قلب رؤوف
كان عبّاس كثيرًا ما يشكرني على كل عمل بنحو يفوق الحد . وبعد ولادة داود ازداد امتنانه وشكره لي عن السابق . في اليوم الأول على وضعي الولد ، كان فقط يسأل عن أحوالي . وكلما انتظرت أن يسأل عن حال « داود » ، لم يسأل . حين عاد بعد يومين ، رأيته لا يسأل عن حال « داود » . قلت : إنّك لا تسأل عن حال الصبي أبدًا ، ولا تفتأ تسأل عن أحوالي » . قال : « إذا كنت أنت بحال جيّدة ، أكون أنا بحال جيّدة ، وداود وكل شيعه بعد يومين أو ثلاثة ، عندما علمنا أن والدي قادمان لزيارتنا ، قلت إلى الآن ، لم أطلب منك مرّةً أن تبقى عندي كثيرًا ، ولكني الآن أقترح أن لا تذهب إلى الجبهة ما داما هما هنا وبناء لطلبي ، كان عبّاس لمرّة أولى وأخيرة ، وفي مدّة يومين ، يعود إلى المنزل ليلا من المكان الذي يكون فيه ، إلى أن غادر والداي . في أحد هذين اليومين ، أخذ والداي الطفل إلى « دزفول » ليختناه . بعد يومين ، وحين غادر والداي ، ودعني عباس أيضا ، وذهب إلى الجبهة . لا أريد أن أقول أصبحت وحيدة ؛ لأنّ السيّدة دستواره ( 1 ) والسيدات الأخريات كن إلى جانبي ، وكن يعتنين بي ويعطفن عليّ ( 1 ) زوجة أحد رفاقه في الحرسه كأخت من أخواتهنّ . ولكن لوجود الرجل في مثل تلك الأوقات قيمة أخرى . والنساء يعلمن جيّدًا أهمية وجود الرجل في مثل تلك اللحظات . عاد عبّاس بعد بضعة أيّام . وقد طاب جرح داود بعد الختان ، وكان يجب علينا الذهاب إلى « دزفول » لفك الضمادة . ذهبنا ، وعندما دخلنا العيادة ، بدا على وجه عباس أنه ليس على حاله . كان من الواضح أنه مرتبك . طلب مني الطبيب أن أفك قماطه ، بعدها توجه إلى عبّاس وقال : « أمسك بيدي الطفل » . . قمت لأفك القماط ، فقال عبّاس فورًا : « أنا خارج » ذهبت إليه ، قلت بهدوء : « ما معنى خروجك ؟ تمهل » قال : « لا يمكنني النظر البتة ، دعيني أخرج » . قلت : « لا يصح أن تتركني وحدي » . قال : « صدّقيني زهراء ، لا أستطيع التحمّل » . . لم ينتظر حتى أرد عليه ، وخرج مسرعًا . ولكنه سرعان ما أرسل إحدى السيدات إليّ . حاله هذه كانت ملفتة بالنسبة إليّ من جهة ، وتدعو إلى العجب من جهة أخرى قلت في نفسي : شخص في الحرب رأي الكثير من القتلى ، ضمد جراح الكثير من الجرحى ، ونقل الكثير من الجثامين بيديه ، كيف لا يمكنه تحمل رؤية طفل موجوعًا لحظات عدّة ؟ » كان العباس أيضا مثل هذه الروحيّة فيما يخصني ، ففي إحدى المرّات جرحت يدي بزجاجة ، لم يكن الجرح بليغا . ما إن وقعت عيناه على الدم ينزف من يدي ، حتى انخطف لونه . لا أذكر ماذا كان في يده ، رماه أرضا ، وقال : « قومي لنذهب إلى المستشفى » . أردت أن أكبس على الجرح للحؤول دون النزف ، فقال : « لا تلمسيها ، علينا الذهاب إلى المستشفى » . . قلت : « ماذا أصابك ؟ وأنت الذي رأيت الكثير من الجراح والإصابات ، لماذا تهوّل الأمر ؟ » لا أدري كيف يمكن الجمع بين الروحيّة العسكريّة ومثل هذه العاطفة . من ناحية أخرى ، لونزلت أسوأ البلاءات على رأسه ، كانت عنده كلسعة بعوض ، وكأن شيئا لم يحصل . دائمًا ، عندما كان أحدنا يرجع من مكان ما ، سواء أنا أم عبّاس ، كان الآخر يقوم له احترامًا . أحيانا كان يقوم لي إذا ذهبت إلى المطبخ ثم عدت . كان يفعل هذا دومًا . ذات مرّة ، حين عدت إلى البيت قام جاثيا على ركبتيه ، ولم يستطع القيام تمامًا كعادته . شعرتُ أن مشكلة قد ألمّت به . في الواقع ، خفت أن أنظر إلى قدميه ، وسألته فقط : هل حدث شيء ؟ » . . قال : « ليس بي شيء ، حالي جيّدة والحمد لله » . وكأنه فهم من نظراتي أنني لم أقنع من إجابته ، فقال بغية صرف انتباهي عن هذا الأمر : أصبحت متطلبة جدًا يا زهراء ، إنها المرة الوحيدة التي لم أقم فيها احترامًا لك ، هل يجب عليك أن تتكلمي بهذا النحو ؟ » . على الرغم من أنني كنت أعلم أنه يمزح ، قلت : « لا قدر الله أن أطلب منك مثل هذه الأشياء » . قال : « إذن ماذا ؟ » قلت : « بنظري أن شيئا ما حصل لرجلك » . قال : « لا يا امرأة ، لم يحصل لرجلي شيء » . كان من المستحيل أن تكون رجله سالمة ولا يقوم لي احترامًا . أصررت عليه كثيرا ، حتى أفصح في النهاية عمّا جرى فقال : في الحقيقة ، مرّت عدّة أيّام لم أستطع فيها خلع حذائي العسكري . والآن ، قد تعفنت أصابع قدمي داخله ، أردت الوقوف فلم أقدر . إنها تؤلمني جدًا » . . حاولت أن أخلع جواربه بهدوء وبحذر شديد . كادت حدقتاي أن تخرجا من مكانيهما من هول ما رأيت . كانت أصابع رجليه قد صارت كقطع لحم مقليّ ؛ وكانت تؤلمه بشدّة لمجرّد لمسها . لكن العجب ، أنه لم يكن يحب إظهار ذلك أبدًا . يومها ، أتى قرابة الظهر ، فقط من أجل تهوية رجليه وتحسين وضعهما . غسلتهما عدّة مرّات بالماء الدافئ ، ونشفتهما بمنديل جاف ونظيف . لم يتغيّر وجهه ولو مرة واحدة من شدة الألم ، ولم يتأوّه . كنت أعلم الوجع الذي ينتابه ، لكنه لم يكن يظهر ذلك . في اليوم التالي ، كلما ألححت عليه ليبقى ريثما تتحسّن حاله ، لم يقبل . انزعجت منه ، وقلت : كن منصفا ، كيف يمكنني أن أتحمّل ذهابك وأنت في هذا الوضع ؟ حبذا لو تبقى يومًا واحدًا على الأقل » نظر إلي نظرة ودودة وقال : « زهراء ، تقع على عاتقي مسؤولية أرواح هؤلاء الشباب . لا يمكنني البقاء أكثر » . . كانت روحيّة التقدير والاحترام هذه موجودة عنده في كثير من الأمور . في يوم من الأيام ، وعندما كنت في كاشان ، أتي هو بعد مدة من الجبهة ، وكان مصابا بزكام شديد ، فأعددت له حساء . وصادف أن كانت أمّي مصابة بالزكام أيضا . وسكبت لكل منهما قليلا من الحساء . وما أن رشفت أمّي الرشفة الأولى حتى أومأت لي ، من دون أن يلتفت عبّاس ، وهمست : « إنها مالحة » . تذوّقت قليلا ، فوجدت أن كلامها صحيح . نظرت إلى عبّاس . كان يأكل بنحو وكأنّ لا مشكلة في الحساء ، سألته : « هل أعجبك ؟ » قال : « جدّا قلت : « أليست مالحة ؟ » قال : « من قال إنها مالحة ؟ بل هي لذيذة جدا » . قلت : « بصدق أقول ، أليست مالحة ؟ » . قال : بالنسبة إليّ ليست مالحة » قلت : « أي ليس فيها أي مشكلة ؟ » . قال : « هل تريدين الصدق ، حامضة بعض الشيء فقط » . فضحكنا جميعًا . هكذا كان تعامله في كل شيء ، حيث كان يمدني بالمعنويّات كثيرًا ، لكي أقدر على تحمّل الصعاب . أساسا كانت روحيّة عبّاس روحيّة المساعدة والليونة ، وليست روحيّة الانتقاد . كان دائم المساعدة . فطوال فترة حملي لم يعطني يوما لباسه المتسخ لأغسله . لم يكن يحضره إلى البيت أصلا ، بل كان يقوم هو بغسله في المنطقة التي يكون فيها . |