الفصل الرابع: ضميرٌ حي

94 7 5
                                    

إنها المرة الأولى التي أبدو فيها غاضباً لأسماء، فأنا عادةً شخصٌ هادئ ولكن غضبي لم يكن ليمر دون أن يترك أثراً في قلبها، غضبت وصرخت في وجهها قائلاً إن رحلة باريس كانت لأجلها فقط وأنني ما كنت لآخذ إجازةً من عملي لولا أنها ليست بخير وأني أُحملُ نفسي فوق طاقتها بمحاولاتي لإسعادها وإخراجها من كابوس الحمل والإنجاب، لم تنطق أسماء بأي شيء امتلأت عينيها دمعاً ثم جلست، عندما رأيتها في تلك اللحظة شعرتُ بعجزِها وشعرتُ بمدى حقارتي، حينها تمنيت لو أنني خلقتُ أعجم ربما ما كنتُ لأجرحها بكلماتي.

غادرتُ المنزل دون أنطق بكلمةٍ أُخرى ، توجهتُ إلى العمل وضبت مكتبي بعد أن استلمت بضعة ملفات رتبتها ثم أعدت ترتيبها ثم رتبتها على الأحرف الأبجدية ثم أعدت ترتيبها كلُ شيءٍ كان بداعي ألا أفُكر بحماقاتي التي فُعلت ولكن ملامحها كانت تطرأ بين الثانية والاُخرى ، طلبت من السكرتارية إحضار عدة ملفاتٍ سابقة بحجة التدقيق ولكن الحقيقة هي أني أود أن أنسى ما حدث ، دققتُ في الأرواق كثيراً وبين كل ورقة وورقة أسمع صوتي وأنا أصرخ أرى أسماء وهي تجلس عاجزةً ؛ أظنُ أنه الضمير ألا يُقال أنه يؤنب الإنسان إذا فعلَّ شيئاً خاطئاً ولكني عادةً ما أتساءل إذا كان سيؤنبني فيما بعد لماذا لا يؤنبني قبل أن أفتعل الخطأ ، أزحتُ رأسي عن الأوراق والملفات ونظرتُ إلى الساعة إنها ال ٩ مساءاً عادةً أحضرُ البيت عند الثامنة ولكني متأخرٌ اليوم عن الموعد لقد تعمدت التأخر حتى لا أواجه أسماء ، خرجتُ إلى خارج السفارة بعيداً عن العمل أمشي في الأزقة وأنا أُفكر بماذا سيحدثُ إذا ذهبت إلى المنزل ، ماذا سأفعل حيال تلك النظرة نظرةُ الطفل الذي رأى وحشاً أمامه، لم تكن مخطئه الذنب كله ذنبي ، بعد ما فكرت ملياً وقطعت مسافةً كبيرةً في جوٍ شديدِ البرودة سمعتُ صوتي وأنا ألهث لم أنتبه للوقت ولا للساعة ولا حتى للطريق الذي قطعته ، إنها الساعةُ الثانيةَ عشر مُنتصف الليل عُدت أدراجي إلى الخلف ، صعدتُ السيارة ثم بدأت بالقيادة ، إنه المنزل بدأ الخوف يدخل قلبي ليس من رد فعلِ أسماء بل للنظرة التي قد ألقاها بعد ما حدث ، فكرت كثيراً بكيف سأعتذر ماذا ستقول هل ما زالت في المنزل ؟! أخرجتُ المفتاح من جيبي وفتحت الباب لم أستطع أن أقول لقد أتيت كالعادة ولكنها كانت تنتظرني عند الباب لتقول أهلاً بك أظنُ أن يومك كان حافلاً بالعمل لذلك تأخرت، أخذت معطفي وسألتني لمَ أنفي محمّر وِلمَ ألهث هل أتيت راكضاً تلعثمت ثم قلت الطقسُ شديد البرودة في الخارج أجابت نعم لقد حلَّ الشتاءُ مُبكراً، أسرع إلى الحمام اغتسل الماء لا يزالُ ساخناً، كيف لها أن تنسى ما قلتُ لها؟ ما كنت لأستطيع أن أتصرف أن شيئاً لم يحدث، هل ما زالت واقفاً هيا أحمد فأنا أتضوّرُ جوعاً قالت أسماء.

بعد نصفِ ساعة كانت تناديني للعشاء قائلة أحمد ألم تجهز بعد سيبرد العشاء، دخلتُ وفوجئتُ بسفرةٍ مليئةٍ بوجباتي المفضلة، هيا اجلس قالت أسماء، هل تريد تناول الشاي مع الحليب أم بدون؟

- امم مع الحليب.

اختيارٌ موفق لشخصٍ مُصابٌ بالبرد، احسنت.

تعلمُ أسماء أني عندما أشعرُ بالبرد أُفضل تناول الحليبِ الساخن، لكنها كانت كمن يودُ سماع صوتي.

-أسماء أسمعي أعلم أنني...!

أعلمُ أنك كنتَ تعمل حتى هذا الوقت لا عليك، كلانا يبذلُ قصارى جهده، لا تقلق.

تناولت العشاء لا أستطيع القول بأنه كان لذيذاً فأنا رغم جُوعي لم أستطع الأكل لتفاجئي بردةِ فعلٍ لم أتوقعها، وقفت ثم قلت الحمد لله،

أجابت بالهناء، هل ستعملُ قبل النوم أم تريد النوم؟

قلت لها أنني سأقرأ كتاباً قبل أن أنام، ثم ذهبتُ إلى صالة المعيشة أخذتُ كتاباً لم ألحظ وجوده على الرف من قبل، جلست على الكرسي وفتحت الكتاب ثُمَّ وضعته على صدري، نعستُ وأنا أفكر ولا أعلمُ كيف خلدتُ للنوم.

-

في الصباحِ استيقظتُ على شعاع الشمس الذي يجتاح وجهي الكتابُ ليس على صدري بل على الطاولة بجواري نظاراتي كذلك ليست على عيني وهناكَ لِحافٌ دافئ يغطيني حاولتُ النهوض لشعوري بألآمٍ مختلفة ف ظهري قد تصلب من النوم على كرسي، أسماء كانت تنام على الأريكة المقابلة ليست ممتدة بل تجلس واضعةً رأسها نُصبي كمن يراقب حتى قطعَ النوم مُراقبته، تصرفنا وكأن شيئاً لم يكن بعدها، كُلٌ منا مارس نشاطاتهُ اليومية بكل أريحيةٍ.

أنهت أسماء تخصصها الجامعي في عام 1992، وقررت أن تبحثَ عن وظيفة لكي تمارس ما تعلمته وجدت وظيفةً في دارٍ لرعاية الأيتام توظفت هُناك ثم شرعت بالعمل، كان لكلٍ منا حياته ُالعملية الخاصة تجمعنا سفرة عشاء نروي ما حدث معنا في النهار ووسادة واحدة لننام عليها، كنتُ أشعر بلمعانِ عينيها وهي تتحدث عن الأطفال ولا سيما آدم كانت تتكلم عنه بطريقة لطيفة تجعلني أشعرُ بالغيرة بعد أشهرٍ من مزاولتها للمهنة في دار الأيتام أخبرتني بإحدى أفكارها الجنونية وهي أن نتبنى طِفلاً، ما رأيك أحمد ختمت سؤالها؟

- نتبنى؟! هل أنتِ جادة.

نعم، نأخذُ طفلاً من الميتم حتى نربيه ونهتم به.

- أسماء أرجوكِ أغلقي هذا الموضوع لا تدعيني أسمع ذلك مجدداً.

أغلقت أسماء الموضوع ولم تحدثني عنهُ مجدداً.

-

عامٌ جديدٌ مُقبل وهنا في لندن يستعدُ الناس لعيد رأس السنةِ الميلادية بتجهيز الهدايا وتزيين الشوارع بالمصابيح المختلفة وتمني أمنيات رُبما لا تتحقق ابداً، ومزاولة الخرافات لديهم لا تنتهي ابداً ك الخرافةِ التي تقول أن الشخص الذي تقضي معهُ ليلة رأس السنة يبقى معك في عامك القادم، أما بالنسبة لي فلم تكن بداية العام جيّدة ، تعرضتُ لحادثٍ وأنا في طريقي للعمل ما جعلني أدخلُ المشفى لمدة أسبوعٍ كامل القليل من الرضوض في أضلاع الصدر توقفتُ عن العمل لمدة أسبوعين وأسماء كذلك حتى تعتني بي ، في شباط من عام 1994صدر قرارٌ مُفاجئ بنقلي ك سفيرٍ في كندا لوفاةِ السفير السابق، و كان هُناكَ من هو كفؤ ليحلَ مكاني، غادرنا لندن أنا وزوجتي إلى كندا .

يتبع...

مولودة الشتاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن