المشاكسة الثالثة

310 15 2
                                    


لا تتذكر من منهم آذي الآخر أكثر ، تمعن في اتساع الجرح وجعله اعمق ، هو ، هي ، لم تعد تبحث عن البداية بل تتمهل لتري النهاية ، كيف ستكون ؟!.
ليلة أخري من الجفاء المتعمد بينهم .
ليلة جديدة يسهب كلا منهما في الابتعاد عن الاخر .
ليلة نهايتها كسابقتها ، بعد ، فراق ، ثم نوم .
تلك الازمة اللعينة التي مرت بها عائلتها مؤخرا ، مع فقد زوجها عمله ومكوثه في البيت لفترات اطول ، بلا مال ، بلا عمل ، والفراغ سيد الموقف .. مشاجرات كثيرة ، لأسباب تافهة ، حتي كانت القاصمة .
" أعتدت علي صرف المال كله في البيت للطعام والشراب ، لم نعد ندفع فواتير  الغاز والكهرباء ، فقط الطعام ، بل واحيانا لا يكفي "
" هل غضب لصرفك المال هذه المرة علي صغاره "
" نعتني بالغبية ، كي ابتاع معاطف لهم ونحن بهذه الحال ، كان يريد انفاقي علي طعام وشراب كالعادة ،  وما شأني أنا ، ألا يحمد الله علي انفاقي مال ابي علي بيته ، لقد سئمت كل شئ علي اية حال "
كان هذا حديثها مع صديقة لها عبر البريد الالكتروني ، تركتها تكمل وذهبت الي الحمام ، وفي لحظات سمعت باب المنزل يغلق بقوة .
من أتي وذهب سريعا هكذا !
حالما عادت للحاسوب وجدت محادثاتها وصديقتها ، همت لتكمل .. ولكن .. لحظة .. ربما مالك من اتي و ..
عندما عاد ليلا ، ملامح قاسية استبدت بوجهه ، ساحبة رقة قلبه معها فشعرت بالبرودة تجتاحها .
" ما بك ! "
" مرهق "
تعرقت وقد تسربت لعقلها فكرة .. ماذا لو كان قرأ رسالتها !
وكان جوابها ( سيكون علي هذا الحال ).
علمت ، فسكتت .
وعلم فتجاهل .
فاتسعت الفجوة ، وحملت النفوس مالا تطيق ، وامتلأ البالون عن آخره ، ينقصه وخزة دبوس .
********
" إذهب لوالدتك ، ستلبي طلبك "
ضاقت ذرعا من سخريته ، فقد أصبحت سلاحه لمواجهة الأمر ، كلما تحدث احدهم لاينفك عن كلماته الساخرة التي يقذفها بمناسبة او بدون في وجهها .
" أجل حبيبي سأفعل ، سآخذ المال من أبيك واحضر لك ما تشتهي "
انتفض بانفعال مجيبا
" من أين ، أنا بلا عمل "
ربتت علي كتف صغيرها تصرفه ، لا يصح أن يخرج الفقر اسوا ما فينا .
" قرأت المحادثة ! "
أجاب دون مواربة متألما
" نعم ، و أبحث بجد عن عمل "
داعبت شعرها في توتر
" لم أقصد ما فهمت "
" بل فهمت ما تقصدين "
تنهدت متوجعة وكأن صدرها يضيق فيطبق علي حروفها
" أنت رجلي بمالك أو دونه ، لقد مررنا بالأسوأ .."
قاطعها ووجعه قد أشتد
" لكنكِ لم تنتقصي من رجولتي يوما "
" أقسم ليس الامر كما بدا ، كنت يائسة ، سامحني أرجوك "
ابتسم ولمعة خافته مرقت فوق عينيه
" لقد سئمتِ ، مللتِ ، وانا ايضا ، هل تعلمين شعوري وانا عاجز عن تلبية احتياجات صغاري ، أن اكون نصف رجل في اعين زوجتي ، هل اخبركِ عن ضيقي وانا امد كفي لهذا وذاك طالبا العون "
" كلاَ له وسيأخذ ، هناك فارق بين السلف وبين التكفف ، سيغنينا الله من فضله "
كان ردها يحمل مواساة لرجل تمزقت رجولته أمامها ، بل  وعلي يديها
" كنت أحتاجكِ "
أقتربت تلامس ذراعه
" وانا جوارك "
ابتعد ببطئ يوليها ظهره ، يكتم تعبه بصدره
" لستِ كذلك "
*********
لا يملك مالا ولا سببا لتأخره ، مضي الليل لم يتبق منه سوي النصف ، سمعت صوت حذائه عندما يلامس الارض بنعومة ، تود لو تنسي للحظات مشاحناتهم ، ان تقترب منه وتخبره بانها جواره ، لن تتركه لاجل الدروس التي تكدست فوق رأسها فقد أصبحت الام والاستاذة مع صرف المدرسين .
ولن تتركه لاجل نوم صغارها بدون عشاء وربما دون افطار .
ولا لاجل الفواتير المكدسة بلا سداد .
يكفي انهم معا ، من مع من ، هل تحسب نفسها معه .
لقد اصبحت علي هامش حياته ، كلمات تقلل من شأنها ، أتهامه الدائم لها بالغباء وعدم التصرف بحكمة .
متي سيتوقف كل شئ ويعودا كما كانا ...
" هل أحضر ... ! "
ابتلعت كلماتها ، ايُ عشاء ! .. هل تصالحه ام تذكره بضيق العيش .اضطربت عضلات فكه بعجز ، ينظر أرضا متنهدا بصبر ، ثم غادرها .
*********
لا ينكر وقوفها جواره منذ بدأت محنته ، لن ينسي بيعها الذهب الذي ورثته عن امها ، ودعمها له فكلما اعطاها والدها مالا لها وللصغار انفقته علي المنزل ، لكن رؤيته لكلماتها ذبحه ، وحتي الآن يعاني تبعات تلك الطعنات ، ألم يبدأ من رأسه ممتدا حتي الجانب الايسر من صدره ، مرورا برجولته التي تفككت لقطع صغيرة يصعب تركيبها من جديد .
تنازل ليعمل كسائق علي سيارة اجرة ، ومن هو كي يقول للعمل لا وفوق كاهله اسرة سيسأل عنها .
تزامن الشتاء مع حزن قلبها وضيق  عيشها ، وكأن الكون بأسره اتحد لنزع روحها عنها .
عاد ، فتوجهت اليه ، جلس فداعبت كتفيه ، أخرج المال ، دمعت عيناها ، عانقته ، لم يرفع يده ليضمها ، ابتعد وغادر .
تحسنت الاوضاع كثيرا ، ولا زال يبحث عن عمل اخر يناسب شهادته ، اجتهد فوجد ، ومن النجاح اقترب ، وعادت حياته كما كانت ، الا شئ واحد لم يعد .
********
ترتدي ثوب أحمر ، تضع أحمر شفاة يتناسب مع ثوبها
" هل أعجبكِ ! "
استدارت عن مرآتها اليه
" كثيرا "
" أعطني ثمنه "
ضيقت عيناها لا تدرك ما تعنيه كلماته فاردف
" أريد ثمن الثوب "
يغمض عيناه ، رابضا في فراشه ، يمد يده بمال .
" هل تعطيني ثمن الثوب ام تطالبني به؟ "
" هذه ثمن المعاطف ، التي جلبتها للصغار من مال ابيكِ "
تبين الآن مقصده ، يسخر منها ، يعطيها مالها ، ويريد ليلة حمراء تتناسب مع لون فستانه ، هكذا بدت مقايضته ، فثارت بغضب
" ومال الطعام ، ومالي ، وذهبي ، ألن يتضمنوا حسبتك ! "
لم يغضب .. لم يثور .. بل أغلق النور بهدوء ونام .
الآن فقط هدأت ثورته ، شعر بلذة الانتصار ، وكما نحرت رجولته ، فعل المثل ، والبادي اظلم
***********
صداع قاتل يفتك بها ، حبات المسكن لم تأت بثمارها ، ذاك الحزن الذي بات ملازما لها تكرهه ، يقيد روحها الحالمة الهشة فلم تبدو كطبيعتها ، سئمت من الحزن وتكاد تقسم أنها تود شراء الفرح بالمال .
ليتنا بالمال نبتاع السعادة  ، الصحة ، الامان ، وهدوء انفسنا .
ليت المال يصلح ما تفسده نفوسها ، ليته يعيد لحظات الفرح ولو لثوان قليلة .
ليته يرأب صدع علاقتها بزوجها ، فالشرخ من الداخل ، بل من الاعماق ، ويصعب اصلاحه .
تسير بين الطرقات ، الامطار تبلل رموشها فتبدو كدموع عجزت عن اسقاطها ، تختلط انفاسها برياح الشتاء فتمتزج مع برودة وقسوة وحزن قلبها .
عادت بالصغار ، وجدته ، دهشة نظراتها لم تمنعه من احتضان اطفاله بقوة علي غير عادة ، يقبلهم ويضمهم الي صدره كأنه عاد للتو من السفر ، أو .. ربما سيسافر .
اقترب منها ، يلامس خدها بابهامه ، برودة وجنتيها تسببت في قشعريرة جسده ، بيده الاخري أمسك يدها الحرة ، برودة أخري نفذت لقلبه ، أقترب لتمتزج انفاسهما .
هو الآن يقتلها ، صدقا لم تعد تحتمل ، سقطت دموع تماسكت كثيرا داخل مقلتيها لكن الآن مع عاطفته تلك ، لم تستطع .
" لا تبكِ "
أنّت بتعب ، أنفاسه أشعلت وجنتيها ، بل ويديها ، إجمالاً جسدها بأكمله
" وهل تركت شيئاَ لي كي افعله سوي البكاء "
" اعتدتكِ قوية "
" كاذب ، أنت تعلم بضعفي "
عناق ، هذا عناق أم أقتلاع ضلوع ، لم تحتمل فصرخت متأوهه ، قالت بصوت مختنق
" ما الذي بدل حالك "
" هشش ، دعيني أزرعكِ بين أحضاني وكفي "
كيف سيخبرها بانه شاهد للتو حادث عائلة باكملها ، أضرمت النيران بالسيارة ولم يستطع احد اطفائها او نزع من بداخلها خارجا .
كيف يخبرها انه لعن المال والعمل والانتقام والرجولة والانوثة فداءَ لسلامتها وصغاره .
ومع ازدياد افكاره يزداد عناقه ، ومع تذكره للموت والفقد هان كل شئ ، وبدي ما مرا به وكأنه ذوبعة في فنجان ، ربما كحبات السكر مع الماء الدافئ ، أو كحبات الرمل مع هبات الرياح .
" هل تخلصتي من الفستان الأحمر ! "
كانت همسته
" لا "
كان جوابها
" ما رأيك لو نجربه الآن "
شهقت
" له معي ذكريات سيئة "
مُصراً
" اعدك ان تكون ذكراه هذه المرة جيدة "

مشاكسات كاتبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن