كان تاركًا دفترَ محاضراتِه، منشغِلًا بإحدى الحسناواتِ، كمْ كنتُ ساذجةً عندما قررتُ الخربشةَ على جميع محاضراته التي يكتبُها! لأنني عندما اطَّلعتُ على دفتره كان خاويًا ولم أجد سوى اسمِه، ورقمِ هاتفه فقمتُ بتدوينه.
ولم أكن أعلمُ أنَّ ثمَن قلمِ الحبر يصبح باهظًا في أعيُن الأثرياء، ولربما فضَّلوا أنْ تتسخَ أيديهم بأوراقٍ نقدية، على أنْ تتلوَّثَ ببُقعة حبرٍ لأجل عِلم يوسّع من إدراكهم كما وسَّع الله من أحوالِهم المادية!
كان عليَّ المضيُّ بخطوة أكثر تقدُّمًا بالانتقام؛ لهذا قمتُ بمراقبتِه لعدة أيامٍ، كان يأتي كلَّ يوم للجامعة مبكرًا ويغادر في الساعة الواحدة متعجِّلا وحيدًا؛ مما جعلني أعمَهُ في حيرتي لكني أحسستُ أنه يغادر لأمر مهمٍّ؛ لهذا استغللتُ رقمَ هاتفه المدوّن واتَّصلتُ به في تمام السّاعة الثانية عشر، أخبرتُه أنني فتاةٌ تريد أخبارَه بأمر مهمٍّ، ولا يمكن التحدُّث بشأنِه هاتفيًّا. يا للانتقام! لا يكاد به المرءُ أنْ يتعرّف على ذاته، يبدد الخجلَ ويُبدع الإنسان في تفكيره أكثر من أيِّ لحظة في حياته.
فور تأكُّدي من ذهابِه للمكان المحدَّد، والذي انتقيتُه بعيدًا، ذهبتُ نحو سيارتِه وقد وجدتُ على زجاجها عدةَ رسائل من معجباتٍ، فضحكتُ استهزاءً وازدراءً لتفاهتهنَّ، ثُمَّ قمتُ بإفراغ إطاريْه الأمامييْن، ولولا خشيتي من أنْ ينتبه أحدٌ لي لأفرغتُ الأربعةَ، بل وددتُ أنْ أفرغ روحَه من جسده الذي يتباهى بجمالِه.
اشتريتُ قهوة سادة، ويا سادة لولا أنَّ القهوة اكتُشفت قبل ولادتي لأقسمتُ أنهم سرَقوا مذاقَها من حياتي، وأخذتُ أحتسيها وأنا أراقب عن بُعد أنْ يطلَّ طيفُه ليُصعق لكنْ لم أتوقَّع أنْ تكونَ ردة فعله هكذا، بل لم أصدِّقْها! فلقد أخذ يصرخُ وبدا لي أنه غاصَ في دمعه، قلتُ في نفسي: إنه طفلُ والديْه المدللُ. وأخذتُ أضحك بهستيريا كشِرّيرة في إحدى قصص الأطفال، ولكني لا آبَه إن انتهيتُ مثلهنَّ. كان شعورُ الانتقام يمنحني الرغبةَ بالتنفس بقوة كأنني أنالُ القوةَ لإخراج الغضبِ محمولًا مع أنفاسي المتصاعدة. وفجأةً، أوقفَ سيارة أجرة مسرعًا تاركًا وجهُه المكدر قلبي في كمدٍ.
لماذا يا علاء العجلة؟ أكانَ المكان الذي تذهب بهذا القدْر من الأهمية؟
لا زال الحقدُ والكراهية لأشباه الرجال يتدفَّق إلى رأسي بقوة؛ فتنبتَ من مخيلتي الأفكارُ لأنطق الخَطَل من الأفعال.
اتّصلت بعلاء لأعتذر بشدَّة عن عدم قدومي إلى الموعِد - الذي لم يكُن سوى فخٍّ - وذلك لسببٍ قاهر، وأخبرتُه أنني أريد أنْ أهديه شيئًا كاعتذار، فوافقَ.
ليوميْن وأنا أفكر في هدية تذلُّ حاجبَه فينحني وتتمزَّق ابتسامتُه؛ فخطرتْ على بالي فكرةٌ وهي حياكةُ قميصٍ له بتصميم فريد ينفّس من حقدي المتراكِم، فقد صنعتُ له قميصًا يضاهي بجمالِه أجملَ ما طرحتْ بطونُ الماركات العالمية، لكني قمتُ باستعمال خيط رديء يمرُّ من أسفل القميص إلى الكُمِّ ثم الكتفين حتى الكُمَّ الآخر! ولم أجدْ صعوبة في تحديد مقاسِ علاء فقد ساعدتْني خبرتي الطويلة في صناعة قميص يلائم جسدَه، واتَّصلتُ به وأخبرتُه بأنني اشتريتُ له قميصًا وأنني أريدُ رؤيته به فورَ حصوله عليه؛ لأن شوقي بلغَ ذروته لأراه، وفورًا منحَني ثقته وأضفتُ إلى طلبي أنَّني أريد رؤيته بإحدى المحاضراتِ التي يشاركني بها، لكنْ يتوجَّب عليه عند الدخول أخذُ نفسٍ عميق لتظهرَ تضاريسُ صدره جاذبيتَها من خلف القميص، في بداية الأمر أبدى انزعاجًا من الفكرةِ، وأنني أبالغ في عجلتي، لكنَّ كلامي المعسولَ روَّض انزعاجَه وحوَّلَه لحماسٍ، خاصة أنني أوهمتُه أنه سيتعرّف على هويتي بعدما يفعل ما طلبتُ منه.
كنتُ دائمًا أظنُّ أنَّ النساء يسهل خداعهنَّ، لكنَّ تجربتي بيَّنَت لي أنَّ المديح واستغلالَ الحاجة سلاحان فتّاكان لخداع أيِّ كائن حتى الحيوانات! وإنْ كانت الحيواناتِ تملك عطفًا ورأفة أكثر من كثير من بني جنس البشر.
أتى اليومُ التالي، اتصلتُ بعلاء وأخبرتُه بأنَّ الشوق يكاد يُخرج قلبي من سجْن الضلوع إلى عينيْه، وأنني أتشوَّقُ لرؤيته مُرتديًا هديَّتي له، وأنني وضعتُ القميصَ أمام النافذة التي على اليمين في الطابق الثاني في عُلبةٍ حمراء. وكالأبله بلعَ علاء الطُّعم ودخل إلى حمّام الرجال وارتدى القميصَ، وما إنْ طرق باب القاعة ودخل وأخذ نفسًا حتى لبّى الخيط الرديء الذي يربطُ القِسم الأماميَّ مع القسم الخلفيِّ للقميص إرادتي؛ فانقطع وسقط قِسما القميصِ، فظهر الجزءُ العلويُّ من جسدِه ناشرًا السخرية في كافة أنحاء القاعة، ليسري الخجلُ في دهاليز ملامحِه ويغادرَ هاربًا.
في الحقيقة، شعرتُ بأنَّ عدْوى الشرِّ أصابتْني، وأنَّ الضمير يناديني من أعماقي فيما فعلتُ ويؤنّبني، لكن ما شأني إنْ لم تنطفئ النارُ في جوفي فكانت أنفاسي تحمل لهيبَها لكلِّ رجل مُتكبِّر يمشي مَرحًا، يظنُّ أنه خارقٌ للسماء أو بالغٌ الجبالَ في طولِها.