9/زواج

5.5K 222 123
                                    

توقّفت عربة المسافرين في آخر محطاتها لتترجل ميرال وبيدها حقيبتها السوداء المُهترئة ذاتها، لا تحمِلُ بداخلها سوى بعض الثياب .. كما خرجت بها ذات يومٍ من السجن ولكن الفرق الوحيد انها اليوم مكسورة الخاطر، مُتعبة الروح، بالكاد تستطيع جمع شظايا قلبها المُنفطر من قسوة الفُراق، لقد كابرت طويلًا وانكرت حُبّها لبحر ولكنها الآن تتلظى بنيرانٍ مؤلِمة ولم يمُرّ على هروبها سوى ساعاتٍ قليلة قضتها في طريقٍ طويلٍ ابعدها عنه مئآت الكيلومترات، بمدينة أُخرى، موحِشة، قارسة، لا تحمِلُ رائحة حبيبها.

تنهّدت بألمٍ وكل نفس يخرُجُ من رئتيها يختلطُ برائحته العالقة بأنفاسها، شعرت بلفحةٍ باردة تمُرُّ بسائر جسدها وكأنه هنا، قريبٌ منها، يعانقها لتنام بسلامٍ بصدره الواسع، لم ترد من الحياة اموالًا او بيتًا، ارادت ذراعيه فقط يحملان عنها ثِقل خيبات السنين، ذراعان يستريح بينهما قلبها المُتعب ولم تكُن لترغب بأكثر من ذلك، ولكن الحياة لها رأيٌ آخر، لقد جلبتها من اقاصي الدُنيا لتُسقطها بين ذراعيه كوليدةٍ وما ان اعتادت عليه وألفت حنانه حتى عادت لتنتزعها منه بقسوة وترمي بها بعيدًا.

مسحت دموعها التي عادت لتسيل مُجددًا لتحرق عيناها كما يحترق قلبها، عادت لتنظر حولها بضياع الى ان لمحتها فتقدمت وعلى شفتيها ابتسامةً مُرتعِشة، فقابلتها سجى بعناقٍ حنون وقالت لها بعِتاب:
- انتظرتكِ طويلًا يا ميرال، لقد خرجتي من السِجن منذُ اكثر من ستة اشهُر، هل ذهبتِ لعائلتك؟!
انتبهت سجى لبكاء صديقتها وملامحها الشاحبة المُتعبة فسحبتها من يدها هامسة برفق:
- هيا الى المنزل، لتستريحي من عناء السفر اولًا.

.
.

ترتجِفُ الكلماتُ على شفتيها، تعضُّ اصابع الندم وهي تقُصُّ على صديقتها قصّتها الحمقاء المُثيرة للشفقة وهي تنجذِبُ الى رجُلٍ يصغرها عُمرًا، تتحدّث وتتحدّثُ بصورةٍ اكثر من المُعتاد وكأنما احتاجت لمن يسمع صوتها المُختبئ دائما وراء حزنها، وكانت سجى الوحيدة العالمة بكُل اسرارها، حتى تلك التي لا يعرفها احدُ عنها.

امرأة في مطلع الثلاثينات، قضت برفقة ميرال ستّة سنوات في السجن بتُهمة الإتجار بالمخدرات.
جذبت انتباهها منذُ مجيئها للزنزانه بقوّتها الظاهرة التي قضت على تجبُّر نادية ملكة المكان التي تدير الجميع حولها بسلطتها المُخيفة، وكانت هي ضعيفةً وتائهة لا تستطيع الدفاع عن نفسها الى ان اتت سجى وسحبتها بجانبها ومنذها تعهّدت كلاهما على القسم بالصداقة الأبدية وبالفعل لم تستطع ايّ منهما نكث هذا الوعد فقد كانتا بجانب بعضهما البعض في أقسى ظروف الحياة، فهل هنالك اقسى من مرارة الظُلم؟!

بالرغم من امتلاكها لرقم هاتف سجى شعرت بالخجل من مهاتفتها فور خروجها من السجن الّا انها عندما فكّرت بالهرب من بحر لم يأتِ ببالها سواها ووجدتها تصِفُ لها مكان سكنها لتجيئ اليها على الفور، فليس لديها احدٌ في هذه الحياة.
- لا بأس يا عزيزتي، لا بأس.

بيوت الرملحيث تعيش القصص. اكتشف الآن