نكسة وتعلّق

21 7 6
                                    

لم يتبق لهذا الفصل الدراسي إلا بضعة أيام لتبدأ بعدها الامتحانات النهائية ، وكل ما كان يشغل جوزيف في ذلك الوقت هو أنه لم يتجرأ ليطلب من أماندا رقم هاتفها ، كتب ذلك في مذكرته ، كتب كل تفصيلة عن ذلك الأسبوع ، حتى أنه عنونه باسم «أسبوع الحظ» ..

في ذلك اليوم المعتاد وضع الدفتر ، وعاد لبيته يقضي يومه مع والديه وليدرس أيضا، وفي نهاية اليوم عاد مجددا ليبحث عن الدفتر ، دخل القطار وتوجه لذات المكان ، بحث مطوّلا ولكنه لم يجد شيئا ، وفجأة صرخت سيدة في الخارج لتشير لرجل سرق منها حقيبتها ، وعندها ركض جوزيف خارجا من القطار بسرعة ، وكل ما يدور في خلده أنه من المرجّح أن اللص سرق الدفتر أيضا ، ركض بغضب وكأنه هو من تعرض للسرقة ، وفي لحظة اقترابه منه وثب عليه ليثبّت يديه خلف ظهره ، وأخذ بتفتيشه ونعث الأغراض التي سرقها على الأرض ، وعندها وصلت الشرطة وتلك السيدة تتمتم بعبارات الشكر لجوزيف ، ولكن جوزيف لم ينتبه إلا إلى أنه لم يجد الدفتر ، ثم أدار اللص ولكمه على وجهه صارخا فيه :

" أين الدفتر الوردي !؟ ، أين الدفتر الوردي أيها القذر"

غطى اللص وجهه بذراعيه وهو يردد :

" أقسم أنني لم أسرق شيئا كهذا ، أنا لا أعرف القراءة والكتابة ، أقسم أنني لم أسرق إلا المال والحقائب "

استمر جوزيف بلكم الرجل حتى أبعده الشرطي وعلى وجهه علامات الاستغراب فكيف لشاب يغضب من أجل دفتر ورديّ !؟

ترك جوزيف المكان ، اللص والشرطة والناس والسيّدة التي استمرت بنثر كلمات الشكر والعرفان على مسمعه ، وعاد للقطار ، ولكنه كان قد غادر ، فجلس في المحطة من جديد ..

في القرى الصغيرة يعرف الجميع بعضهم ،لذلك تعب من إلقاء التحية باستمرار وتكرار الحديث عن جامعته للناس ، فرجع لمنزله لحين عودة القطار في موعده الآخر ، لا يعرف لماذا بات خيال أماندا يرافق الدفتر ، لا بد وأن ذلك لأن كلاهما مهم ، أو لأنهما حدثا في حياته بنفس الوقت تقريبا ..

عاد جوزيف لذلك القطار بعد أن فرغ ،فتّش هذه المرة جميع المقاعد فلم يجد شيئا ، نظر إليه آدم ، وهو المسؤول عن ذلك المكان ، إنه يفعل كل شيء تقريبا بسبب قلة حركة الركّاب ، يمضغ بفمه بعض المكسرات، ويتكئ على الباب ، ثم قال :

" هيه جوزيف ، هل فقدت شيئا ؟ ،بإمكاني مساعدتك ، أما إن كان هذا الشيء ثمينا للغاية فسآخذه بالتأكيد ، ولن تمانع  "

" آدم ابتعد عني ، لدي دفتر وردي لفتاة صغيرة ضائع ، والموقف الآن لا يحتمل سخافتك "

رمى بفمه فستقة أخرى ولكنها ضربت وجهه وسقطت ، متابعا كلامه :

" اشترِ لها واحدا آخر ، يال بلاهتك جوزيف "

ثم خرج من القطار تاركا جوزيف بحيرته ، محدثا نفسه :

"أين الدفتر ؟ ، ما الذي حدث ؟ ، أأنت بخير أنابيلا ؟ ، هل انتهت القصة هكذا ، هل دهستها سيارة وانتهى كل شيء بلحظة ، لا غير معقول ، إنها راشدة ولا تشرب الكحول وستبقى متيقّظة ، ولكنها تلقت عيارا ناريا فيما سبق ، حسنا هي ليست مستهدفة من أحد ليتكرر الموقف، ولكن أين الدفتر ؟ "

عاد جوزيف مشغول البال لمنزله ، لاحظت والدته شروده ، لقد لاحظت أنه ينظر لصفحة الكتاب نفسها منذ ساعتين ، فجلست بالقرب منه ، ناولته كوب الشاي وقربت الكوب الخاص بها تشرب منه لتتحدث إليه بعدها :

"  شيئين يمكنهما أن يجعلا الرجل شاردا  ، رجل قهره فيشغل عقله في كيفية الانتقام منه ، وعندها لا بد لك أن تعرف أن الدائرة ستدور على الظالم وسترى ذلك دون أن تتدخل فيه ..

أو امرأة يحبها ، وعندها يجب أن تعلم أيضا أن لا تعطي قلبك بسهولة لأحد ،فهذا الحب  إما أن يجعل حياتك نعيما أو جحيما "

أطرق جوزيف هنيهة يفكر ثم قال :

" وإن كانتا اثنتين يا أمي ؟! "

جعلها ذلك تشعر بالحيرة وبصدمة بسيطة نوعا ما  من سؤاله الغريب ذاك ، لتردف باستهزاء لطيف :

" حاول أن لا تكون أنت الضحية إذا ! "

" ماذا ؟! ، أمي ماذا تقصدين ؟! "

" تعلّم الحياة بنفسك ، خض تجاربك الخاصة أيها الشارد ، ولا تجعل من الدراسة أمرا ثانويا "

انتهت تلك الاجازة الأسبوعية المملة ، وعاد جوزيف لسكنه ، قضى وقتا لطيفا مع أصدقائه هذه المرة ،  وانتظر حتى يرى أماندا في المحاضرة الأخيرة ، ولكنها تأخرت ، مضت دقيقة ، اثنتان ، خمس ، عشر ، ولكنها لم تظهر ، انتهت المحاضرة ولم تأتِ أماندا ، وفجأةً ربتت يد من خلف جوزيف على كتفه ، فابتسم واستدار ، لعلها كانت تجلس خلفه طوال الوقت دون أن يعلم ، ولكنه تفاجأ بأنها ليست هي ، كانت زميلته فقط ،أخرجت من حقيبتها دفتر أماندا قائلة لجوزيف :

" أعتذر إن أزعجتك ، هذا دفتر أماندا ، قمت باستعارته منها ولم تحضر اليوم لأستطيع إعادته لها ، وقد رأيتكما سوية في وقت سابق ، هل لك أن تعيده أنت ؟ "

" أوه ، لا لم تزعجيني ، بالتأكيد سأحرص على ذلك ، شكرا لكِ "

وضع جوزيف الدفتر في حقيبته وغادر إلى سكنه ، يتمتم في نفسه :

" لا بأس سأراها غدا ، وأعيد إليها الدفتر "

كان ألبرت وسال صديقيه يجتمعان في السكن وقد دعيا شون ، وهو طالب مجتهد ،  ليدرسوا جميعا في جو دراسي واحد ، يجلس الأربعة ، جوزيف يجلس بعيدا قليلا عنهم ، تارة يراقب شون وقد بدأ بالصراخ بهما فقد أعياه كثرة الأسئلة التي يوجهانها له ، وتارة يحاول التركيز في الكتاب ، ولكن فكرة غياب أماندا وضياع الدفتر لا تغادراه على الإطلاق ..

مر اليوم الذي بعده بطيئا حتى آخر محاضرة ، ولم تظهر أماندا أيضا ..
والذي بعده ، والذي بعده ، اختفت أماندا هي الأخرى ، شعر جوزيف بفجوة في قلبه وبتشتت في تفكيره ..

" أين أنتِ أماندا؟ ، أين أجدك الآن !؟

لماذا يغادر الجميع دفعة واحدة ، لماذا !؟ "

مذكرات متشرّدةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن