقد توقف قلبها عن الخفقان . كم يبدو نائيا بعيدا جافيا . إنها ستكون مجنونة لو أنها ظنت .. ولكن , كلام .. إنها ستنتظر وترى ما سيكون ..
توقف جيرالد عن السير وذلك فى منتصف طريقه إلى الأريكة .. توقف فجأة مخاطبا نفسه , جيرالد مارسدن .. أيها المعتوه عديم الإحساس . إنك تبدي سلوكا عدائيا غير معقول , والوحيدان اللذان سيتألمان منه هو أنت وهذه المرأة التي تستحق كل خير .
وما لبث تشنج جسمه ان لان , استدار إليها وقد تبدد العبوس من ملامحه وحل محله الإنزعاج وأرغم نفسه على النظر إلى وجهها .
لقد أدرك أن عليه , بشكل ما , أن يجعلها تفهم ما يجول في نفسه , وكيف أن حنانها قد أخافه , وأن ظهور عاطفته كان مخالفا لكل تجربة مر بها من هذا القبيل , ما جعل الرعب يكاد يطيح بكيانه .
قابلت روني عيني جيرالد المعذبتين بما أمكنها من هدوء , غير مظهرة اضطراب مشاعرها , ثم انتظرت منه أن يتكلم .
وعندما نطق أخيرا , كان صوته خشنا وهو يقول : " أنا .. آسف .. أنا آسف " وأحست هي , من نظراته أنه يرغب في القدوم إليها .
وإذ امتلأت حبا وحنانا نحو هذا الرجل الفخور بنفسه والذي يذل نفسه لأجلها , فتحت له ذراعيها .
تقدم منه بصمت , ثم قال بعد لحظة : " لم تتملكني مثل هذه المشاعر نحو امرأة أخري قط من قبل . إنك لا تعرفين كيف كانت حياتي "
فهمست تقول : " أخبرني إذن . ساعدني على أن أفهمك "
أحست بأنه يريد أن يتركها مرة أخري , ولكنها قالت له : " أبقى هنا "
كان جيرالد يدرك بأن كشفه عن مشاعره وما يجول فيها سيسبب له الألم والذل . كان ما يحثه على الابتعاد عنها وإغلاق مشاعره دونها , مرة أخرى , كان ساحقا قهارا .. ولكن احترامه .. واعتباره لهذه المرأة التي أحاطته بكل هذا الحنان جعله يبقي .
كانت رائعة فى الحب هذه المرأة التي كان يظنها من قبل خالية من أي جمال وإذا بها تبدو له الآن أجمل مخلوق على وجه الأرض . هذه المرأة التي أصبحت الزوجة التي لم يكن يريدها على الإطلاق , والتي ما زال لا يريدها .
كاد يضحك وهو يتساءل عمن تراه يخدع ؟ فحبها يزداد تملكا به بشكل أعمق مما كان يريد , وهذا أكثر الأشياء التي صادفها في حياته , إثارة للرعب .
قال : " طوال حياتي كنت أري النساء عدوات لي . لقد كرهت أمي , كرهت وخفت من كل أنثي , ما عدا مارسي "
" والدة بيتر ؟ "
فأومأ يقول : " نعم . لقد كانت مختلفة عن الأخريات . دوما كنت أشعر , مع النساء وكأنهن يسلبنني شيئا , يجردنني من حقوقي . كن دوما صاحبات السلطة . كن هن اللاتي قررن , من وجهة نظري , من يجب أن أكون , وأين أعيش وكيف ومع من , كن هن من يصدرن المراسيم بالأمكنة التي يمكنني الذهاب إليها والعكس . ولكن مارسي كانت مختلفة عنهن . فقد كنت أراها عكسهن . كانت هي الأضعف . وكنت أنا صاحب السلطة "
فقاطعته متأملة : " من الغريب أنك لم تسيء استعمال تلك السلطة كوسيلة للتوازن "
حدق جيرالد إليها بدهشة : " هذا ما قاله لي رفيقي في الزنزانة في السجن "
" وماذا قلت له ؟ "
" سأجيبك بنفس ما أجبته هو .. ماذا تظنينني ؟ وحش مفترس ؟ "
" كلا " ونزلت من السرير برشاقة واقتربت منه , وقد تملكها السرور للطريقة التي أخذ جيرالد يحملق فيها .
اقتربت منه تقول : " أظن انك رجل غاية في الحساسية والاهتمام بالآخرين ما يجعلك تخاف "
" أخاف ؟ " وإذ شعر بالاضطراب وهي تقترب منه بشكلها المغري , أبدي إشارة ساخرة : " لا تخدعي نفسك , أيتها السيدة "
لكنها أنهت كلامها قائلة بهدوء : " إنك تخاف من أن تضع ثقتك في من تراه حساسا مهتما بغيره من الآخرين "
" نعم , حسنا .. ربما , ولكن هذا يحميني من ازدياد مشاعري "
فقالت تتحداه برقة : " أحقا ؟ أصحيح هذا ؟ "
إزداد اقترابها منه .. أكثر مما كان يسمح به لأي إنسان , حتى هي . حملق في روني قائلا : " أرجوك أن تعفيني من هواية التحليل النفسي .. فقد أجري لي في السجن بما فيه الكفاية "
وسار إلي النافذة ينظر منها . كان الظلام قد حل . ومن بعيد كان المبني الحكومي قد استحال إلي كرة ضخمة من الكهرمان بسبب الأضواء المنسكبة عليه , وكانت حركة المرور الخافتة مسموعة والطريق اشبه بأفعي سوداء مرقطة بنقط من الأضواء المتحركة حمراء وبيضاء , سيارات , اناس رائحون غادون ..من اين , إلى أين ؟ وإلى أين يريد ان يصل بهذه المحادثة مع روني , على كل حال ؟ من المؤكد ان ذلك لن يكون إلى هذا المأزق .
استدار إليها مرة أخرى , فذهل لما بدت عليه من جمال , وشعر بالضعف أكثر من أي وقت مضي .. ثم قال : " اسمعي يا روني .. ربما لم تكن هذه فكرة جيدة "
فقالت بلباقة ساخرة لم تكن تشعر بها في الحقيقة : " ماذا ؟ زواجنا ؟ "
فأطلق ضحكة قصيرة : " اظن هذا غير محتاج إلى كلام , ولكن كلا " وتهجم وجهه . " أعني هذا .. هذا .. "
" الكشف عن الأعماق ؟ "
" نعم " وخفض نظراته إلى الأرض , عابسا , وهو يتخلل شعره بأصابعه . " نعم فهذا ليس شيئا أحسن شرحه أو استمتع به "
" ولا أى أحد من الناس " كانت تريد من كل قلبها أن تساعده . فسارت إليه ووضعت يدها على ذراعه , وقد أرضاها أنه نظر فقط إلى يدها تلك دون أن يزيحها , بينما تابعت تقول : " .. ولكن هل تعلم , يا جيرالد ؟ ليس في هذا ما يدعو إلى الشعور بالخزي خصوصا عندما تفضي به إلى شخص محب "
عند ذلك رفع رأسه فتقابلت اعينهما , كانت المحبة التي تحدثت عنهما تشعان من عينيها , هذا إلى شيء آخر .. شيء أكثر رقة وعمقا .. شيء جعل انفاسه تتوقف وخفقات قلبه تضطرب .
" روني .. هل لديك فكرة عما تعنيه بالنسبة إلى ؟ انه أحد الأشياء التي كنت أحاول ان اخبرك به بطريقتي المرتبكة المشحونة بالشفقة على نفسى "
فقالت روني وهي تغظي شفتيه باصابعها : " كلا , لا تقل شيئا "
فتابع يقول وهو يزيح يدها جانبا : " إنني لم أعرف قط امرأة مثلك , انك لست مثل مارسي ولا مثل أي من الآخريات .. انك .. "
قالت بهدوء : " أنا روني , وهذا كل شيء "
فقال بصوت أجش منخفض : " كلا , لا تقولى أبدا ( هذا كل شيء ) , فأنت اكثر من هذا .. اكثر كثيرا مما أتوقعه أو يتوقعه أي رجل "
وعندما فتحت فمها تحاول الاعتراض سارع يقول : " هس .. دعيني اقل هذا , اعرف انني قد اكون وغدا إذ أدعك تعيشين مع من هو مثلي .. ان هذه الافكار تتملكني .. تماما كما حدث هذا منذ فترة .. ولكنني أريدك ان تعلمي ان هذا الأمر لا يتعلق بك , انه يتعلق بي أنا , يا روني , لقد تواترت الأمور بسرعة في المدة الأخيرة , ما جعلني احتاج إلي بعض الوقت لكي اعتاد عليه .. على هذه الأمور التي تغيرت عما كانت عليه .. إذن إياك ان تظني انك انت السبب في ذلك , يا عزيزتي " وابتسم في عينيها برقة زائدة وهو يكرر : " إياك ان تظني انك أنت السبب " .
أنت تقرأ
أب بالصدفة_آن بيتزر_ روايات عبير دار النحاس
Romansانتظر جيرالد حريته طويلا ولهذا لن يقبل بالاستقرار ولو كان ذلك لاجل صبى صغير حزين ذكرته عيناه البنيتان الكبيرتان بطفولته الشقية ولكن اعادة الصبى الى جدته لم يكن بالامر السهل خصوصا وفيرونيكا سايكس صاحبة البيت الجذابة تتدخل فى الامر لم ترد منه فقط ان...