١٢. سارة والفرعون

356 15 0
                                    

مع النَّبِي ١٢ : سارة والفرعون !

روى البخاريُّ في صحيحه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
لم يكذبْ إبراهيمُ النبي عليه السلام إلا ثلاث كذباتٍ
ثنتين في ذات الله !
قوله : " إني سقيم " وقوله : " بل فعله كبيرهم "
وقال : بينما هو ذات يومٍ وسارة إذ أتى على جبارٍ من الجبابرة
فقيل له : إن ها هنا رجلاً مع امرأة من أحسن النَّاس
فأرسلَ إليه فسأله عنها، فقال : من هذه ؟
قال : أختي !
فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرضِ مؤمن غيري وغيركِ
وإن هذا سألني فأخبرته عنكِ أنكِ أختي، فلا تكذّبيني
فأرسل إليهما، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأُخذ
فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي، ولا أضركِ، فدعتْ فأُطلقَ
ثم يتناولها الثانية، فأُخذ مثلها أو أشدّ
فقال : ادعي الله لي، ولا أضركِ ! فدعتْ فأُطلق
فدعا بعض حجبته، فقال : إنكم لم تأتوني بإنسانٍ، إنما أتيتموني بشيطان !
فأتتْ إبراهيمَ وهو يصلي، وقالتْ :
كفَّ اللهُ يد الفَاجر، وأخدم هاجر !

الدَّرْسُ الأوّل :
يقودنا هذا الحديثُ الشَّريف إلى الحديث عن عصمة الأنبياء
وللعلماءِ فيه قولان شهيران معتبران
الأول : عصمة الأنبياء المطلقة في الدين والدُّنيا فلا يصدر منهم الخطأ
الثاني : العصمة في الدين والإبلاغ عن الله، واحتمال وقوع الخطأ في شأن الدُّنيا
وأنا إن كنتُ أميل إلى الرأي الثَّاني
فلا أرى فيما أفهمُ من هذا الدِّين إمكانية كذب الأنبياءِ ولو في الدُّنيا
لأننا لو قلنا به لكانَ هذا فتح باب في مناقشة الكذب في الدعوة
والأنبياءُ أكرمُ من هذا وأرفعُ شأناً
والله أحكم وأحزم أن يعصم في الدِّين ولا يعصم في الكذب ولو كان في الدُّنيا
فأما كذبتيْ إبراهيم في ذات الله
فالواضح منهما أنهما من باب إقامة الحُجّة على قومه لا أكثر !
وأما الكذبة مع الفرعون فهي تدخلُ كما أرى في باب التورية !
فالمسلمُ أخو المسلم وسارة أختُ إبراهيمَ ديانةً لا نسباً
وفي المعاريضِ مندوحة عن الكذب كما قال سيِّدنا صلى الله عليه وسلم
وقد استخدمَ _ بأبي هو وأمي _ التورية
فيوم هجرته مع أبي بكر، سأله أعرابي : من أيِّ القبائل أنتم ؟
فقال له صلى الله عليه وسلم : نحن من ماء !
فقال الأعرابيُّ : قبائلُ العربِ كثيرة
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه من الماء الذي خُلق منه الناس !

الدَّرْسُ الثَّاني :
وبما أنّ الحَديث عن الكذب فمن نافلة القول أن نُعرِّج على مواضع إباحته !
يبيحُ الإسلام الكذب في ثلاث حالات :
الأول : الكذبُ على الأعداء
فليس من المعقولِ أن يأخذوا أسيراً مسلماً ثم يسألوه فيصدُقهم !
والحكمة من إباحته هنا، رفعُ الضرر عن جماعة المسلمين
أما الثَّانية : فالكذب لإصلاح ذات البَينِ
حيثُ يباحُ لمن أراد أن يُصلح بين متخاصمين أن يذكرَ كلاماً طيباً
لم يقله أحد المتخاصمين في الآخر !
والحكمة منه رأبُ الصَّدعِ بين النَّاسِ لصلاح دنياهم
وأما الثَّالثة : فهي كذبُ الرجل على زوجته، والزَّوجةُ على زوجها
وهو كذبٌ من بابِ تطييب الخواطر والمُجاملة وحسن العشرة
لا يدخلُ فيه الكذبُ الذي فيه ضرر وخداع وغش
كثناء الرَّجل على طعام زوجته والإشادة به وهو غير ذلك
أو مدحها والغزلُ بها وإخبارها أنها أجمل امرأةٍ في الدُّنيا وهي ليستْ كذلك
وما يُقال في الرجل يُقالُ في المرأة
فقد سألَ رجلٌ زوجته إن كانتْ تحبُّه وناشدها الله أن تصدقه
فقالتْ له : أما إنك قد ناشدتني الله، فلا أحبك !
فشكاها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فأرسلَ عمر في طلبها .. وأنَّبها
فقالت له : يا أمير المؤمنين، أتريدني أن أكذبه !
فقال لها : نعم اكذبيه، أكُلُّ البيوتِ بُنيتْ على الحُبِّ
ألا إنَّ الناسَ يتعاملون بالمروءة والذِّمة !

