كعادتِه... أتى بسيارتِه الفارهةِ التي يُقَدَّرُ ثمَنها بمبلغ يحلُّ جميعَ أعباءِ الطلابِ المالية.
عشراتُ الفتياتِ يرمُقنَه بأعينهنَّ في أمنية لو كان للنظراتِ نافذةٌ تقبض على القلوبِ لينلْنَ من قلبِه!
كيف لا؟ و"علاء" ذو الثلاثة والعشرين عامًا يملكُ من جَمال نبينا يوسُف ما يملك بشَعره الكثِّ الأسودِ، ووجهِه الأبيضِ المنير كأنما هو ليلٌ بَهيم مزَّقه القمرُ متمرِّدًا.
وبجسدِه الطويلِ الممتلئ ممّا يُعطيه رونقًا خاصًّا، بالإضافةِ إلى لِحيتِه التي تبدو كلوحةٍ لـيوناردو دافنشي في دقَّةِ تفاصيلها.
ينزلُ من سيّارتِه، فيستقبلُه عشراتُ الشبّان، كَما لو كانَ أحدَ أساتذةِ الجامعةِ الذين يرمُقونَه؛ لعلَّهم ينالونَ النَّعيمَ.
يا لتلك الابتساماتِ الكاذبةِ التي تُزيِّنُ وجوهَهم! فلكلٍّ منهم غايةٌ؛ فمنهم مَن ينظرونَ إليه نظرةَ مموّل لسهراتٍ ورحلاتٍ وسدٍّ لاحتياجاتٍ مالية، ومنهم مَن يريدُ الحظوةَ بإعجاب الفتياتِ من خلالِه، فهم يسعونَ لنيْل صداقةِ طموح الفتياتِ، وحُلم كلِّ واحدةٍ منهنَّ، ولعلَّهم في صداقتهم ينالون ما ينالُه من إعجابٍ، فمَن يجلسُ بالقُرب من مَرمى السَّهْم قد يصبحُ هدفًا له.
ورغم إعجابي بجمالِ وجهِه فإنني أرى فيه غُرورًا يجعلُني أراه شمسًا في يوم قائظٍ!
ولأنَّني لا أُصغي للغة العينِ؛ فهي تعشقُ المظاهرَ، وتهملُ المكنونَ، ولأنَّني لا أجدُ نفسي ساذجةً لأتقرَّبُ منه بالذِّهاب إليه وتصنُّع حديثٍ لأمنح شابًّا مدلّلًا فرصةً للنيْل من كبريائي الثَّمينِ؛ فمَن يحتقرْ كبرياءَه لنيْل غايةٍ تهُنْ عليه نفسُه، وتصبح الغايةُ كابوسًا يُرافقه طيلةَ حياتِه.
أولئك مَن يولَدون وبأفواهِهم مَلاعقُ من ذهَبٍ، وبأسرةٍ تخجلُ كلمةُ "وثير" من الوقوفِ أمام نسيجِها المتناسِق الناعمِ الحريريِّ.
دائمًا ما تقفُ السَّعادة والنجاحُ في جوارِهم، كفانا خداعًا لأنفسِنا وإقناعَها أنَّ المالَ لايصنعُ السَّعادةَ؛ فنحنُ نخدعُ أنفسَنا كيْ نقنعَ بفقرِنا!، وعلى أيِّ حال: نحنُ لا نقنعُ بما قُلنا.
كيفَ أداري حزني؟؛ وقد فُجِعْتُ بوفاة والِدَيّ وأنا ابنة التسعَةِ أعوامٍ بحادثِ سيْر تسبَّبَ به شابٌّ من أربابِ النقود وأصحاب السّيارات الفارهة، وقد فرَّ هاربًا دون أنْ يمنحَهم المساعدةَ وكأنّما كانا يتسوَّلانَ منه الحياةَ فأعرَضَ عنهما! وقد شاء القدَرُ أنْ يُغادرا الدنيا في يوم مولِدي وهما خارجان من أحدِ محلّات الحلوياتِ ليُحضِرا لي قالب كيك لا يتجاوزُ ثمنُه دينارًا واحدًا؛ كي يفرّحا قلبَ ابنتِهما الصغيرة! لطالما تساءلتُ: هل شتمَهما لأنهما لوَّثا سيارتَه بقِطع الكيك المتناثِر؟ أمْ أنَّ بُقع الدم وضعَتْ بصمتَها على سيارته؛ مما جعله فخورًا بالمنظر الجديد لسيارته؟؛ فهؤلاء يهتمّون بالمناظر المرعبة لا القلوب التي تُخلع من الصدور! تُراني لو التقيتُه الآنَ هل أشكرُه على هديَّة عيد مولدي الفريدة؟ فليسَ هناك مِن أحد يهدي اليُتمَ؛ فقد كانت فريدةً من نوعها! وأُقسم لو أني قابلتُه لأهديتُه الموتَ بسكين ينغرسُ بعمق ما أحسستُ به طوالَ إحدى عشرة سنة مضَتْ.
عشتُ في كنفِ خالتي وزوجِها، فقد تمسَّكَتْ بي في ظلِّ رفْض زوجِها الذي جعلَه الفقرُ يهذي فتصيخَ له جدرانُ الغرفةِ الأربعة محبطةً متشقّقة مما سرى على مسامعها، ولا ألومه؛ فقد تكالبتْ عليه الهمومُ والديونُ، ولا ينقصُه أنْ أكونَ القشَّةَ التي ستقسِمُ ظَهر البعير، فقد كان بيتُ خالتي وزوجِها غرفةً بمنافعِها وبالإيجارِ، وزوجُ خالتي يعملُ مُراسِلًا بإحدى الدوائر الحكومية، وكان له ابنٌ يُدعى محمد يكبرُني بعاميْن، وتُوفي بعد خمس سنواتٍ من انتقالي إلى المعيشةِ في بيتهم من بعد ما تكلَّف والده بمحاولاتِ علاجه المتكرّرة من تشوُّه خَلقي بالقلب من لجوءٍ لأطبّاء ومُشعوِذين وسحَرة. كم كان يضربُني بقوةٍ كلما قلتُ له - وأنا الطفلة -: أليس اللهُ من خلَقَه هكذا؟ فلماذا لاتلجأ إلى الله؟! قد قلتُها بأفكارٍ بريئة، وأغلبُ الظنِّ أنه كان يضربُني لأنَّ كلامي كان سوطًا فآلمَه فأراد ردَّه لي.
أعتقدُ أنه كانَ يعتبرُني غرابَ البيْن الذي في بيته ينعقُ!
ولأنني حينَها كنتُ طفلة؛ كنتُ متيقنةً أنني السببُ! لقد فقدتُ أُمّي وأبي لأنَّني أحبهما، وها أنا أفقِدُ صديقي وابنَ خالتي.
لربما ربطتُ حينها بين مَن أُحِبُّ ومَن ينتقيهم الموتُ؛ فقررتُ أنْ أرحلَ من بيت خالتي لأدرأ الموتَ عنها وعن صديقاتِ المدرسة، فحزمتُ أمتعتي التي كانت عبارة عن ثوبيْن بالييْن أحسنَتْ إليَّ بهما إحدى جاراتِ خالتي، وهربتُ من المنزل وقتَ الظهيرة، وبدأتُ بالسيْر بين الأزقّة والطرقاتِ حتى نال مني التعبُ والجوعُ. لفتَ انتباهي لعبةٌ مهترئة ممزَّقة، وقد سقطتْ من إحدى حاوياتِ القمامة فالتقطتُها، وكأنّي وجدتُ لقيطًا يريد مَن يرعاه، وما إن اقتربَ المساء حتى عدتُ للمنزل.
كانت خالتي تجوبُ في ذلك المنزلِ، بعدَ أنْ طرقتْ كلَّ بابٍ تراه:
هل منكم من رأى رغَد؟
أرجوكم، ابحثوا عنها!
أرجوكم، إنها يتيمةٌ نالَ اليُتم من ابتسامتِها فلا تسمحوا له أنْ ينالَ من حضورِها!
لا شيءَ أبلغُ من نشيج يحبس الحروفَ من الفم؛ فتخرج دموعًا من العين.
ما إنْ وضعتُ قدمي داخل عتبة الباب حتى نِلتُ صفعةً قوية من خالتي لم أكَدْ أدركُ ما أصابَني حتى احتضنتْني خالتي وهي تقول: رغد لماذا صنعتِ بي هذا؟... قد خسرتُ كلَّ شيء جميل في حياتي.. أختي وابني ولم يتبقَّ سواكِ؛ فلا تكوني الفناءَ لروحي!
سبحانَ الله! كيف خرجَت الحروفُ من ضباب النشيج لم تكن لتُسمَع لولا صدقُها؟
وجدتُ نفسي أبكي وقد نسيتُ الصفعةَ، ونسيتُ هروبي، ونسيتُ خالتي! شعرتُ أنَّ صوت البكاء يدعوني لأمسية لمشاركته كما لو كانت رقصةً... ألا ليت البكاءَ يحمل ما علَقَ في نفوسنا من ضير وكمَدٍ إلى مكان بعيد، أو يدفنه كما يدفنُ السيلُ ما يتجرّأ على اعتراض مسيرَه