٣. ملجأ

1.1K 143 46
                                    

جلس الصديقان على آخر مقعدين في نهاية الحافلة التي كانت خالية نسبيا، متجاهلين نظرات الركاب المشمئزة و المستغربة انزويا و آثرا الصمت محدقين عبر نفس النافذة بملامح تثقلها الهموم نحو الطريق، اقترب مسؤول التذاكر العجوز و صاح فيهما بلؤم:
- أنتما أيا المشردان! اخرجا من الحافلة في الحال فليس لدينا مكان لكما هنا! ما الذي تفعلانه بالجلوس هنا بلا تذاكر حتى؟ ستتسخ المقاعد!

رفع الإثنان أبصارهما نحوه فجأة و هم روي بالتحرك لولا جذب إدوارد له لتثبيته في مكانه، أشار إدوارد بصمت للبطاقتين على أعناقهما ليبتعد مسؤول التذاكر بعدما رماهما شذرا بنظرات كلها احتقار، فرك روي يديه بعصبية و خاطب إدوارد بمرارة:
- لما لم تتركني لأحطم كومة العظام ذلك؟ لقد كنت أريد تفريغ غضبي في شيء ما، و كون ملابسنا متسخة قليلا من الحطام لا يعني أننا متسولون، و كون أهالينا قد ماتوا لا يعني أن كرامتنا قد ماتت.

زفر إدوارد و وجه بصره نحو النافذة بصمت متأملاً انعكاس وجهه المتسخ و نظاراته المشقوقة على زجاج الحافلة بينما تجري بلا انقطاع، ثم قال بيأس:
- لا فائدة، لا أحد سيشعر أو يقدر ما حل بنا يا روي.
من الأفضل أن نبتعد عن الصدامات في الوقت الحالي، و نفكر فيم سنفعله، نحن الآن بلا منزل، و لا عائلة، و لا مال، و لو قمنا بإيذاء أحد و لو عن طريق الخطأ سيرموننا في سجن الأحداث ليتخلصوا منا، لذا أرجوك اصمت قليلاً و لا تضرب أحداً حتى نحصل على خطة لكيفية حياتنا في الوقت القادم.

أومأ روي بهدوء و بحث في طيات قميصه ليخرج آخر فطيرة اختلسها من حقائب المسعفين و يتناولها بصمت، مضت عدة دقائق قاوم فيها رغبته في الحديث ثم تساءل بحذر و فضول:
- إيدي، ماذا حدث عندما عدت و كريس إلى المنزل أمساً؟
هل كانت ذئاباظ؟ أم عصابة؟ لقد هاجمك أحدهم أليس كذلك؟

اخفى إدوارد إرتعاشته المفاجئة و مال مسنداظ رأسه إلى ركبتيه، أجاب بخفوت و كأنه يحادث نفسه:
- لا أعلم، و لا أريد أن أتذكر... لا تتحدث في هذا الأمر مجددا لنستطيع تجاوز الأمر، أرجوك!
ما زلت أحاول نسيان ملامحهما تلك للآن و التفكير بأن كل هذا مجرد كابوس لعين و أن كريس على قيد الحياة لكنه ليس كذلك!

لقد مات الجميع دفعة واحدة و لست أحمد الله على بقائي حياً لكنني أعيش الآن لذا سأستمر فقط!
لن نتحدث في هذا الأمر مجدداً لأنني لا أريد أن أذرف الدموع اللعينة و لا أن أتذكر في كل لحظة أنني صرت يتيما شريداظ، سنتجاوز الأمر؛ لأننا يجب علينا المضي قدماً، حسناً؟

- حسناً يا صديقي، حسناً أنا آسف.
أجاب روي بهدوء و تأمل بصمت زجاج نافذة الحافلة المتجهة بهم نحو العاصمة، فكر لوهلة بإخبار صديقه بأنه يمكنه البكاء لو أراد ليخفف الثقل في صدره لكنه تراجع لمعرفته بكبرياء إدوارد الذي يمنعه من إظهار ضعفه في حافلة مكتظة بالغرباء.

إلى الهاويةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن