مع النَّبِي ٨ :ماشطة ابنة فرعون !
روى أحمدُ في مسنده أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
لما كانتْ الليلة التي أُسري بي فيها أَتتْ عليَّ رائحةٌ طيبة
فقلت : يا جبريل ما هذه الرائحة ؟
فقال : هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها
قلت : وما شأنها ؟
قال : بينما هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم إذ سقط المشط من يديها
فقالت : بسم الله
فقالت لها ابنة فرعون : أبي ؟!
قالت : لا ولكن ربي وربُّ أبيك الله
قالت : أخبره بذلك ؟
قالت : نعم
فأخبرته، فدعاها، فقال : يا فلانة وإن لك ربَّا غيري ؟
قالت : نعم، ربي وربك الله !
فأمر بقِدْرٍ من نُحاس فأحميت ثم أمر أن تلقى هي وأولادها فيها
قالت له : إن لي إليك حاجة
قال : وما حاجتك ؟
قالت : أحبُّ أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا
قال : ذلك لك علينا من الحقّ !
قال : فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحدًا واحدًا
إلى أن انتهى ذلك إلى صبيّ لها مُرضَع وكأنها تقاعست من أجله
قال : يا أُمّاه، اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة !الدَّرْسُ الأوَّل :
عدد الذين تكلموا في المهد فيه أكثر من رواية
فرواية مسلم تقطع أنهم ثلاثة : عيسى عليه السلام، وابن الراعي في قصة جريج العابد
والطفل الذي رد على دعاء أمه وسيأتي بيان القصة لاحقاً
وتضيف رواية أحمد واحداً رابعاً هذا خبره
ولا يفوتنا ذكر الطفل الذي شهد ليوسف عليه السلام بالبراءة
وإنها إن كانت من الإسرائليّات فليس في شرعنا ما يردّها
وقد قال سيّدنا : حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج
وطفل الأخدود الذي ورد في رواية مسلم
وبهذا يصبح العدد ستة !الدَّرْسُ الثَّاني :
كتْمُ المعتقد إذا كان سيؤدِّي إلى الهلاك لا شيء فيه
فها هو القرآن يمدحُ مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه بقوله :
" وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتمُ إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله " !
ولقد كان كتمان الإيمان في حالته أنفع له من وجوه
فهو أولاً : حافظ على حياته، ففرعون الذي قتل زوجته لإيمانها
لم يكن ليرحم أحداً من قرابته إذا آمن بموسى عليه السلام
ثانياً : كان قريباً من القصر يعرف ما يدور فيه
وما يخطط له فرعون وما يكيد له
وعين في قصر العدو خير من سيف في مواجهته !
ثالثاً : لم يكن الجهر بالإيمان سيجرُّ منفعة إلا منفعة شخصية
إذ بقتله سيرتقي في الشهداء كآسيا والماشطة
ونجاة الدعوة وفوزها مقدمة على نجاة الأفراد وفوزهم
كذلك لا يمكننا أن نقول أن آسيا يوم جهرت بإيمانها كانت متهورة
ولا أن الماشطة لم تحسب العواقب جيداً
فسيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه فقتله
ويُحسب للماشطة ثباتها وشجاعتها وقوة إيمانها
فهي بعرف هذا الزمن ليست إلا خادمة
بينما فرعون بعرف أهل مصر فهو الملك الحاكم والإله المعبود
وأن تتحدى خادمة السُّلطة السِّياسية والدِّينية المتمثلة بشخص فرعون
لعَمري هذه الجرأة التي ما بعدها جرأة !الدَّرْسُ الثَّالث :
الإيمان عندما يتمكن من القلب
يُحوّلُ صاحبه من مجرد إنسان من لحم ودم إلى جبل لا يركع ولا يلين
وهذا شأن المؤمنين في كل العصور
آسيا المرأة الرقيقة تصبر على الصلب
والماشطة المرأة الضعيفة لا تهتز ولا تلين
بلال لا تُركعه رمال مكة الملتهبة
ولا الصخرة الضخمة التي وضعها أمية بن خلف على صدره
هو صوت واحد لا ينقطع في مواجهة العذاب : أحد .. أحد !
والسَّحرة الذين جاؤوا لنزال موسى عليه السّلام
قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبوا
وقولهم يومئذ لفرعون : " إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " !
وفي صحيح البخاريِّ :
" قد كان مَنْ قبلكم يُؤخذ الرَّجلُ ويُحفر له في الأرض فيُجعل فيها
ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين
ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه
ما يصده ذلك عن دين الله " !
عندما يجعل الله طريقك إلى الجنة معبدة
فهذا من فضله وكرمه سبحانه
فلعله علم أنك لا تصبر على البلاء
فرفعه عنك !
وعندما يمتحنك إياك أن تلين
تأسَ بمن كانوا قبلك
وليكن شعارك في وجه كل طاغية قول السحرة لفرعون :
" إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " !الدَّرْسُ الرَّابع :
الذي يتصدَّقُ ليس كارهاً للمال
والتي تتحجبُ لا تكره الأزياء والموضة
والذي يُقدم على ساحات الموت طلباً للشهادة لا يكره الحياة
والماشطة التي قُتل أولادها أمام عينيها
لم تكن ناقصة الأمومة
هؤلاء يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى
وانظرْ إليها وهي على بعد لحظة من الموت
كلُّ ما تفكر به أولادها !
وتطلب من فرعون أن يجمع عظامها وعظام أولادها ويدفنهم معاً
ولولا قلب الأم ما طلبت من طاغية طلباً
ولكنَّ الدُّنيا أم !الدَّرْسُ الخامس :
الطغاة هم الطغاة على مرّ العصور
تتبدل الأسماء والأساليب، والعقليات واحدة !
فرعون يقتل ويصلب
قوم إبراهيم عليه السلام يلقونه في النار
أمية وأبو جهل يُعذّبان
هذا يأخذ مال مؤمن ... وذاك يسجنه
ثالث يعتدي على عرضه ...
رابع يهدم بيته ...
خامس يقتل أولاده ...
من غبائهم يسيرون في خطى بعض
ويلقون ذات المصير في كل عصر
ولا ينقرض الطغاة !من كتاب : مع النَّبِي