الفصلُ العاشرُ: الدُّموعُ تجمَعُنا فتقرِّبَنا

0 0 0
                                    

لا زال علاءُ على حاله شاردَ الذهنِ، لكنه أصبح أكثرَ التزامًا بحضور محاضراتِه فلم يعُد يفوّت أيًّا منها، ولم يعُد يحلّق من فتاةٍ لأخرى، إلا أنه يبقى بالجامعة حتى المساءِ.

لم يستمرّ عقابي لنفسي طويلًا؛ إذْ لاحظَ أحدُ الأساتذةِ تشابُه الخطوطِ والتَّنسيقِ بين أوراقِنا، واستدعانا لمكتبِه!

كان أسلوبُ الأستاذ بالكلامِ وطريقتُه تُشبه إلى حدٍّ ما أسلوبَ المحققين، وأخذ يُقيم الحُجَّة علينا ليعرِفَ من منّا نقلَ من ورقةِ الآخَر؟ لم يكُنْ علاء موجودًا سوى بجسدِه، يكتفي بالإيماء لما يُلقيه الأستاذُ بالموافقة، لكنه كان ينظرُ إليَّ بنظراتِ الدَّهشة. أمّا أنا، فقد كنتُ أشيحُ بوجهي عنه خجلًا واستحياءً، فكذبتُ واعترفتُ أنَّني كنتُ منشغلةً فاستعنتُ بعلاء كيْ أقومَ بحلِّ الواجباتِ المطلوبة مني، ولا أعلم ما الذي دفعَني للكذبِ؟

أغلبُ الظنِّ أنني لا أريدُ لعلاء أنْ يزداد حزنُه كما جرى معي.

لكنَّ علاء استوقفَ الدكتور وقال:

أستاذي الأكرمَ،

أقدّر لزميلتي موقفَها الحسَنَ، فأغلبُ الظنِّ أنها علمَتْ بوفاة والدتي، ورأتني منهمكًا في حزني نتعاركُ في عناق بعضنا بعضًا، ولربّما شعرتْ بالأسى لما أُعاني فحاولَتْ مساعدتي، وأنا أقدّر لها ذلك، فلا تعاقبْها وعاقبْني.

شعرتُ أنَّ قلبي ارتعدَ من برودة ما علمتُ، فلم أكن أعلم أنَّ أمَّه تُوفّيَتْ فأتَتْ ذكرى والِدَيّ في صدري كأنها طعنةٌ، وبدأتُ أتنهّد وأنتحبُ، فشعر الأستاذُ بذلك وحاولَ أنْ يُصلح الموقف بأنْ سامحَنا، على ألّا نكررَ ذلك.

تجاوزْنا بابَ مكتب الأستاذِ، وأخذ علاء يرنو إليَّ ببصرِه والدمعُ يتلألأ في عينيْه، كانت الدموعُ في عينيْه جبّارة وصبورة، فلم تتنازلْ حتى تسقط، وليست كدموعي المعتادةِ على النزول دومًا كأنما تدركُ أنَّ مهمّتها تكمنُ بالنزول كلّما جاءَ يومٌ بنعيقِه.

بعد برهةٍ، غادرْنا دون كلماتٍ بملامحَ غلبَها السكونُ.

عدتُ لشقّتي، ووجهي محمرٌّ كلما تذكَّرتُ واستحضرتُ ما حدثَ، وأنا أفكر مليًّا كيف لي أنْ أحتملَ النظر إليه في كلِّ يوم سيأتي لينطوي بين دفتَيْ كتاب الحياةِ.

وأنا أعملُ، وقبل النوم، وحتى عندما استيقظتُ والتفكير يطاردني: كيف سأريه نفسي وأنا مَن أساء الظنُّ به مرارًا، بل وحاولتُ الانتقامَ منه؟!

ارتديتُ ملابسي والتقيتُ بسلمى، وذهبنا سويًّا لنرى آخر التطوراتِ التي جرت مع الأستاذ فيما يخصُّ قضية خالتي، لكننا لم نلتقِ إلا بالصدمة تنتظرُنا على هيئة ورقة معلَّقة، وقد كان مضمونها التالي:

[سيتمُّ تكليف الدكتور معتز الزراهية بإعطاء المحاضراتِ، عوضًا عن الأستاذ عمر أبو رتيب؛ نظرًا لسفره خارجَ البلاد لإكمالِ دراستِه] .

هكذا تبدَّد الأملُ، وفاضت بي غدقاتُ الظلام، وهاجر الأملُ للبعيد مجددًا،

أين سأجد مَن يساعدني مجدَّدا؟

سقط رأسي هاويًا على كتف سلمى، وبدأتُ بالنشيج

قد فقدتُ الرغبة بكل شيء..

ألن تملّ رئتي من التنفس وتُنهي حياةَ هذا الجسد؟!

حاولتْ سلمى عبثًا أنْ تُخفّفَ عني، أرادت أنْ تقومَ بواجبِ الصديقة

كما يفعلُ الطبيبُ مع مريض ميتِ العقل حيِّ الجسد؛ يظلُّ يعتني به حتى يملَّ الجسدُ من الحياة ويتوقَّفَ عن العمل .

أنهيتُ محاضراتي، وبدأتُ أجلس يائسةً من حالي السيئة، والتي كلما انتفضتْ ساءت أكثر، وأتى علاء وذهبَ في تمامِ الواحدة ينتحبُ أسفلَ أحد الدرجاتِ وتبعتُه ووقفتُ في الأعلى، وكان جسدُه منطويًا على ذاته، يجلس ويضع رأسَه بين فخذيْه ويبكي، فرفع رأسَه، وجذبَني وجهُه الحزينُ لأنتحبَ بجِواره.

وكأننا في مساجَلةٍ ومنافسة لندركَ مَن منّا حزنُه أعمقُ!؟

لم ننتبه إنْ كان هناك مَن سمع النواحَ، ولم نكن نُبالي؛ فقد أسكرَنا الحزنُ وشربْنا مُدامة المآسي والشجونِ والالتياعِ.

حاولتُ أنْ أتماسكَ، وأنْ أُخرجه وأُخرج نفسي، وقلتُ له: أنا فقدتُ واِلدَيَّ وسُجنَتْ خالتي وهي الشخصُ الوحيد الذي تبقّى لي، بينما أنت لديك والدُك وأقرباؤك، فرفع رأسَه، كانت الدموعُ قد بلّلت لحيته الكثة وبدأتْ تتقاطرُ منها.

قال لي: ليتَني مِتُّ قَبل هذا وكنتُ نَسيًا منسيًّا.

كان صوتُه مترددًا منقطعًا.

قلتُ له: لماذا؟ ما الذي يجعلك تتمنّى الموتَ، وتجلس هنا وحدَك وليس في أحضان والدِك؟

قال لي: عندما تُطعَن بسكين ولا يغادرك الوعيُ فإنك لا تُخرجها؛ فلربما يزدادُ الألمُ ويقتربُ الهلاكُ.

صمتْنا قليلًا حتى استعدْنا بعضًا من جأشِنا، واعتذرتُ منه عن اقتحامِ خلوته بنفسِه، فبادلني بابتسامة، وقال لي: شكرا لكِ! ففي هولِ ما جرى لي تخلّى الجميعُ عني بينما لم يقترِبْ منّي سواكِ، ولا أعلمُ ما السببُ؟

فهل لكِ أنْ تُخبريني عن السببِ!

قلت له: جمعَنا الحزنُ سويًّا، كان شيئًا مشتركًا جذبني لأتجرأ، فلم يفهم أنينَك إلّا من أنَّ مثلَكَ.

فباغتَني بقوله: لماذا لم أنتبِه إليك من قبلُ، ولم تحاولي أنْ تقتربي؟

أجبتُه: لأنك كنتَ مُدلَّلًا وزيرَ نساءٍ، لا تأبه لمشاعر أحدٍ، تسرقُ القلوبَ... ولربما الأجسادَ (قلتُها وقد رافقتْني تنهيدة مع ذِكرى أحلام)...

تتفاخرُ بنفوذِك، ونقودِك فقط!

رأيتُ وجهَه مدهوشًا مشدوهًا، وقال لي بملامح جادَّة:

أعترفُ أنني كنتُ تافهًا وغرَّتْني النقودُ، لكني لم أسرق قلبَ أحد، ولا جسدَ أحدٍ. كنتُ أخرج مع فتياتٍ نأكل سويًّا أو نذهب في نزهة في مكان عامٍّ، ولم ألمس فتاةً أبدًا.

قلت: ماذا عن القلوبِ التي حطَّمتَها؟

أجابني: إنهنَّ أحببنَ ما أملكُ فقط، ولو كان حبُّهنَّ صادقًا لوجدتهنَّ واقفاتٍ مكانَكِ بجواري، لكن ما حدث أنَّ نظراتِ السخرية والازدراء، بل القرف كانت واضحةً من جانبهنَّ.

لم أستطِع الردَّ! اكتفيتُ بالاستئذان، وهممتُ بالمغادرة.

من بين أضلعيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن