الهمسة الثامنة: تهويدة بكلام الرب.

39 6 8
                                    

...

إنها تلك الفتاة الصغيرة ثانية، تلك المشردة التي دائمًا ما تجلس على الكرسي الذي وضعته خارجًا أمام متجري الصغير، لأقف عليه وصولًا لمقدمة الستار الحديدي للمتجر أو لأجلس عليه، وأتمتع بالطقس اللطيف إن كان.

كانت تبدو في العاشرة من عمرها، في عمر ابنتي الكبرى مِرسال، شعرها مجدل بطريقة فوضوية، وأشعث، ملابسها رديئة، توجد بها الكثير من الثقوب، ولا حذاء يكفن رجليها الحافية، المحمرة بشدة من البرد القارس، الطقس الإعتيادي هنا في كندا.

كانت تجلس ساكنة بلا حراك هناك، بدون تسول وطلب أي شيء من المارين أو المشترين من متجري، كأنها تمثال بشري موضوع هناك من قبلي أنا، وأحيانًا تغفو قليلًا بعد أن تتكور على نفسها كالقنفذ.

ومن شفقتي وحزني عليها، كنت أضع بعض الخبز أو الحلويات وغيره من الطعام في حضن الكرسي لتلتقطه الصغيرة عندما تأتي إلى هنا في موعدها المعتاد.

لم أشأ أن أخدش كبريائها بإعطائها الطعام مباشرة؛ فيبدو أنها متعففة وذات كرامة أصيلة، ولا تحبذ السؤال وإن كانت بحاجة للمساعدة كما الظاهر أصلًا.

وكما توقعت، كانت هي تقبل الطعام بابتسامة ممتنة، ترسل بها إشارة شكر عفوية، رسالة بسيطة تنقل عبر ملامحها الطفولية، التي رأيتها تتغير لأول مرة حينها بعد أن كانت جامدة ذابلة.

استمر الأمر على هذا الحال، حتى أتى رمضان بهلاله المضيء وبركاته المقدسة، واضطررت لفتح المتجر بعد صلاة الفجر، وإغلاقه بعد الظهر؛ لأن زوجتي
كانت في شهرها السابع من الحمل، وكان علي
مساندتها في أعمال المنزل وتحضير السحور والإفطار لعائلتنا الصغيرة.

ولكن من الطرف الآخر، كانت تلك المواقيت تتعاكس مع ميعاد الصغيرة التي كانت تأتي بعد المغرب، لازدهار سوق منطقتنا بالحياة الليلية أكثر من النهار، لكن مع تخلفي عن الموعد لم تعد تأتي، ولانشغالي الشديد؛ تناسيت أمرها بين كل تلك الجلبة.

حتى هبت نسائم العيد المبشرة بعد صيام عسير بين كل تلك المشاغل، خلد الجميع للنوم بعد يوم حافل بالسعادة والحبور رغم التعب الشديد الذي صاحبه، بعد أن تنقلت سناجبي الصغيرة من بيت لبيت لجمع العيدية، وكذلك اللعب في حديقة الحي مع رفقائهم، والتباهي بملابس العيد الزاهية، وحتى بعد أن ذهبوا إلى المدينة المجاورة معنا لزيارة الأقارب والأحباب.

غطيت صغاري المشاكسين جيدًا بالبطانية ليتدفأوا فقد تعرضوا لعصف الريح الباردة طول اليوم، حملت ذلك الكيسين المتوسطي الحجم، وانطلقت بخفية بين الظلام إلى متجري القابع في السوق المقفل مساءًا هذه الأيام من أجل إجازة العيد؛ فأغلب التجار هنا مسلمون مثلي.

همسات هلال حيث تعيش القصص. اكتشف الآن