مع النَّبِي ٣ : آسيا بنتُ مزاحم !
روى أبو يَعلى في مُسنده عن أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال :
إنَّ فرعون أوتدَ لامرأتِه أربعةَ أوتادٍ في يديها ورجليها
فكان إذا تفرَّقُوا عنها ظللتها الملائكة
فقالت : " ربَّ ابنِ لي عندكَ بيتاً في الجنَّةِ ونجِّنِي من فرعون وعمله ونجِّنِي من القوم الظالمين"
فكشفَ لها عن بيتِها في الجنَّة !الدَّرسُ الأوّل :
يحاربُ اللهُ الطغاةَ من بيوتهم
من قصر الذي قال : " أنا ربكم الأعلى "، خرج نبيٌّ !
ومن غرفة نومه خرجتْ إحدى أعظم النَّساءِ في التَّاريخ
يريدُ الله أن يخبره كم هو عاجز !
ذبحَ آلاف الأطفال في طلب موسى عليه السّلام
ثم لمّا عثرَ عليه رغماً عنه ربّاه في قصره
جعلَ ألوفَ النساء تسجدنَ له
ولكنه عجز عند امرأته، لأنَّ القلوبَ بيد الله، وإنْ ملكَ النَّاسُ الأجسادالدَّرسُ الثَّاني :
مساكين أولئك الذين يعتقدون أنّ الدِّينَ أفيون الشعوب
وأنه ليس إلا مخدر يتعاطاه الفقراء ليُصبِّروا أنفسهم
فيعيشون على أمل الجنة، كما يعيش السَّائرُ في الصحراء وراء السَّرابِ يحسبه ماءً !
هذه سيدة مصر الأولى، زوجة الملكِ الذي يحكم
وزوجة الإلهِ الذي يُعبد من دون الله
يكفيها أن تأمر لتطاع ...
وأن تنادي لتُجاب ...
ولكنَّها علمتْ أن ما عند الله خيرٌ وأبقى
لم تؤمنْ بأنهارِ الجنَّةِ من عطشٍ
ولم تؤمنْ بثمارها من جوعٍ
ولم تسألْ بيتاً في الجنة لضيق بيتها في الدنيا
كانتْ سيِّدة القصر، وسيِّدة البلد، وسيِّدة النَّاس
ولكنها رأتْ أن الغِنى الحقيقيّ هو غِنى القلب
وأنَّ الثَّراءَ الحقيقيّ هو ثراءُ الإنسان بربِّه
وأنَّ كلَّ البيوت مقارنة بالجنِّةِ ضيّقة
فكأنها قالتْ لفرعون : خُذْ كل ملكك واتركني لربي !الدَّرسُ الثَّالث :
قيل لبلالٍ رضي الله عنه بعد أن سطعَ نجمُ الإسلامِ في سماء العالم :
كيف كنتَ تصبرُ على تعذيب أمية بن خَلفٍ لكَ ؟
فقال : كنتُ أخلطُ حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فأصبر !
الإيمان مركّبٌ عجيب إذا تملَّكَ من القلبِ قَلبَ حال الناس
وإنْ صبرَ بلالٌ فليس في الأمر عجباً كثيراً
بلال رجل، والرجال أكثر صلابة في البنية الجسديّة من النِّساء
وهو قبل هذا كان عبداً وقد اعتاد العمل والمشقَّة
ولكن العجب أن تصبر امرأةٌ مُنعمة اعتادتْ على العزّ والدَّلال
على كلَّ هذا العذاب
وضعها فرعونُ على لوح من خشب
ودقّ الأوتاد في يديها ورجليها
فكانتْ كالجبل لا يئنُّ عندما تقطع الفؤوسُ الصَّخرَ من خاصرته !
وكالأشّجار العملاقة لا تبكي عندما تمخرُها المناشير
جسدٌ رقيقٌ يُعذب في الأرض
وروحٌ صلبة تُحلّقُ في السَّماء
وقبل أن تُسلم الرُّوح تبتسمُ، كما يقول ابن كثير في تفسيره
فيُجنُّ فرعون ويقول : أما زالتْ تبتسمُ ؟
لم يكن يعلمُ أنَّ الله أراها البيتَ الذي سألته إياه في الجنة !الدَّرسُ الرَّابع :
كان الله قادراً أن يُنجيها من العذاب
فالذي أرسل لها ملائكةً تُظللها لن يعجزه أن يرسلهم ليخلِّصُوها
ولكنه سبحانه جعلَ الدُّنيا دار زراعةٍ لا دار حصاد
وآسيا زرعتْ في الدُّنيا لتحصدَ في الآخرة
فأراد اللهُ أن يُنمي لها زرعها !
إياكَ أن تسيء الأدبَ مع الله إذا نزلَ العذابُ بأهلِ الإيمان
كما يقولُ الحمقى إذا رأوا الباطلَ ينتصرُ في معركة : أين الله ؟!
إنَّ الله أطلقَ أيدي النَّاس على بعضٍ ليس عن عجزٍ منه
وأمهلَ الظالمين ليس عن قلة جُندٍ عنده
ولكنه جعل هذه الحياة امتحان
كيف سيرسبُ الظَّالمُ إن لم تكن عنده الحُريَّة أن يظلم ؟
وكيف سينجحُ العادلُ إن لم تكن عنده الحرية أن يعدل ؟
ثم متى كان الطريقُ إلى الجنة مُعبَّداً بالورود ؟
هذا طريقٌ مشى فيه نوحٌ عليه السّلام تسعمئةً وخمسين سنةً من المشقَّة
وطريقٌ نُشر فيه يحيى عليه السّلام بالمنشار
وطريقٌ أُلقي فيه إبراهيمُ عليه السّلام في النَّار
وطريقٌ أُضجعَ فيه إسماعيل عليه السَّلام للذبح
إنَّ الجنَّة غالية !الدَّرسُ الخامس :
من خانَ اللهَ لا تتوقعْ منه الوفاءَ مع النَّاس !
لا تستغربْ أن فرعون صلبَ امرأته دون أن يراعي العشرة والصُّحبة
فهو لم يراعِ إحسان الله إليه من قبل !
وعندما يُعذب أميّة بن خلفٍ بلالاً دون أن يراعي سنوات طويلة من الخدمة
فهو عقّ اللهَ قبل أن يعقَّ مولاه
وأحسن ما قالته العجائز : خَفْ ممن لا يخاف الله !
لا تنتظر الأدبَ من قليل الأدبِ مع الله
من لم يقمْ بحقِّ اللهِ فهو عن حق الناس أعجز !
لهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه
لأنَّ الذي همَّه رضا الله فسيرضيه في خلقه
ولا تُزوج ابنتكَ إلا لتقيٍّ
إذا أحبها أكرمها وإذا لم يحبها لم يُهنها !من كتاب : مع النَّبِي / أدهم شرقاوي