الدَّرْسُ الثّالث :
خرجتُ إلى الطبيعةِ صبيحةَ ليلةٍ كان فيها عاصفة هوجاء
فوجدتُ كثيراً من الشجر قد انكسرَ وصار ركاماً
أما الأعشاب فكانت على حالها سليمة معافاة
فتعلمتُ درساً بليغاً هو : أحياناً على المرء أن ينحني !
العاقل ُيُقدّر المواقف ولا يخوضُ صراعاً خاسراً
علينا أحياناً أن نُقدر قوَّة الخصم جيداً
لأن أي خطأ في الحسابات يعني نهايتنا !
وأحياناً تغدو الطريقة الوحيدة للفوزِ ببعضِ الخلافاتِ هي عدم خوضها أساساً
وقد كان إبراهيمُ عليه السلام حكيماً
كان يعرفُ أنه إذا وقف في وجه الفرعون وماتَ سيموت شهيداً
ولم يكنْ عليه السلام جباناً ولا زاهداً في الشَّهادة
ولكنه كان يعلمُ أنه أُرسل لأمرٍ أعظم من أن يُفرط فيه في مواجهة
فأخذَ بالأسبابِ ما استطاع وأوكلَ الأمرَ إلى ربِّه
ولأنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ عادتْ الزوجة التي أرادها الطاغية لنفسه
سليمةً معافاة في شرفها، ومعها امرأة صارت فيما بعد زوجةً أخرى !

الدَّرْسُ الرَّابع :
بنتُ الأصل لا تمنُّ على زوجها !
كانتْ سارة من أجمل نساءِ الأرض
وقد قال بعضُ المُفسرين أن جمال يوسفُ عليه السَّلام هو عرق من جدته سارة !
ورغم هذا الجمال كلّه، كانت أديبةً حبيبة
تعينُ زوجَها على الحقِّ ولا تتكبر عليه بجمال حباها اللهُ إيّاه
وكذلك كانتْ أمنا خديجة رضي اللهُ عنها بنتَ أصلٍ
فاحشة الثَّراء وزوجها صلى الله عليه وسلم من أفقر النَّاس
وقد تركتْ مالها كلَّه بين يديه
ولم تجعلْ هذا الفارق الماديِّ حَجرَ عثرةٍ في طريقِ زواجهما
وهذا ما جعلها كبيرةً عنده حتى بعد موتها
وما كان يرضى أن تُمسَّ بكلمةٍ وهي تحتَ التراب
وقد كانتْ عائشة رضي الله عنها تغارُ منها لكثرةِ ذِكره لها
وقالت له يوماً : أما زلتَ تذكرها وما كانت إلا عجوزاً في غابرِ الأزمان
وقد أبدلكَ الله خيراً منها
فقال : واللهِ ما أبدلني اللهُ خيراً من خديجة، تلكَ امرأةٌ رُزقتُ حبَّها
أعطتني إذ حرمني النّاس، وآوتني إذ طردَني الناس، وآمنتْ بي إذ كذَّبني الناس !

الدَّرْسُ الخامس :
المسلمُ غالٍ، والحفاظُ عليه مطلبٌ شرعيّ !
صحيحُ أنه ليس جباناً، وأنَّه مَرْحبًا بالموت إن كُتب
ولكن الناس ليسوا قرابين تُزهقُ وبالإمكان حقنُ دمائِها
وقد كان عمرُ رضي الله عنه معجبًا بفتوحاتِ عمرو بن العاص رضي لله عنه
لأنَّ عمرو كان داهيةً كما هو معلوم، يعقدُ الأحلافَ ويتجنّب الخصوم
ولا يخوضُ معركةً بإمكانه أن يتركَ للعدوِّ بابًا للهربِ منها
وقد كان عمر يقولُ : لعمري هذا هو النَّصر !
كان يُعجبه في القائد أن يحقنَ دماء جنده وأعدائه إن استطاع !
أن يصل إلى غايته دون دمّ
هذه حقيقة يجب أن لا تغيب عن القادة حتى وهم في ساحات الوغى
ليعتبروا بحفاظ إبراهيم عليه السّلام على نفسه
وبدهاء عمرو وثناء عمر !

من كتاب : مع النَّبي / أدهم شرقاوي

مع النبيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن