٧. جرة ذهب

272 23 0
                                    

مع النَّبِي ٧ : جرّة ذهب !

روى البخاريُّ في صحيحه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
اشترى رجلٌ من رجلٍ عقاراً له
فوجدَ الرجلُ الذي اشترى العقار في عقاره جرّةً فيها ذهب
فقال له الذي اشترى العقار :
خذ ذهبك مني، إنما اشتريتُ منك الأرض ولم أبتعْ منك الذَّهب
وقال الذي له الأرض : إنما بعتكَ الأرضَ وما فيها
فتحاكما إلى رجل، فقال : ألكما ولد ؟
قال أحدهما : لي غلام
وقال الآخر : لي جارية
قال : أنكِحُوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدّقا !

الدَّرْسُ الأوَّل :
الورعُ في هذه القصة مُذهل
سواء من البائع أو من المشتري
وقد قال الأوائل : الورع ترك تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام !
وهذا برأيي - بعيداً عن جمال العبارة وحسن تنميقها -  شاق وفيه مبالغة
وأجمل ما قيل فيه قول ابن تيمية رحمه الله :
الزُّهدُ تركُ ما لا ينفع في الآخرة
والورعُ ترك ما تخاف ضرره في الآخرة !
إذاً ترك أغلب الحلال لا يلزم ليكون الإنسان ورعاً
وما دام الله قد أحلَّ شيئاً فهو حتماً لا يضر بالآخرة
ولكن أحياناً لا تكون الأمور واضحة جليّة، هنا يأتي دور الورع
فالذي اشترى الأرض إنما تورَّعَ أن يأخذ جرّة الذهب
لأنه اعتبر أنه سيأخذ ما ليس له
لأن صك البيع شمل التراب ولم يشمل ما فيه
والبائع إنما تورَّعَ عن أخذها
لأنه اعتبر أنه باع الأرض بما فيها
وما أجمل أن يتعامل الناس فيما بينهم بالورع قبل أن يتعاملوا بالعقود
وأن يتعاملوا فيما بينهم بالأخلاق قبل أن يتعاملوا بالقوانين
وعلينا أن نعرف أن القوانين والمحاكم إذا أعطتنا ما ليس لنا
فهذا لا يجعله حلالاً !
وقد قال سيدنا صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر
وإنكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضُكم أن يكون ألحن بحجته من بعض
فأقضيَ له على نحوٍ مما أسمع
فمن قطعتُ له من حق أخيه شيئاً
فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار " !

الدَّرْسُ الثَّاني :
القصَّة تثبتُ أن الملكية الفردية قديمة قدم الإنسان
وقد دأب الشيوعيون على إخبارنا أن الملكية الفردية كانت معدومة قديماً
وأن أول نظام عرفته البشرية هو الشيوعية الأولى
حيث لم يكن أحد يملك شيئاً !
فكانت هناك شيوعية في كل شيء
في الأراضي حيث لم يكن يملكها أحد وإنما هي للجماعة
وفي النساء حيث كانت أي امرأة من حق أي رجل !
وهذا افتراض عقيم بلا حجة ولا دليل
على العكس تماماً فإن الإسلام يُكذب هذا الادعاء بالأدلة والبراهين
وأول البشر على ظهر الأرض آدم وأولاده من صلبة مباشرة
وقد قتل قابيل أخاه هابيل بسبب شجار على أحقية كل منهما بالزواج من امرأة
فأين هي الشيوعية الجنسية التي يتحدث عنها هذا الفكر العقيم
وقبل حادثة القتل كانت هناك محاكمة
بأن قدّم قابيل وهابيل مما يملكان قرباناً
فكان قابيل مزارعاً وهابيل صاحب غنم
إذاً لم يكن الزرع مشاعاً للجميع وإنما لصاحبه
ولم تكن الأغنام مشاعاً للجميع وإنما لصاحبها
وليس البغاء أول مهنة في التاريخ كما يزعم هؤلاء
وإنما كان الناس يحصدون ويزرعون ويتبادلون السلع بما يشبه البيع اليوم
والملكية الفردية ليست سبباً في نزاع الناس فيما بينهم
وإنما جشع الناس ونظر بعضهم لما في أيدي بعض
وعلاج الجشع لا يُحلُّ بجعل الملكيات مشاعاً
وإنما بتربية النفوس وتهذيبها
وهذا منطق عقيم كمن يقول لك : علاج الاغتصاب
أن تكون كل النساء مشاعاً !

الدَّرْسُ الثَّالث :
إنَّ الله وزّع َالأرزاق بالعدل ولم يوزعها بالتساوي
لأنَّ العدل مبدأ أسمى من المساواة !
وقد أعطى أحدنا عقلاً دون مال كما كان لقمان
وقد يعطي مالاً دون صحة
وقد يعطي زوجةً دون ولد
وقد يعطي زوجاً دون أخلاق
وقلما يجمع الله الدنيا كلها لأحد !
فكما يقصد المحتاج غنياً إذا نزلتْ به الحاجة
على الناس أن يقصدوا صاحب العقل في النزاع
فالبائع والمشتري في الحكاية تخاصما في جرة الذهب ورعاً
وإلا فإن كل واحد منهما قد يتنازلُ عنها لصاحبه
ولكنهما احتكما إلى من وجدا أنه يملكُ عقلاً ورأياً
فكان الحلُّ العبقريَّ الذي أنهى الخصومة ولم يصب الورع بأذى
فاعرفْ على من تعرض مشكلتك
البعضُ يجعلون من المشاكل الصغيرة مشاكل أكبر
فينطبقُ عليهم المثل العاميُّ : جاء ليكحلها فعماها !

الدَّرْسُ الرَّابع :
ما أجمل الخصومة بين النبلاء
الجشعون يريدون حقهم وحق غيرهم
أما النبلاءُ فلهم شأنٌ آخر
إنهم حتى لا يحتاجون إلى حكم بينهمم
تماماً كما قال ابن ذاك الأعرابي لأبيه
كان الأبُ يحكم ويقضي بين الناس
ولما بلغ من العمر عتياً أحزنه أن هذا البيت
لن يعود مقصوداً كما في حياته
فقال له ابنه الوحيد : أنا أقضي بين الناس عنك
فقال الأب لابنه : إذا تخاصم إليك بخيل وكريم ماذا تفعل ؟
فقال : آخذُ من الكريم للبخيل
فقال له : وإن تخاصم إليك بخيلان ؟
فقال : أُعطي مني وأصلح بينهما
فقال له : وإن تخاصم إليك كريمان ؟
فقال له : كريمان لا يحتاجان إلى حكم !
فطابتْ نفسُ الأب بعقل ابنه

من كتاب : مع النَّبي / أدهم شرقاوي

مع النبيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن