المشاكسة الرابعة

259 11 0
                                    

إستشعرت إنتفاضة جسده ، صوته الخشن يهمهم بألم ، تتفرس انفراجة عينه ببطئ ، يستمع لهمساتها
" ما بك ، أخبرني ، هذه ليست نزلة برد عادية ، ممَ تشكو حبيبي ! "
أشاح بوجهه عنها ، سيخبرها ، لا يوجد احد سواها قادرا علي مساعدته ليخرج من تلك الدائرة التي ألقي نفسه بها لتصيبه بالدوار والإنحدار .
قال بصوت يملؤه التعب
" جسدي يتخلص من سموم "
" أية سوم ؟ "
أغمض عينيه ، لا ، لن يري فجيعتها به ، ليس بالهين رؤية الخزي بعينيها لأجله .
" أدمن الحبوب "
إذرد ريقه ، مسبلا جفنيه بتعب
" تعلمين طبيعة عملي تضطرني للاستيقاظ دوما والضغط علي ... "
وضعت أصبعها علي شفتيه
" ليس الآن .."
ستؤجل كل شئ لما بعد ، هو في حال مزرٍ ، فقد اتفقت اعراض الانفلوانزا مع اعراض الانسحاب فجعلته بلا حراك فوق سريره ، فلن تكن هي والزمن ضده .
لامست يداها الرقيقة سطح يديه الخشنة لتزهر معاني الوفاء فتكبل أيديهم .
" سنجتاز هذه المحنة سويا ، وبعدها ... "
لم تكمل جملتها مع ضغطة يده علي يدها ، تخبرها باحتياجه الدائم لها .
جفت الحروف علي شفتيها ، وهي ترصد انهاكه ، جاثية علي ركبتيها تتمعن في وجهه ، تحبه ، بكل ذرة في عقلها وقلبها تحبه ، طفلها الكبير ، بحاجة لارشادها ، وستكون جواره .
( بعثرتني .. لملمتني .. فاحتوتني ..
هي البناء .. والولاء .. كيان قائم بارتقاء ..
هي السكون والجنون ...
هي الاصالة .. الفصاحة .. والتحمل .. والإباء .. )

********
تفطُر وصغارها علي أذان المغرب ، بينما هو مستلقٍ في الغرفة المجاورة .. دوائه بمواعيد تتخلل وقت الصوم فآثر الفطر .
لقد أضاع ثلاثة أيام حتي الآن من رمضان  ، حزن يتملك قلبها ، تحن لحاله ، وغاضبه منه ، تشاهده في أضعف حالاته ، ليس هذا مالك من ضاق بها الحال يوما فتذمرت
" أنا أجيد الأعتناء بكل شئ حولي ، مهام متكدسة فوق كاهلي ، و أنجزها بسهولة ، أتعثر .. أقع .. أمل أحيانا من روتين يومي بين غسيل ومطبخ وكي ملابس ، لا آ خذ عطلة ، عقلي يعمل بعدد دقات عقارب الساعة ، أخبرني ، ماذا تجيد أنت ! "
أولاها ظهره
" أجيد حك ذقني .. "
وعندما لم تهتم لمداعبته ، وعلت وتيرة صوتها أقترب ليضمها
" من أغضبكِ .. سمي لي أسمين فقط لأريكِ كيف سأقتص منهم "
ذابت بين ذراعيه وهي تعلم من يقصد ( صغاره ) ..
هو سندها وملاذها في كل غضبة ..
يردها ويهدهدها لتكمل باقي أعبائها في اليوم التالي بمنتهي العطاء .
حدثت نفسها
( رصيدك عامر معي مالك ، ليتني أرد القليل الآن ) ..
عادت من شرودها علي سؤال الصغير
" هل سيظل أبي هكذا طويلا ، أشتقت للعب معه "
وجهت حديثها للاثنين
" والدكم الآن بحاجة الينا جميعا ، هيا ، اذهبوا اليه سألحق بكم "
لملمت الصحون تتذكر ايامها الماضية وكلماته عندما قالت
" ستحتاج لمصحة ربما ، أو استشارة طبيب "
" لا ، أحتاج لمهدئات ، ومسكنات ، كي اتحسن "
لم تصدقه حينها فآثرت استشارة الصيدلي الذي نظر اليها وكانها مدانة ، واخبرها بضرورة الذهاب لطبيب مختص .
تذكر يومها الطريق الطويل الذي قطعته من الصيدلية الي منزلها رغم قربها ، أفكارها زادت من طول المسافة ، وكأنه طريق بلا انتهاء.
لم يكن لديها بديل ، فكان أن نفذت كلامه ، والتزمت بالمهدئات والمسكنات ، تشعر بألمه دون صراخه ، وتتمزق روحها لصمته وتحمله .
**********
جلست ملاصقة لابنتها جواره في حين نام الصغير في غرفته ، تحسن كثيرا مع تناول الحليب والتمر وبعض المسكنات لآلامه ، اليوم صام معهم فكانت سعادتها غامرة .
تذكرت بالامس حين نامت جواره وقد انتوت الصوم ، وبدأ بملامساتها ، يستثير مشاعرها وحبها له ، تعلم بأن حواسه واجهزته كلها في حالة خلل ، رغم حرارة الطقس نامت باسدالها متخذه مسافة من جسده حتي مر اليوم بسلام.
اخرجها صوته عن الذكري القريبة
" أخبريني عن الحب ! "
نظرت بحب لابنتها
" أصابعها تلامس أصابعي في صلاة الجماعة "
" أخبريني عن الامان "
" ستكون عوني في دنياي "
" اخبريني عن الوفاء "
" دعائها لي بعد موتي "
شددت من عناق ابنتها وقلبه يدمع من حسن تربية زوجته لابنته ، أردفت
" هل اخبرك عن فيض قلبي بحبها .. همساتها .. تسبيحها .. يسكن جسدها جواري في الصلاة .. استمع لحسيس ثوبها ركوعا وسجودا .. اتحسس دعائها ليؤمن عليه قلبي .. "
اتستعت ابتسامة الصغيرة لتُكمل حلم
" ابنتي كبرت ، واستزدت من حبها وايمانها ، ابتهل واحمد واشكر .. كتفها تلامس كتفي ، فخذها يلامس فخذي ، سمع الله لمن حمده .. ترتفع بقامتها تضاهيني حمدا ، الله اكبر .. نلصق جباهنا ارضا ذاكرين .. معظمين لله ، السلام عليكم .. انهينا صلاتنا وعيني يملؤها الدمع فخرا واملا .. حمدا لك ربي "
يستشعر فخرها بابنتها ، يستشعر كل ما قامت به لاجل هذا البيت ، بل ولأجله ، لم تعنفه ، لم تعطه خطبة عن حرمانية ما فعل ، لم تتنمر عليه وقت ضعفه ، لم تستمع لتبريراته بل أسكته حنانها .
لثمت الصغيرة والدتها ، وعانقت والدها لتغادر وتلحق باخيها في قطار النوم .
" عانقيني "
أقتربت فكان التصاق الارواح ..
لامسته يدفن وجهه بصدرها فكان عناق النبضات .
هذا ما يريد الآن حب خالص بلا سفسطة وجدال ينهك العقل والوجدان
" تبت الي الله "
ازدياد وتيرة انفاسها حثته علي قول المزيد ، لا ، لا يملك المزيد .
" لماذا توقفت تناول تلك الحبوب الآن "
ابتعد قليلا مشيرا لصدرها
" ينافي الطريق الصحيح الذي رسمته لي منذ عرفتك "
ثم عاد يتشممها من جديد ، رائحة الامان بثوبها ، والحنان في لمسة كفها الناعم علي شعره
" أتذكرين يوم أتيت لخطبتك ، كنت علي مفترق طرق ، اما النجاة او الهلاك ، بين صحبة السوء ووجهك البرئ ، بين عالم يبتلعني ، وعالم نقي أردت أن يضئ طريقي "
نظر لعيناها لا تحيد مقلتيه عنهما
" كنتِ توقظيني لصلاة الفجر عبر الهاتف فاتدلل حتي يفوت وقت الصلاة "
أبتسمت حالما داعبتها الذكريات
" وقتها توقفت عن ايقاظك تماما ، بعد أن ضيعناها سويا في ثرثرة لا طائل منها "
" أتسمين حبي ثرثرة ! "
" أجل ، ولا طائل منها "
تنحنح هائما في عشقها يشير باصبعه
" هل لي بثرثرة واحدة قبل الفجر ! "
دفعته عنها
"لا "
جذبها
" إذا ، فلتنامي جواري اليوم ، والتصقي بي ، و أعدك أن التزم حدود الأدب "
" كاذب "
زمجر بخشونة
" حلم ... "
" لا تُخيفَني "
" أرجوكِ "
تبرمت وهي تغلق النور وتستمع لقوله ، تغفو ساعات قبل وقت السحور ..
تدعو له بثبات القلب ، ولها بطول الصبر ، فلا زالت تعاني من آثار مراهقته وما نقشت فوق روحه .

مشاكسات كاتبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن