الفصلُ الثالثُ عشرَ: مُعَذَّبٌ أنا

1 0 0
                                    

أتى الصَّباحُ زاحفًا حتى أنه استنزفَ محصولَ الصَّبر، وشققتُ طريقي ذاهبةً لجامعتي لكني ما كدتُ أخرج حتى وجدتُ علاء ينتظرُني خارجَ شقتي، أظَنَّ أنه الشمس ليشرقَ مكانها؟

لا تظنّ يا مَن تخبو في هذياني، في صرير أبوابِ القلب المهجورِ؛ فأنت الشمسُ، وأنت النورُ، وأنت البهجةُ والسرورُ، لكن اعذُرني! عليَّ أن أبدو منزعجةً من وجودِك فأنا - اعذُرني فلستُ معتادة على هذه الكلماتِ، ولربما لم أقُلها في منامي حتى - أنا أنثى عطرُها السُّمعة الحسَنة، وقد تخون الأنوفَ الأعينُ فإذا رأتْني معك هيّأت للأنوف الرائحةَ النتنة، ولا أريد أنْ أكون الوردة الشاربة من مياهٍ آسِنَةٍ!

أتيتَ بخطواتٍ ثابتةٍ، لكن شعرتُ بك مُقبلًا مُدبرًا كأنك كنتَ في معركة مع ذاتك،

تتناقضُ مع نفسك لتعقِدَ اتّفاقًا

عيناك تصرخان ناعستيْن، ولكنك قلتَ بصوتٍ فيه حشرجةٌ، وجسدُك ينتفض تعبًا: أريدُكِ لأمر مُهمٍّ.

تبعتُه وهو يسير أمامي دون أنْ أُبدي موافقتي لدعوتِه، وعندما جلسَ جلستُ تاركة مسافة كافية للثِّقة بيننا؛ فالقربُ بين الأجساد دون هوية محدَّدة هو خيانةٌ لعاداتِ مجتمع، ولنُبل أخلاقٍ، والخيانةُ الأكبر هي خيانةُ الجسد للروح الطاهرة.

قال بصوت أجشّ: عليكِ سماعي لآخر كلمةٍ دون مقاطعةٍ، ثُمَّ عليكِ بعثرة كلماتي في فيكِ؛ فلا يسرقها اللسانُ، ويصبح السرُّ فضيحةً، هيّا عِديني أنْ تحفظي السرَّ، فأنتِ كلُّ مَن تبقّى لي.

رغد: أنا أعدُك ... لكن لديك أصدقاؤك ووالدُك وربما أشقاؤك وشقيقاتك؛ فلا أعلمُ إنْ كنتَ تملك ....

علاء: أصغي إليَّ جيدًا، أرجوكِ! فأنا أكاد أُجَنُّ؛ ماذا أفعلُ بحقِّ مَن خلقَ السَّماء؟ فمُصيبتي تجاوزَتْ عنان السَّماء!

رغد: أفزعتَني! قُل وسأكتمُ سرَّك وسأساعدُك بكلِّ ما لديَّ.

علاء: كان لديَّ أسرةٌ جميلةٌ جدًّا، مكونة من أمٍّ حنونٍ، وأبٍ مُناضل، وثلاثة شبان وصبية ذات عينيْن كغزال الريم. وكان أبي يعملُ موظفًا في إحدى الدوائر الحكومية، ويتقاضى راتبًا بالكاد يكفي لقضاء احتياجاتِنا، كان عمري حينها ستة عشرَ عامًا، لكن شاء القدَرُ أنْ يتعرَّضَ بيتُنا لتماسّ كهربائيٍّ ليحترق، ولم ينجُ منه سواي أنا ووالِديَّ، لكنَّ أمّي لم تحتمل ما أصاب أبناءها وبنتَها فأُصيبت بجلطةٍ دماغية سبَّبَتْ لها شللًا كاملًا.

لم يحتمِلْ أبي ذلك؛ فقرر السعيَ للخروج من البلاد، وقد كان مجتهدًا في عملِه، وتسابقَت بعضُ الشركاتِ النفطية الخليجية للسعي للحصول على كفاءاتِه قبل أنْ تنضبَ تحت أيدي الزمن، فيصبح جسدًا لا قيمة له بالنسبة لعالَم الاقتصاد والأعمال. وقامت أمي بالتَّضحية ولعبت دور الحنونِ بإتقان حيث إنها سمحَتْ ببيْع ما تملكُه من الذهبِ لتؤمِّنَ له مبلغًا يسنده في بدايته، وقمنا باستئجار غرفة بمنافِعها، وسرعانَ ما كان أبي يرتقي من منصب لمنصب أعلى، ورغم كثرةِ منافسيه لتلك المناصبِ واجتهاداتِهم، وما يحملونَه من كفاءاتٍ كان أبي يتجاوزُهم ببراعتِه وخبرتِه. وقد وصل الأمرُ في بعض الشركاتِ أنْ تقدّم له شيكات بمبالغ ضخمةٍ مقابل تسريبه لبعض المعلوماتِ، أو مقابل أنْ يثبّط وتيرةِ إنجازاته كما كان يُخبرني، إلا أنه كان يرفضُ حتى استلم رئاسةَ إحدى الشركاتِ الضخمة؛ فأرسلَ إلينا لنعيشَ معه لكنَّ أمي رفضَتْ لأنها تجدُ ريحَ مَن في التراب وذكرياتهم، وإنْ لبَّتْ رغبة والِدِي فهي تقبلُ دعوةَ الموتِ!

من بين أضلعيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن