الهمسة الأولى: نقطة تحول.

275 30 194
                                    

...

هيا نخبكم جميعًا، نخب انتصارنا الساحق، ههههه.

تعالت قهقهات ذلك الرجل الهرم وشاركه بقية الحاضرين، ذلك العجوز الذي لم يربطه بمفردة عجوز سوى سنوات عمره التي تعدت الستين.

وأما عن مظهره فكان ذا شعر أبيض مجعد وكأنه كومة من الثلج كصاحبه وعيناه كانتا خضراوين تشعان ببريق الحياة والشباب المزيف، وتوهجًا آخر يتوارى خلف الكواليس بخبث.

فروحه لازالت شابة أكثر من غيره وإن تتابعت سنوات عمره، وتجاوزت منتصف القرن، لازال مفتول العضلات وبطول متوسط ينبأ عن آخر كان فارعًا خلال شبابه، والذي جاهد ليصمد طويلًا لكن تجاعيد وجهه كشفت الحقيقة المفاجئة.

عاود جلوسه على كرسيه الفاخر بخيلاء، والذي كان يترأس الطاولة التي امتلأت بشتى أنواع الشراب والمأكولات، التي لازالت ألسنة البخار تتراقص فوقها بخمول وتناغم.

كانوا عشرة أشخاص جالسين في قاعة قصر كبير يملكه ذلك البليونير الغامض، كانت الصالة واسعة ومترفة الأثاث والمتاع، جدرانها ملتحفة بالقماش السكري اللون المتداخل مع البني الغامق، والذي يوحي بهدوء وخمول ساكنها، وحتى الأثاث كان يصرخ بالفخامة والأناقة ببساطته وجودته في نفس الآن.

تخالطت الهمسات وتبادل الحضور الضحكات الخفيفة مع لقمات من المقبلات بينما عاد الأسد الهرم لهدوئه وبروده، يمسك بكأس الشراب عاليًا بين أنامله الرشيقة ويدوره بتركيز تام، متأملًا في الأمواج التي نشأت نتيجة حركة يده بسكوت ونظرات لامبالية.

قاطع هذه الأجواء دخول شاب مقنع ذا شعر أسود فاحم طويل مموج وعينان بنيتان داكنتان يقرب لونهما للأسود لدرجة أنك لن تميز بين عدسة العين وبؤبؤئها.

كان كل شيء فيه أسود، من الطقم الذي يلبسه وحتى قناعه المعدني إلا ما يحيط بعدسة عينيه من بياض لا ينسجم مع السواد القاتم، الذي يحيط بهالة هذا الشخص، وكذلك يديه، اللتان كانتا الوحيدتان الحرتان من أي شيء يغطيهما عن أعين العالم، واللتان الصفة الوحيدة لملامحه المبهمة وأنه حنطي البشرة.

اقترب صوب العجوز وهمس في أذنه ببعض الكلمات فتحولت ملامح الآخر جذريًا من اللامبالاة والبرود إلى الجدية التامة ونهض من مكانه واستأذن الحضور بعد أن أشار لبعض منهم بأن يتبعوه، فنهض خمسة منهم مذعنين لكلامه دون سؤال.

خرجوا من القاعة بينما لم يعطِ بقية الحضور أي أهمية لما جرى أمامهم وأكملوا أحاديثهم الجانبية في جو من المرح والفكاهة.

ولكن فجأة صدع صوت صراخ أنثوي شديد، قادم من
الطابق الأرضي السفلي للقصر، كانت نبرته عميقة، تتوغل في نغماته إحساس العذاب والألم، لتعزف على قلوب سامعيها سمفونية الوجل والرهبة.

همسات هلال حيث تعيش القصص. اكتشف الآن