الفصلُ التاسعُ: نَحيبٌ يَجْمَعُنا

1 0 0
                                    

مضى شهران، وها قد بدأ فصلٌ جديدٌ، وعليَّ تنظيمُ وقتي بين دراسةٍ وعملٍ، كنتُ قد اتفقتُ مع سلمى على الحضورِ مبكرا كي نسلّمَ على رفاقنا من بعدِ غياب، ولمساعَدةِ الطلَبةِ المستَجدّين، احتللتُ كُرسِيًّا وأخذتُ أداعبُ الانتظارَ ريثما تأتي سلمى.

أخذتُ أحرّك عنقي ملتفتةً يمينًا ويسارًا، فسقطَ نظري على ذلك الشَّخص كان وجهُه مألوفًا لكنَّ لحيتَه كثّة طويلة متداخِلة، ووجهه الأجدب يُشبه غُصنَ شجرة عطِشًا، وجسدُه الهزيلُ وملامحُه الشاحبة الباهتة كادت تُخفي شخصَه!

لا أُصدّق ما رأتْه عيناي، هل هذا علاء حقًّا؟

ما بال ثيابه مخضّبة بالأوساخ؟ ومال بال هيئتِه رثَّة؟

بدت لي عيناه جامدتيْن؛ كأنَّ التفكيرَ سَلب وجودَه من الواقع إلى مكانٍ غير معروف، كان أشعَثَ أغبرَ يمتطيه الهمُّ، ساخرًا من عدم قدرتِه على التحمُّل، كانت نظراتُ الجميع تكلأه بالازدراء والتعجُّب.

اقترب بعضُ الزملاء منه، حاولوا التحدُّثَ معه لكنْ دون جدوى، فثُلمة قلبِه أصابتْ حروفَه بالشَّلل، فما عادت قادرةً على الخروجِ من جوفِه. ألحَّ الفضولُ وأمسكَني من تلابيبِ روحي كي أقتحمَ هدوءه. اتصلتُ بهاتفِه مرارًا وكنتُ أستمع إليه وهو يرنُّ، لكنَّ علاء لم يُبد أيَّ اهتمام بهاتفِه؛ فقد كانَ مهجورَ الجسدِ.

تُرى، ما الأمرُ الجللُ الذي صنع بكَ هذا؟

أتت سلمى بعد طول انتظارٍ، وطلبتْ مني مرافقَتها لكليةِ الحقوق دون أنْ أسألَ عن السبب!

ما إنْ وصلنا إلى هناك حتى أمسكَتْ بيدي، ودخلنا مكتبَ أحدِ أساتذة الجامعة، وسلَّمَتْ عليه وقالت له:

مرحبًا دكتور، صديقتي هذه لديها استفسارٌ بِخصوص قضيةٍ تخصُّ خالتَها التي هي بمثابةِ عائلتِها؛ فهي كلُّ ما تبقّى لها.

أخذَ اللسانُ موضعَه، وضغطَ على الزّناد، وأخذَت الدموعُ بالهطول بغزارة وأخبرتُه كيف سُجِنَت، وكيف عملتُ ليلًا ونهارًا ولم أجمع إلا ثُلث المبلغ؛ فابتسم الأستاذُ ابتسامةً لطيفة وأخبرني أنْ أطمئن، وأنَّ يدي ستحيط بعنقها وتطوّقها من جديد، وأنَّ أنفي سيمرّر من أنفاسها العطرة الكثيرَ الكثيرَ. وقد أخبرني أيضًا أنني يمكنني دفعُ ما جمعتُه وتقسيطُ الباقي شهريًّا؛ وبهذا تخرجُ خالتي وتعيشُ معي، وما جعلني أحبُّ ذلك الأستاذَ أنَّه تبرَّع بأنْ يُتابع القضية بنفسه، ودون أنْ يتَقاضى مقابلَ ذلك.

سارت الفرحةُ حافيةً في زقاق حياتي ناثرةً الأمل في كلِّ مكان، مناديةً في الأثير أنَّ ما بعد الضّيق إلّا الفرج، ويا ليتَ كلَّ فرَج كخالتي!

ذهبتُ لمحاضراتي، كما ذهبَت سلمى بدورِها لمحاضراتِها، ولم أنتبِه لما جرى خلالَها؛ لأنَّ ذهني كان مُشتّتًا بما حدثَ.

إنها الساعةُ الواحدةُ إلا ربع، ونظراتي تُطوّق علاء، وكنتُ متيقنةً أنه سيخرُج من سكونِه ليغادرَ في تمام الواحدةِ مُسرعًا كعادته، لكنني فوجئتُ به يدخلُ الكلية فتبعته حتى انسلَّ تحت الدرَج، وبدأتُ أسمعُ أعزوفةَ النَّحيبِ، أعزوفةً تبدّد القلوبَ، تُسقط السماءَ كسفًا، وتطفئ الشمس.

بدأت ابتسامتي المدهامة تُعاودُ غروبَها أمامَ هذا النَّحيبِ المدجَّجِ بالحُزنِ العميقِ.

كم وددتُ النزولَ إليك لأنطوي بجانبِك وأشاركِك حُزنَك!

ربما اشتقتُ للبكاءِ، أو لعلَّني وجدتُ أحدًا ما يشاركني به لنغيضَ به حتى تغرقَ الأرضُ من تدفُّقِه.

لم أشأ أنْ يشعُرَ باقتحامي، ولمْ أرغبْ بأنْ أسمعَ صوتَه الأجشَّ يخرج مُجبَرًا والغُصَّة تُقيِّدُه.

يبدو أنَّ التَّنهيداتِ بنَتْ في جوفِه مستعمرةً في وقتٍ بدا لي قصيرًا.

لذلك؛ غادرتُ الكليةَ، وانتظرتُ أمامَ البوابةِ الرَّئيسة.

لم تكن سيارتُه الفارهةُ هنا...

دوَّمتُ العينَ مُجدَّدًا، فلم ترَ شيئًا.

لم يكن هناك سوى حافلاتِ الطلاب تحتلُّ الطرقَ والأرصفةَ، وكلُّ سائق يحمل لسانَه ليصطاد طالبًا حتى يملأ حافلتَه، بل ليحملَ عددًا زائدًا من الرُّكاب بقدْر جشَعِه.

انتظرتُ طويلًا حتى ملَّ الكرسيُّ من وجودي، واشمأزّت المحلاتُ والمطاعمُ مُغلِقَةً أبوابَها أمامي، وأسدلَت ألسنة سائقي الحافلاتِ وسياراتِ الأجرة حروفَها.

وما إنْ هممتُ بالذّهاب حتى رأيتُ علاء يمشي، وملامحُ وجهِه جامدةٌ، فيدخل الحافلةَ ويتلاشى بين الرُّكاب.

بدأت الفرضياتُ لحال علاء تراودني عن نفسي؛ تارةً تصف علاء بفتى مدلّل قد فقدَ ثروتَه فلم يتحمّلْ، وتارةً أنَّ فتاة عشقَها سلبَتْ قلبَه كما سلبَ هو قلوبَ الفتياتِ.

وأمضيتُ ما تبقّى من يومي أفكّر، حتى إنني شردتُ كثيرًا وأنا أعملُ؛ فكادت الإبرةُ أنْ تخترقَ أُصبعي.

أصبحَتْ مشاعري متذبذبةً؛ هل هي فرحةٌ لأجل خالتي، أمْ حزينةٌ ومتعجّبة لحال علاء، أم نادمةٌ لأنني خنتُ نفسي الطيبة؟

لا يمكن للإنسان أنْ يأتمن أحدًا ولا حتى نفسه؛ لأنَّ النفسَ أمّارة بالسوء، أليسَت الخيانةُ سوءًا؟!

فكرتُ: كيف لي أنْ أكفّر عن ذنبي تجاهَ نفسي، رغم أنني متيقنة أنَّ علاء استحقَّ ما ناله مني، بل إنني لم أعاقبْه كما يجب!؟؛ فقررتُ أنْ أكتبَ التقارير والواجباتِ لي ولعلاء كنوعٍ من معاقَبة النَّفس، وهكذا بدأت أكتبُ واجباتِ علاء وأسلّمها نيابةً عنه، فقد اشتركنا في جميع المحاضراتِ وكان هذا لحُسن حظِّه.

لم أكن أعلم أننا حين نُطيع الانتقامَ ننالُ من الآخرينَ، ولا ننتبهُ أننا ننالُ من أنفُسِنا، بل نلحقُ بها الأذى بدرجةٍ كبيرةٍ تفوقُ الشخصَ المنتقَمَ منه!

من بين أضلعيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن